عوامل نشوء الحركة القرمطية :
اعتبارا من منتصف القرن الثالث الهجري ابتدأت سحب الأزمات تتجمع في سماء الدولة العباسية بعد ان بدأت قبضة الدولة المركزية تضعف على اقاليم الدولة المترامية الأطراف مما ادى الى حدوث الإضطرابات والفتن فضلا عن ان توقف الفتوحات ادى الى انخفاض موارد خزينة الدولة وانعكس ذلك على اقتصاد منطقة سواد العراق بشكل خاص والتي كانت مركزا لإنطلاق الفتوحات بإتجاه الشرق وذلك بإنخفاض الأعطيات التي كانت تتلقاها القبائل المقاتلة مما ضاعف من القلاقل التي تقوم بها هذه القبائل وانتشار عمليات السلب والنهب . كما زادت جمهرة الولاة والجباة من استغلال العوام عن طريق فرض الضرائب التي ترهق كاهلهم.
كل ذلك دفع فلاحي العراق الى الإنخراط بالحركات الثورية المناهضة للسلطة المستبدة التي لا تحكم بالقانون او الشرع . كما شكل البذرة الأولى لمحاولة تحطيم الدولة المركزية وبناء دولة اخرى تسود فيها قوانين العدل والمساواة .
واذا كانت الفتوحات تغطي في السابق على مظاهر التفكك في الدولة الكبرى الواسعة الأرجاء والتي تمتد من الصين شرقا وحتى المحيط الأطلسي غربا فإن توقف هذه الفتوحات ادى الى بروز تلك المظاهر . بل ان تلك الظواهر لم تقتصر على العراق الذي هو قاعدة الدولة الكبرى بل انها ظهرت في الأقاليم بشكل اكثر بروزا من اقصى المغرب حتى اقصى المشرق . فظهرت الإمارة الأموية في اسبانيا وظهرت امارة الأدارسة في المراكش وامارة الأغالبة في تونس والأمارة الطولونية في مصر وغيرها ، وكذلك في المشرق ظهرت الحركة البابكية في اذربيجان وايران وحركة الخوارج وغيرها .
وكان مما زاد ضعف الدولة زيادة الصراعات بين العرب والأتراك والفرس ثم زيادة نفوذ الأتراك في عاصمة الدولة بغداد على حساب العرب والفرس حيث اخذ الخدم والجنود الأتراك في قصر الخلافة يغيرون الخلفاء وفقا لمشيئتهم بل ويقتلونهم ويستبدلونهم بأخرين من بني العباس مما جعل خيبة امل الناس تصل مداها في الخلافة والخلفاء بل وفي كل الدولة .
فقد عبر الشعر العربي عن تلك المرحلة بقصائد كثيرة تمثل الوضع السياسي اصدق تمثيل ومنها قول احد الشعراء :
خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما يقول الببغا
او قول شاعر اخر :
خليفة مات لم يأسف له احد وقام اخر لم يفرح به احد
فمر ذاك ومر الشؤم يتبعه وقام هذا فقام النحس والنكد
في الفكر الفلسفي القرمطي :
يصعب الفصل عند قراءة الفكر القرمطي بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو فلسفي . فكثيرا ما تتداخل هذه الموضوعات مع بعضها بما يجعل الباحث يضطر عندما يتطرق الى احدها ان يشير الى الأخر . وبرغم ذلك فإننا سنحاول تحديد ما هية الفكر الفلسفي القرمطي الذي يتداخل مع الفكر السياسي الذي هو فكر الدعوة القرمطية كما يتداخل مع الفكر الديني القرمطي .
لقد كانت الحركة القرمطية تعتمد على المقولات الدينية ولاسيما القرأنية في كثير من افكارها ومن الخطأ التصور بأن الدعوة القرمطية كانت تعمل بعيدا عن تأثير الفكر الإسلامي برغم ما في افكارها من جموح وغرابة وشوائب او تأثر بمعتقدات غريبة عن الإسلام لذلك فإن البعض كان يعتبر القرامطة ( فرقة من الزنادقة الملاحدة اتباع الفلاسفة من الفرس الذين كانوا يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك )1 .
كما قيل عن عبدان صهر ( حمدان قرمط ) مؤسس الحركة القرمطية الذي اخذت الحركة اسمها من اسمه، بانه فيلسوف هذه الحركة برغم انه ليس له اي كتاب بالفلسفة ولا بالفكر بشكل عام ولكنه كان يتمتع بالحنكة والدهاء الذين برزا من خلال جهاز التنظيم المحكم الذي اشرف عليه والذي تولى الدعوة الى القرمطية .
ولا نستبعد ان تكون ضمن الحركة القرمطية تيارات او حسب المصطلح العصري اجنحة فكرية تتراوح بين الإيمان المطلق والإلحاد المطلق ولاسيما في حركة تعتمد على الدعوة الشفاهية مع عدم وجود اي وثيقة مركزية او كتاب عقائدي يجمع عليه اتباع الحركة .
ولكن بشكل عام يمكن القول ان الحركة القرمطية هي من الحركات الباطنية التي لا تأخذ بالتفسير الظاهري للقرأن كما هو حال الكثير من الفرق انذاك بل تأخذ بالتفسير الباطني وعن طريق ذلك تجتهد وتروج افكارها . ويؤيد هذا الرأي ابن الجوزي 2 الذي يرى ان الحركة القرمطية هي دعوة ظاهرها الإيمان وباطنها الكفر والإلحاد .
( يتبع الجزء الثالث والرابع )
الهوامش :
1- ابن كثير ، البداية والنهاية، مصر، ج 11 ص61
2- ابن الجوزي ، القرامطة ، ص 51
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق