خصوصيات و تحولات المجال الريفي
في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري
نقصد ببلاد المغرب الأقاليم الممتدة من "حدود" مصر إلى سواحل المحيط الأطلسي، وتشمل تاريخيا برقة و اطرابلس و إفريقية و المغرب الأوسط و المغرب الأقصى.
و باستثناء إقليمي برقة و اطرابلس الذين يرتبطان أكثر من وجهة نظر جغرافية وإثنولوجية، بمصر1 و بالمشرق العربي الإسلامي بوجه عام، فإن الأقاليم التي تشكل اليوم تونس والجزائر و المغرب كانت منذ أقدم العصور تكون وجدة مجالية و تشترك في كثير من الخصائص الأيكولوجية، و الانتروبو- جغرافية.
فهي تتشابه من حيث البنية و التضاريس؛ تخترقها نفس السلاسل الجبلية. واحدة في الشمال و الثانية في الجنوب، و بينهما تنحصر مجموعة هضاب. و على امتداد ساحل البحر المتوسط شمالا و ساحل المحيط الأطلسي غربا تمتد مجموعة سهول شريطية، هي ضيقة أكثر في الشمال عما هي عليه في الغرب (في المغرب الأقصى على الواجهة الأطلسية). وتدعمها أراضي سهلية أخرى في الداخل و حول الأودية و الأنهار.
و بالمثل، فهي تتشابه أيضا من حيث الانتماءات الإثنية لساكنتها، و من حيث مراحل تعميرهم لمختلف الأقاليم، أو من حيث كون هاته الساكنة تتوزع بشريا على مجموعة قبائل وتتوزع مجاليا إلى بدو2 و الحضر.
و إذا كانت الأرياف قد مثلت الإطار الرئيسي الذي تفاعلت فيه الأحداث التي شهدتها أقاليم أوروبا المتوسطية خلال العصر الوسط، فإن مجال تفاعل الأحداث أقاليم بلاد المغرب و الأندلس توزعته الأرياف و الحواضر على السواء.
فقد كانت حواضر المنطقة منذ الفتح الإسلامي مراكز استقرار و إقامة بالنسبة لأفراد الذين كانوا يمثلون السلطة المركزية أو يشخصونها من ولاة أو عمال أو أمراء أو سلاطين. كما أنها كانت على اختلاف أدوارها و أهميتها مراكز تجارية و أيضا مراكز إشعاع فكري وثقافي.
و قد تبلور دورها أكثر بعد قيام الدول المستقلة بهذه المنطقة، و بذلك أضحت الأحداث والتطورات التي شهدتها سياسية كانت أو عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية و دينية تتشكل و تتفاعل في الحواضر كاطرابلس و القيروان و المهدية و قابس وبجاية و القلعة و تلمسان و تهارت و فاس و سجلماسة و مكناسة.
و هذا الأمر يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الحديث عن خصوصيات المجال الريفي في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري يستدعي استحضار دور الحواضر إلى جانب البوادي طبعا.
و يمكن أن نستشهد في هذا الشأن بمدينة فاس للقول بأن الوسط الطبيعي الذي نشأت به هو الذي حسم إلى حد كبير في أمر تشييدها.3 و عقب تهيئته من قبل أفراد المجتمع فإنه هو الذي أعطاها بعد التشييد تلك الأهمية و ذلك الدور الذي أخذت تضطلع به كمركز لممارسة السلطة وكنقطة إشعاع و استقطاب؛ الأمر الذي من أجله دفعت الثمن باهضا. ويكفي أن نشير إلى الصراع الذي دار حولها خلال القرن الخامس الهجري بين صنهاجيي إفريقية و الزناتيين المقيمين بها تحت إمرة زيري بن عطية و خلفه أو بين هؤلاء و أمويي الأندلس4.
كما أن فاس كمركز حضري و قطب ذي إشعاع هي التي أضفت على المجال المحيط بها (أي الأرياف) أهمية قصوى و جعلته مجالا "حيويا" مغريا يثير الأطماع.
و ما أتينا على ذكره بخصوص مدينة فاس لا ينطبق عليها أو على مدن أخرى لكونها كانت عواصم كيانات سياسية، و إنما ينطبق أيضا على بعض المدن الأخرى التي لم تصبح عواصم سياسية إلا في مراحل متأخرة من تاريخ المغرب.
و يكفي أن نسوق كمثال على ذلك مدينة مكناسة التي اكتست أهمية بالغة قبل أن تصبح عاصمة دولة المولى إسماعيل بفضل فحصها الخصب الكثير الموارد الفلاحية. و يكفي أنها استمدت إسمها من اسم أهم منتوج زراعي كان يقدمه هذا الفحص: الزيتون. كما أن هذا الفحص اكتسى أهمية قصوى بفعل وجود مكناسة كمركز حضري عمل على تنشيط إنتاجه وترويج منتوجاته5.
و بالتالي، فإن مكناسة و فحصها، وأي مركز حضري آخر و ظهيره نعتبرهما وحدة مجالية. و ما نذهب إليه يجد دعامته في معظم كتب الجغرافية و الرحلات و بعض الحوليات التاريخية أيضا. إذ حين يتحدث مؤلفوها عن إحدى مدن بلاد المغرب أو الأندلس يردفون حديثهم بحديث عن ظهرها، بما يترك الانطباع بوجود نوع من التكامل و الارتباط بين الطرفين.
و قد انعكست هذه الثنائية على طبيعية المجال الزراعي الذي مثل الفضاء الذي احتضن أبرز نشاط اقتصادي في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري. فقد كان بدوره مجالا زراعيا "مخضرما" ريفيا – حضريا. كما أن المجتمع الذي كان يمارس ذلك النشاط الاقتصادي جمع بين خاصيات البداوة و التحضر.
فالاستغلاليات المستثمرة كانت تتوزع بين جنات و بساتين و حقول و عرصات وضياع و مجاشر. بعضها كان يقع داخل أسوار كل مدينة كالجنات أو العرصات، و بعضها كان يقع في الأرياف طبعا6.
أما الفئات التي كانت تستثمرها فقد توزعت هي الأخرى بين فلاحين صغار يملكون استغلاليات داخل محيط المدينة أو خارجها، و مزارعين لا يملكون سوى مجهودهم العضلي يعملون عند مالكين آخرين، و مالكين متوسطين أو كبار. كثير منهم كانوا يقيمون في المدن ويملكون استغلاليات في الأرياف يستثمرها لحسابهم مزارعون مقابل كميات من الإنتاج تحددها عقود تعرف بعقود المزارعة أو المغارسة (تبعا لنوعية العمل الذي قد يكون زراعة كميات من الحبوب أو غراسة أنواع من الأشجار المستثمرة).7
1- خصائص المجال الزراعي و الزراعة في بلاد المغرب حتى بداية غزوات القبائل العربية.
مثل النشاط الزراعي، كما سبق القول، كنه الحياة الاقتصادية قي بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري. وقد كان المنتجون المباشرون المرتبطون بهذه الزراعة يعملون على تفعيل المجال الزراعي عن طريق الاستثمار.
و يفترض أن يستجيب المجال لهذا الجهد، غير أن هذه الاستجابة عادة ما تكون مقترنة بمعطيات كميائية و بيولوجية و مناخية ذات صلة بطبيعة المجال، و تمثل في نفس الوقت إحدى خاصيات هذا المجال8 .
و تبعا لطبيعة الوحدات التضاريسية التي أشرنا إليها، فقد قامت الزراعة في بلاد المغرب في الأراضي السهلية وفي الهضاب و على سفوح المنحدرات الجبلية و على ضفاف الأودية و الأنهار و حول نقط الماء في المناطق الصحراوية.
و مما لا شك فيه أن قوى الطبيعة قد مارست تأثيرا فعالا على العمل الزراعي. وتفيد بعض المصنفات في هذا الشأن أن حواضر وأرياف بلاد المغرب شهدت كوارث طبيعية خلال القرن الخامس الهجري. تمثلت في سلسلة من الزلازل و منها "(...) الزلزلة العظيمة التي لم ير الناس بالمغرب مثلها. هدت البنيان و مات فيها خلق كثير تحت الردم ووقعت الصوامع و المنارات. و لم تزل الزلزلة تتعاقب و تتكرر في كل يوم و ليلة من أول يوم من ربيع الآخر إلآخر من جمادى الآخر من السنة المذكورة (أي سنة 472 هـ)9 . و تكررت نفس الآفة سنة 504 هـ حيث "كان بالمغرب زلازل عظيمة دامت، شهر شوال كله"10.
يضاف إلى ذلك موجة من الأوبئة و الطواعين لم تحدد النصوص طبيعتها. و منها "وباء وطاعون" شهدته إفريقية و هي على مشارف القرن الخامس الهجري. و بالتحديد سنة 395 هـ "(...) هلك فيه أكثر الناس من غني و محتاج (...) و كان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم (بالقيروان) فتحفر لهم أخاديد و يدفن المائة و الأكثر في الأخدود الواحد (...) وهاجر خلق من أهل الحاضرة و البادية إلى جزيرة صقلية ..."11. و بعده "وباء عظيم" سنة 469 هـ، "مات فيه خلق كثير"12.
و إذا كانت هذه الكوارث قد خلفت آثارا بالغة على الوضعية الديموغرافية في الأقاليم التي نحن بصدد الحديث عنها، و على اقتصادياتها و مجتمعها، فتبقى مع ذلك آثارا محدودة في المكان والزمان، على اعتبار أننا نعتبرها من العناصر المتغيرة التي باستطاعة المجتمع تجاوزها رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه بمناسبتها.
غير أنه ثمة عناصر ثابتة. لاشك أن آثارها كانت بالغة. لأن مفعولها يحدث في المدى القريب و يظل ساريا على المدى المتوسط و البعيد. و أهم ما نعنيه بهذه العناصر الثابتة الظروف المناخية التي كانت في اعتقادنا أبرز عنصر معرقل للعمل الزراعي، مصداقنا في ذلك ما تعانيه أقطار المغرب العربي حاليا من كساد في أنشطتها الاقتصادية و تردي لأوضاعها الاجتماعية في زمن تطورت فيه وسائل و تقنيات الري و حفظ المياه و تدبيرها، إلى جانب تطور وسائل الرصد الجوي التي يمكن على ضوء المعلومات التي تقدمها الاستعداد لمختلف الاحتمالات فضلا عن كون النشاط الزراعي لا يمثل المورد الوحيد لخزائن دول المنطقة أو لمجتمعاتها.
فأقاليم الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط تنتمي عموما إلى مجال خاضع للمؤثرات الصحراوية حيث درجات الحرارة مرتفعة و التساقطات قليلة. إذ أن هذه المؤثرات لا تسمح بأن تنتقل إليه الرياح الرطبة المحملة بالأمطار. و على العكس من ذلك تسمح بأن تنتقل إليه الرياح الجافة التي تعمل على تسخين الجو. و ربما تؤدي إلا اندلاع الحرائق عند هبوب الرياح الجافة الحارة.
و قد حدث ذلك سنة 305 هـ حسب خبر أورده ابن أبي زرع يروي فيه أنه " في سنة خمس و ثلاثمائة أحرقت النار أسواق مدينة تاهرت قاعدة زناتة، و أحرقت أسوار مدينة فاس. وأحرقت أرباض مدينة بياسة من بلاد جوف الأندلس. و أحرقت أسوار قرطبة، و ذلك في شهر شوال من سنة خمس و ثلاثمائة المذكورة (مارس– أبريل 918م). فسميت سنة النار13
كما تعمل الرياح على إثارة زوابع من الأتربة و الغبار. و تعمل على تحرك الكثبان الرملية وزحف الرمال واتساع نطاق التصحر الذي يحدث أحيانا على حساب مناطق أو أراضي مستثمرة.
ولا شك أن بعض مناطق بلاد المغرب كانت تعرف هذه الظاهرة خلال القرن الخامس الهجري، مع أن المصنفات التي اطلعنا عليها لم تمدنا بإشارات عنها تهم الفترة المذكورة. و لكن أبا محمد عبد الله التيجاني الذي قام برحلة شملت إفريقية و اطرابلس بين سنتي 706 هـ و 708 هـ تنبه إليها و هو يحدثنا عن قرية إنزور الواقعة على مشارف اطرابلس . إذ يذكر أنها " (...) كثيرة القصور و قد استولى الرمل على أكثرها، و هم الآن [ أي سكان القرية ] يتوقعون استيلاءه على باقيها"14. مع أن الأمر يتعلق بقرية تتوفر فيها بعض وسائل منع التصحر. ففيها مرافق سكنية و مجاري مائية و غطاء نباتي مهم. و سكانها يعتنون بأنواع عدة من الأشجار المثمرة. إذ هي حسب التيجاني : "(...) غابة متسعة الأقطار ملتفة الأشجار و بها مياه عذبة و أكثر شجرها الزيتون (...) و بها و مع ذلك نخل كثير (...) و بها أيضا شجر التفاح و الرمان والعنب و التين كثير..."15.
و من الخاصيات التي تميز المناخ السائد في بلاد المغرب هو أن التساقطات فضلا عن قلتها بوجه عام، فهي متفاوتة من حيث الكمية بين منطقة و أخرى، إذ هي مرتفعة نسبيا في الأقاليم المحاذية للمحيط الأطلسي. و هي أقل نسبيا في الشريط الساحلي للبحر المتوسط. ثم تقل أكثر في الأقاليم الداخلية. و تنعدم أو تكاد في. الأقاليم الشبه صحراوية و الصحراوية.
و في الأقاليم التي تتميز بكونها تتلقى كميات لا باس بها أو جيدة من التساقطات المطرية، فإن هذه الأخيرة غير منتظمة من سنة لأخرى و من فصل لآخر خلال السنة الواحدة. كما أنها تسقط بغزارة على شكل سيول تعمل على انجراف التربة في المنحدرات أو تؤدي إلى حدوث فيضانات. و قد تقع مثل هذه الفيضانات أحيانا في مناطق تتلقى كميات قليلة جدا من الأمطار خلال المواسم العادية، كما حدث مثلا في سجلماسة سنة 381 هـ .حيث تساقطت كميات كبيرة من الأمطار أدت إلى فيضانات واديها. "فتعجب الناس" لأنهم لم يعهدوا مثل تلك الظاهرة في هذه المنطقة16.
و إذ لم تقدم لنا ا لمصادر التي اطلعنا عليها أية إشارات عن حدوث هذه الظاهرة خلال القرن الخامس الهجري، فإنها على العكس من ذلك حافلة بأخبار تتعلق بالمجاعات و القحط. ويكفي أن نشير إلى "البيان المغرب" و "نهاية الأرب" و "الأنيس المطرب" التي تتضمن جردا لسنوات الجماعات و القحط و الشدة التي شهدتها إفريقية أو المغرب الأقصى أو هما معا17. وهي لكثرتها تبدو و كأنها كانت " تتناوب " مع سنوات "الخصب.
و لاشك أن تأثيرها كان قويا على الحياة الاقتصادية بوجه عام و على الزراعة بوجه خاص؛ لأن هذه الأخيرة كانت "توكيلية" على حد تعبير أحد الباحثين و هو يتحدث عن النشاط الزراعي الذي كان يمارسه المجتمع المصمودي خلال القرنين الخامس و السادس الهجريين. و نحن نقول بأنها كانت كذلك في جميع مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط خلال القرن الخامس الهجري. و لازالت كذلك لحد الآن.
فالزراعة الممارسة في هذه المناطق كانت زراعة معاشية، تقوم على الحبوب كالحنطة والقمح و الشعير. و على القطاني كالحمص و اللوبيا، فضلا عن أصناف من الخضروات و البقول كالبصل و الجزر مثلا. إلى جانب أنواع من الأشجار المثمرة و أمهما الزيتون و التمور و التين و التفاح.
و في بعض المناطق المحدودة كانت تمارس زراعة متخصصة ارتبطت أساسا بالمبادلات التجارية. و نعني هنا زراعة قصب السكر التي حضيت بعناية هامة في بلاد السوس الأقصى. وقد أقيمت لاستخلاص مادة السكر العديد من المعاصر التي كانت تصدر كميات من إنتاجها إلى باقي أقاليم المغرب الأقصى و إلى افريقية و الأندلس19.
و كان يتم إنتاج معظم المزروعات و المغروسات المشار إليها في قطع أرض من نوع أراضي البور التي تنتظر ما تجود به السماء؛ بل إن قطع الأرض المسقية كانت بدورها تعرف نفس الوضعية لأنها تسقى بمياه الأنهار و الأودية أو الآبار أو العيون التي تتحكم في تزويدها و في منسوب مياهها التساقطات المطرية.
و فضلا عن ذلك فإن الري استند إلى جهود فلاحين، و بالتالي كان معتمدا على نطاق محدود. و قد استعملت لهذا الغرض السواقي و الجداول المتفرعة عن الأودية و الأنهار، إلى جانب القنوات و تقنيات أخرى مثل الدواليب التي كانت تستعمل في المهدية( بإفريقية) لرفع المياه من الآبار لتجري في القنوات20.
و يتضح من المصنفات التاريخية و كتب الجغرافية و الرحلات أن السلطات القائمة في بلاد مغرب القرن الخامس الهجري لم تول لقضايا المياه أي عناية تذكر. فمنذ المشروع الذي أنجزه عبيد الله المهدي، الذي بنى مدينة المهدية و جلب إليها المياه عبر قنوات من قرية منانش لمجاورة22،لم نسمع عن أي " مشروع مائي" في بلاد المغرب؛ و إن كان المشروع المشار إليه يهم تزويد المدينة بالماء الشروب بوجه خاص، و لم يكن موجها للري فيما يبدو. لذلك كان يجب أن ننتظر فترة طويلة جدا لنسمع عن مشروع مماثل قام به يوسف بن تاشفين بمناسبة تشييد حاضرة مملكته مدينة مراكش23.
و في ظل الاعتماد على مصادر المياه الطبيعية، فقد كان من الطبيعي جدا أن ينتكس الإنتاج الزراعي و معه النشاط الاقتصادي بوجه عام، عند كل اختلال (خلال المواسم التي تقل أو تنعدم فيها التساقطات). و حتى في مواسم التساقطات العادية، فقد ظلت العوائق منتصبة أمام المرتبطين بالمياه من فلاحين و مزارعين و أرباب الأرحي و عموم المستهلكين.
و قد نقلت لنا كتب الفتاوى الفقهية و كتب الجغرافيا بعض أصداء تلك العوائق و الآثار السلبية التي ترتبت عنها كالنزاعات و الخصومات. و نكفي أن نشير في هذا الصدد إلى ما يتضمنه مصنف القاضي عياض و ولده محمد24، لنقف على نماذج منها، و إن كانت تهم المغرب الأقصى فقط.
و يستشف من تلك النماذج أن النزاعات لم تكن تحدث دائما خلال مواسم ندرة المياه و تراجع جريان السواقي و الجداول. و لكن كثيرا منها كان يحدث خلال مواسم الجريان العادية. مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الندرة ربما كانت دائمة خلال القرن الخامس الهجري. و إن تخللت هذا الحيز الزمني مواسم بدت فيها التساقطات عادية (سنوات الخصب التي يشير إليها ابن عذاري). ومعنى ذلك أن صبيب المجاري المائية كان ضعيفا. و إلا كيف يمكن تفسير ظاهرة انحباس (انقطاع) الماء عن جنان أو مجموعة أجنة بفعل استخدام رحى واحدة. أو انقطاع جريان نهر عن مدينة بأكملها و حرمان سكانها من المياه طيلة ثلاثة أيام كل أسبوع من جراء تحويل مجراه لسقي بعض البساتين و الحقول خارج المدينة25.
ولا شك أن ظاهرة ندرة المياه التي نحن بصدد الحديث عنها هي التي تفسر إلى حد كبير عملية التحرك المستمر التي كانت تقوم بها بطون عريضة من قبائل زناتة منذ وقت سابق على القرن الخامس الهجري؛ في مجال شاسع جدا شمل صحراء تونس وأقاليم عدة من المغرب الأوسط وعدة مراكز في المغرب الأقصى كملوية و سجلماسة26، وفاس التي كانت قاعدة إمارتها منذ قيامها على يد زيري بن عطية.
و رغم شساعته، فيبدو أن هذا المجال لم يكن كافيا لتلبية حاجياتها لأن أجزاء منه جافة وأخرى شبه جافة، لذلك لم تكن تتوانى في العمل على توسيعه أكثر في اتجاه الأقاليم الغربية لإفريقية كما يفهم من قول النويري الذي يذكر أن "(...) زناتة قد استطالت على أهل الناحية (يقصد صنهاجة) من أيام بني الأغلب، ثم تزايد ضررهم في أيام المهدي و القائم"27. مما اضطر زيري ابن مناد إلى بناء (أو إعادة بناء) مدينة أشير سنة 324 هـ لاجتناب شرهم.
و من خلال تحركاتهم الدائبة، إن شرقا أو غربا، فإن قبائل زناتة فوتت الفرصة على القبائل التي كانت أكثر ميلا إلى الاستقرار و زراعة الأرض. بدليل أن النويري يعود فيخبرنا بأن "(...) أهل البادية اطمأنت نفوسهم للحرث والزراعة و صانهم زيري مما كان ينالهم من زناتة ..." 28 بعد .بناء مدينة أشير. و إن كان ذلك الاطمئنان إلى حين. إذ استمرت العداوة بين ضنهاجة وزناتة. و تواصلت الحروب بينهما خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري و النصف الأول من القرن الموالي. و هي حروب شديدة الضراوة أدت في نهاية المطاف - أي قبل أن يصبحا معا هدفا لغزو عرب بني هلال ابتداء من سنة 442 هـ- إلى "إبادة" زناتة " و إزالتها من الوجود" على الأقل في برقة. إذ حين دخلها عرب بني هلال "(...) وجدوا بلادا خالية طيبة كثيرة المرعى كانت عمارتها زناتة فأبادهم المعز (المقصود أبو تميم المعز بن باديس)"29.
و إذا كانت تلك الحروب قد أزاحت من بعض المواطن القبائل، التي يعتبرها بعض الباحثين قبائل "رحل"30، فإنها أنهكت قبائل المستقرين المزارعين، و نعني بهم صنهاجة. على اعتبار أن أبا تميم المعز ابن أبي مناد اضطر إزاء "تكاسل" صنهاجة – حسب تعبير النويري – عن قتال زناتة أن يشتري سنة 446 هـ ثلاثين ألف شخص من العبيد31 للاعتماد عليهم في حروبه المستقبلية.
و مهما يكن من أمر فإن سلسلة الحروب الدائرة في الجبهة الإفريقية بين صنهاجة و زناتة، و الحروب الدائرة في الجبهة المغربية بين زناتة و صنهاجة أيضا و بين قبائل زناتة فيما بينها (بين مغراوة و بني يفرن) و بين زناتة و برغواطة32 ، أدت إلى إبادة البعض و إنهاك البعض الآخر. كما أنها أدت إلى خراب العمران. و تدمير المنشآت و إتلاف المحاصيل و الغلات، و بالتالي ساهمت في تردي الأوضاع الاقتصادية بوجه عام. و يكفي أن نشير في هذا الصدد بأن ثلاث أعوام من الحروب و الصــــراع (453 هـ و 454 هـ و 455 هـ) بين عجيسة و فتوح إبني الأمير دوناس بن حمامة كانت كافية لخلق أزمة حقيقية بالمغرب الأقصى. حيث كثر الخوف في أيامهما و غلت الأسعار و اشتدت المجاعة و عظم الهرج و قويت الفتن في جميع نواحي المغرب و ظهرت لمتونة على أطراف البلاد فملكوها"33. مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الاقتصاد السائد، ليس في المغرب الأقصى وحده و إنما في بلاد المغرب ككل، و منذ فترات سابقة على القرن الخامس الهجري، كان هشا و يستند على موارد تبدو محدودة. و هذا ما دفع بعض الدارسين إلى التأكيد بأن ضعف موارد بلاد المغرب شكل عاملا من بين العوامل التي دفعت الفاطميين منذ عهد عبيد الله المهدي، إلى التخلي عن هذه المنطقة و التفكير جديا في السيطرة على مصر و الأندلس لغنى مواردهما34.
2- عمليات الغزو و تحولات المجال الريفي
... وستشرع القبائل العربية ابتداء من سنة 442 هـ في القيام بزحفها الشهير لتأتي على البقية الباقية. و من هذا المنطلق، فإننا نعتقد بأن ذلك الزحف يمثل منعطفا في التاريخ الاقتصادي لحواضر و بوادي بلاد المغرب بوجه عام، و أقاليمها الشرقية بوجه خاص، كما أنه يمثل النقيض تماما لظاهرة عملية الاستصلاح الكبرى التي شهدتها البوادي الأورو -متوسطية ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر؛ و التي مثلت منعطفا في تاريخها الاقتصادي.
فقد كانت عمليات الاستصلاح عبارة عن غزو قام به مجتمع تلك الأرياف للغابة. حيث تم اجتثاث الأشجار و كذلك الإنسان (في إسبانيا الإسلامية) لتوسيع المساحات الصالحة للزراعة، مما أدى إلى الزيادة في الإنتاج.
أما عمليات زحف القبائل العربية فكانت عبارة عن غزو قام بع أفراد مجتمع ضد أفراد آخرين (إخوان لهم في الدين). حيث تم اجتثاث الأشجار و كذلك الإنسان مما أدى إلى تقليص المساحات الصالحة للزراعة و تراجع الإنتاج.
و من ثم، فإن عمليات زحف عرب بني هلال و بني سليم، مثلها مثل عمليات الاستصلاح التي قام بها فلاحو غرب أوربا، نعتبرها بحق إحدى أبرز معالم تاريخ مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط نظرا لحجمها و لما ترتب عنها من نتائج بالغة الأهمية.
فما هي حيثيات تلك العمليات و ماذا يمكن أن يقال عن مظاهر التراجع الذي ترتب عنها؟ ذلك ما سنحاول توضيحه بإيجاز.
بعد السيطرة على مصر، أصبحت معظم حواضر و بوادي مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط تدخل ضمن دائرة نفوذ الفاطميين. و قبل انتقالهم إلى مصر كانوا قد استغلوا موارد بلاد المغرب و لفترات طويلة، في بناء دولتهم و تحقيق طموحاتهم. و حين لم يعد يطيب لهم مقام بها قرروا مغادرتها و الرحيل إلى مصر بعد أن استنزفوا مواردها36. و التي اتضح لهم بعد ذلك أنها غير كافية لتحقيق مشروعهم السياسي الطموح.
و لتأمين ظهرهم سمحوا لصنهاجة بني زيري بنوع من الاستقلال ا لذاتي في إفريقية كما استعملوهم "كحرس" لمراقبة تحركات قبائل المنطقة، و خاصة قبائل زناتة36. و لا سيما بعد أن اتضح إخلاص صنهاجة بني زيري و أبانوا عن قوة كبيرة في إخماد انتفاضات سكان المنطقة كالانتفاضة التي تزعمها أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني.
و حين "اينعت رؤوس" أمراء بني زيري و شرعوا في الاستقلال الفعلي عن الفاطميين، قرر هؤلاء " قطافها" ، و ذلك بأن أطلقوا سراح قبائل بني هلال و بني سليم من "معاقلها" لتنوب عنهم فيما يجب القيام به عندما لا تحترم "فروض الطاعة و الولاء".
و قد كان هؤلاء قبيل الشروع في زحفهم على برقة و إفريقية، مقيمين بمصر في الأقاليم الواقعة شرق النيل. فأجاز لهم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عبور النيل للانتقال إلى إفريقية. و بهذا الإجراء فهو عمل أيضا على تأمين دولته من خطر محتمل كان يمكن أن يأتيها من جانب هذه القبائل، لأنها عناصر (هدامة عاشت في صعيد مصر فسادا"37.
فتحركت تلك القبائل فعلا نحو برقة التي استقرت بها بعض بطون قبائل بني سليم. فيما واصلت بطون أخرى إلى جانب جموع بني هلال زحفها نحو اطرابلس، و منها إلى إفريقية حيث بدأت حلقات المسلسل الذي يلخصه النويري بروعة بقوله : "(...) شنوا الغارات على البلاد وقطعوا على الرفاق و أفسدوا الزروع و قطعوا الأشجار و حاصروا المدن فضاق الناس وساءت أحوالهم و انقطعت أسفارهم و حل بإفريقية من البلاء ما لم ينزل بها مثله قط"38.
و يزكي ابن خلدون بدوره ما ذهب إليه النويري. إذ يذكر أن قبائل بني هلال و بني سليم "(...) سارت كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه"39. ثم يعود في موضع آخر ليؤكد أن العرب "تقدموا إلى البلاد و أفسدوا السابلة و القرى (...) و طال عيثهم في البلد و إضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية"40.
و على غرار المؤرخين القدامى، لم يتردد الهادي روجي إدريس في نعت هذا الغزو بأنه "كارثة"41 أفضت إلى تراجع الزراعات لفائدة المراعي، و أذكت ظاهرة تصحر عدد كبير من المناطق التي كانت مزدهرة قبيل الغزو. بل الأكثر من ذلك أنها " أدت إلى قلب جغرافيا شرق المغرب البشرية رأسا على عقب" 42.
ونحن بدورنا تؤكد حقيقة الحكم الذي ذهب إليه القدامى والمحدثون انطلاقا من النتائج التي ترتبت عن حدث مماثل تعرضت لـــه الولايات الغربية التابعة للإمبراطورية الرومانية خلال القرن الخامس للميلاد حين غزتها القبائل الجرمانية.
فقد ترتبت عن ذلك الغزو نتائج بالغة الأهمية يمكن أن نلخصها في جملة واحدة : لقد أدى إلى إحداث نقلة على مستوى البنيات الاقتصادية و الاجتماعية في غرب أوروبا؛ و سارع بالاتجاه الذي كانت قد أخذته نحو "الأريفة" (la ruralisation) منذ أزمة القرن الثالث للميلاد43.
و للوقوف عن كثب على النتائج التي أل إليها غزو القبائل العربية، سنحاول عقد مقارنة بسيطة بين الصورة التي ينقلها البكري عن أرياف و حواضر مناطق شرق بلاد المغرب خلال النصف الأول من القرن الخامس ( و إن كانت صورة تنطبق أكثر على القرن الرابع لأن البكري نقل معالمها عن ابن حوقل). و الصورة التي يقدمها لنا عنها كل من الإدريسي و التيجاني بعد الغزو. و سنحاول رسم معالم الصورتان من خلال عملية تركيب (montage) و انطلاقا من بعض النماذج.
إن برقة المحطة الأولى التي دخلها العرب سنة 442هـ" (...) هي أول منبر ينزله القادم من بلاد مصر إلى القيروان.."44. و هي مدينة متوسطة تقع في بقعة فسيحة و بها بساتين عدة. كانت قبل الغزو "(...) دائمة الرخاء كثيرة (...). و كانت كثيرة الثمار من الجوز و الأترج و السفر جل وأصناف الفواكه ..." . و "(...) كان لها من الغلات في سالف الزمان القطن المنسوب إليها الذي لا يجانبه صنف من أصناف القطن ..." 46، "(...) على أنها في هذا الوقت (أي عصر الإدريسي) عامرها قليل وأسواقها كاسدة، وكانت فيما سلف على غير هذه الصفة..."47.
أما مدينة اطرابلس التي انتقل إليها عرب بني هلال بعد برقة، فقد كانت قبل هذا الحادث "(...) كثيرة الثمار والخيرات ..."48. و إن لم يكن "(...) البلد بلد احثرات..."49. بالرغم من وجود فحص بظاهرة المدينة، يعرف بفحص سويجين (أو سوفجين) كانت تتم زراعته. غير أنه لم يكن منتظم الإنتاج بين موسم و آخر. فهو يعطي محصولا جيدا خلال سنة ثم يتراجع إنتاجه لعدة سنين50. و من ثم فإن أهالي اطرابلس و باديتها كانوا يعوضون هذا النقص باستثمار عدة"(...) بساتين جليلة في شرقيها"51. و هي بساتين "(...) كثيرة شجر الزيتون و التين. و بها فواكه جمة و نخيل، إلا أن العرب أضرت بها و بما حولها من ذلك. و أجلت أهلها و أقفرت بواديها و غيرت أحوالها و أبادت أشجارها و أغورت مياهها.."52
و كما أتلف العرب بساتين و غلات اطرابلس و أريافها، فقد دمروا منشآتها العمرانية كالمساجد؛ و أشهرها مسجد الشعاب الذي يذكر التيجاني، عند زيارته لاطرابلس أنه خال لا عمارة به53. و امتدت أيديهم بالتخريب لقصبة المدينة؛ و التي يقدم لنا أيضا شهادة عنها بقوله :"(...) ورأيت أثار الضخامة بادية على هذه القصبة، غير أن الخراب قد تمكن منها، وقد باع الولاة أكثرها فما حولها من الدور التي تكتنفها الآن إنما استخرجت منها..."54.
رغم الخراب الذي لحق ببرقة واطرابلس وأريافهما، فلم يكونا، فيما يبدو سوى محطتي عبور في الطريق نحو القيروان "أم الأمصار و قاعدة الأقطار و الأكثرها بشرا و الأيسرها أموالا"55. بدليل أن العرب الزاحفين حين أشرفوا على أول قرى إفريقية "تنادوا : " هذه القيروان" و انتهبوها من حينها"56. اعتقادا منهم بأنها القيروان فعلا لأنهم :" لم يعهدوا نعمة و لا طالعوا حاضرة..."57. و في طريقهم نحو أم الأمصار " أتلف العرب الزاحفون المزارع و الغلات ودمروا القرى و القصور و المدن كمدينة رقادة التي كانت بساتينها يانعة وحقولها مخضرة أيام الأغالبة " (...) وهي الآن خراب لا ينتظر جبرها ولا يعود خيرها"58. ومدينة صبرة التي شيدها أبو الطاهر اسماعيل المنصور سنة 337 هـ وسماها المنصورية تخليدا لإنتصاره على أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفراني. فقد "(...) أتت العرب على عمارتها وطمست آثارها وأخربت عشارها وأفنت خيراتها فليس بها الآن أنيس قاطن ولا حليف ساكن" 59.
ومنها انتقل العرب إلى القيروان التي ضربوا عليها حصارا وضيقوا عليها ... تضييقا شديدا60، وأعاثوا في أحوازها فسادا. فأفسدوا الزروع وخربوا العمران. ولم تستطع جيوش المعز بن باديس، رغم الدعم الذي تلقته من زناتة وبني حماد، ردهم، بل تلقت هزيمة نكراء في واقعة حيدران سنة 443 هـ .
ويبدو أن الإجراءات التي اتخذها المعز ابن باديس كمصاهرة بعض زعماء العرب ، وبناء سور حول القيروان ، والسماح للعرب بدخول المدينة قصد البيع والشراء، لم تجد نفعا أمام إصرارهم على السيطرة على المدينة. وذلك ما تحقق لهم إذ رحل عنها المعز بن باديس إلى المهدية فاستولوا عليها ودمروها تدميرا " (..) حتى لم يبق منها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة ..."61.
وكانت سيطرة عرب بني هلال على القيروان تعني تحكمهم في أهم مجال في إفريقية، وهو مجال " حيوي" تجتمع فيع مزايا البر والبحر. فالقيروان كما يوضح البكري تقع " (...) في بساط من الأرض مديد في الجوف منها بحر تونس، و في الشرق بحر سوسة و المهدية و في القبلة بحر سفاقس و قابس و أقربها منها البحر الشرقي، بينهما و بينه مسيرة يوم ( و بينها و بين الجبل مسيرة يوم) و بينها و بين سواد الزيتون المعروف بالساحل مسيرة يوم و شرقيها سبخة (ملح عظيم طيب نظيف) و سائر جوانبها أرضون طيبة كريمة ..."62.
و كان استيلاء عرب بني هلال على حواضر و بوادي هذا المجال إلى جانب حواضر و بوادي أخرى يعني حرمان إمارة صنهاجة بني زيري من خلفية كانت تمدها بالموارد، فاضطر هؤلاء، بما تبقى تحت نفوذهم من مراكز قليلة على ساحل البحر المتوسط، أن يواصلوا توجههم نحو هذا المجرى المائي علهم يعوضوا فيه جانبا مما فقدوه في البر غير أن هذه الرغبة لم تتحقق.
فمراكبهم التي كانت تمخر عباب هذا البحر قبل الغزو محملة بمنتوجات فلاحية قصد البيع63، أصبحت بعد هذا الحادث تشحن برجال يشنون غارات على سواحل إيطاليا و سيردانية وصقلية، الأمر الذي أدى إلى تنشيط عمليات "القرصنة" التي وجدت "السلطة المركزية" نفسها متورطة فيها مما عاد عليها بعواقب وخيمة. بحيث وضعتها تلك العمليات أمام مسيحيي صقلية في مواجهة لم تكن قادرة عليها. فتمكن هؤلاء فعلا من الاستيلاء على طرابلس و معظم مراكز الشريط الساحلي في إفريقية بما في ذلك المهدية. و بذلك انضاف الهجوم البحري إلى الهجوم البري ليزيد من تدهور النشاط الزراعي في إفريقية.
يتضخ من خلال ما تقدم أن الهجمة التي تعرضت لها إفريقية من قبل عرب بني هلال، فضلا عن الغزو الذي قام به النورمانديون كانا بالغي الأثر على حواضرها وبواديها.
ولا نحتاج إلى التأكيد بأن العودة بالأنشطة الإقتصادية إلى وضعها الطبيعي كان يتطلب إمكانيات مادية وبشرية ضخمة. وهذا ربما ما يفسر النجاح المحدود الذي حققه الموحدون ( ورثة صنهاجة بني زيري في إفريقية) في إعادة الانتعاش إلى أرياف إفريقية مقارنة بالنجاح الكبير الذي حققته جهودهم في المغربين الأوسط والأقصى كما يوضح ذلك أحد الباحثين64. وهي جهود مكنتهم من المحافظة على مستوى الإنتاج الذي سبق أن حققه المرابطون. بل يستفاد من النتائج التي توصل إليها نفس الباحث، بأنهم استطاعوا مضاعفة إنتاج بعض أنواع المزروعات كالزيتون وقصب السكر 65 .
و مما لا شك فيه أن جهودهم في هذين الإقليمين لم تنطلق من فراغ كما هو الشأن بالنسبة لإفريقية. فالمغرب الأوسط تعرض بدوره لزحف عرب بني هلال سنة 498 هـ حيث اكتسحوا مدينة القلعة و عاثوا فسادا في ظهيرها، و مع ذلك فالغالب على الظن أن الآثار المترتبة عن هذا الزحف كانت محدودة بفضل سياسة المهادنة التي انتهجها أمراء بني حماد و التي جعلتهم ينجحون في احتواء هذا الخطر الداهم الذي كان من الممكن أن يأتي على الأخضر و اليابس. و هو ما عبر عنه عز الدين أحمد موسى بقوله : "كان وضع بلاد بني حماد أفضل من بلاد بني با،ديس. إذ نجح أولائك في رد غارات العرب الهلالية، إذ قاسموهم غلات بلادهم مناصفة"66 حتى سنة 547 هـ تاريخ استيلاء الموحدين على إمارة بني حماد.
أما المغرب الأقصى، فقد قدر له أن يظل بعيدا عن الأحداث الدامية التي شهدتها الأقاليم الشرقية من بلاد المغرب بمناسبة زحف عرب بني هلال و بني سليم. و ليس معنى ذلك أن أوضاعه كانت ملائمة للعمل الزراعي. فقد تطرقنا في الفقرات السابقة إلى مختلف المعوقات الطبيعية و السياسية و غيرها، التي كانت تعوق العمل الزراعي.
بقي أن نشير إلى بعض المعطيات التي من شأنها أن تساعدنا على استكمال الصورة التي شرعنا في رسمها للنشاط الزراعي في هذا الإقليم.
إذ في الوقت الذي كان فيه عرب بني هلال يعيثون فسادا في حواضر و أرياف الأقاليم الشرقية من بلاد المغرب، كان المغرب الأقصى يشهد بدوره اضطرابات سياسية - عسكرية انضافت إلى المعوقات الطبيعية لتساهم في تدهور اقتصادياته.
و هي اضطرابات استغرقت الفترة الممتدة من نهاية حكم الأدارسة حتى قيام دولة المرابطين. و قد أشرنا في الصفحات السابقة إلى الصراع بين زناتة و صنهاجة بني زيري، ثم الصراع بين زناتة و برغواطة، و بين مغراوة و بني يفرن، إلى جانب الصراع الذي دار رحاه بين الأخوين الأميرين الفتوح و عجيسة.
و لا نحتاج إلى التأكيد مرة أخرى بأن مجريات الصراع، في جميع مراحله و بين مختلف أطرافه، أثرت سلبا على النشاط الزراعي و الحركة التجارية أيضا و استنزفت إمكانيات القوى السياسية التي كانت تقتسم حكم المغرب الأقصى آنذاك.
و في هذا الصدد يذكر ابن أبي زرع و هو يتحدث عن إمارة مغراوة أن أمراءها "انقطعت عنهم الموارد"67. خلال المراحل المتأخرة من حكمهم، فأخذوا ينهجون سياسة العسف و الشطط تجاه "رعيتهم"68. حيث تمت مصادرة أموال التجار و ممتلكات الفلاحين. بل كانت تتم مداهمة البيوت للسطو على الكميات القليلة من الطعام التي كانت توفرها الأسر لسد رمق أفرادها. فانضاف إلى انعدام الأمن و الخوف " الغلاء المفرط" و الجوع المتصل بانعدام الأقوات69. إلى أن استولى المرابطون على مجموع حواضر و أرياف المغرب الأقصى.
في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري
نقصد ببلاد المغرب الأقاليم الممتدة من "حدود" مصر إلى سواحل المحيط الأطلسي، وتشمل تاريخيا برقة و اطرابلس و إفريقية و المغرب الأوسط و المغرب الأقصى.
و باستثناء إقليمي برقة و اطرابلس الذين يرتبطان أكثر من وجهة نظر جغرافية وإثنولوجية، بمصر1 و بالمشرق العربي الإسلامي بوجه عام، فإن الأقاليم التي تشكل اليوم تونس والجزائر و المغرب كانت منذ أقدم العصور تكون وجدة مجالية و تشترك في كثير من الخصائص الأيكولوجية، و الانتروبو- جغرافية.
فهي تتشابه من حيث البنية و التضاريس؛ تخترقها نفس السلاسل الجبلية. واحدة في الشمال و الثانية في الجنوب، و بينهما تنحصر مجموعة هضاب. و على امتداد ساحل البحر المتوسط شمالا و ساحل المحيط الأطلسي غربا تمتد مجموعة سهول شريطية، هي ضيقة أكثر في الشمال عما هي عليه في الغرب (في المغرب الأقصى على الواجهة الأطلسية). وتدعمها أراضي سهلية أخرى في الداخل و حول الأودية و الأنهار.
و بالمثل، فهي تتشابه أيضا من حيث الانتماءات الإثنية لساكنتها، و من حيث مراحل تعميرهم لمختلف الأقاليم، أو من حيث كون هاته الساكنة تتوزع بشريا على مجموعة قبائل وتتوزع مجاليا إلى بدو2 و الحضر.
و إذا كانت الأرياف قد مثلت الإطار الرئيسي الذي تفاعلت فيه الأحداث التي شهدتها أقاليم أوروبا المتوسطية خلال العصر الوسط، فإن مجال تفاعل الأحداث أقاليم بلاد المغرب و الأندلس توزعته الأرياف و الحواضر على السواء.
فقد كانت حواضر المنطقة منذ الفتح الإسلامي مراكز استقرار و إقامة بالنسبة لأفراد الذين كانوا يمثلون السلطة المركزية أو يشخصونها من ولاة أو عمال أو أمراء أو سلاطين. كما أنها كانت على اختلاف أدوارها و أهميتها مراكز تجارية و أيضا مراكز إشعاع فكري وثقافي.
و قد تبلور دورها أكثر بعد قيام الدول المستقلة بهذه المنطقة، و بذلك أضحت الأحداث والتطورات التي شهدتها سياسية كانت أو عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية و دينية تتشكل و تتفاعل في الحواضر كاطرابلس و القيروان و المهدية و قابس وبجاية و القلعة و تلمسان و تهارت و فاس و سجلماسة و مكناسة.
و هذا الأمر يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الحديث عن خصوصيات المجال الريفي في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري يستدعي استحضار دور الحواضر إلى جانب البوادي طبعا.
و يمكن أن نستشهد في هذا الشأن بمدينة فاس للقول بأن الوسط الطبيعي الذي نشأت به هو الذي حسم إلى حد كبير في أمر تشييدها.3 و عقب تهيئته من قبل أفراد المجتمع فإنه هو الذي أعطاها بعد التشييد تلك الأهمية و ذلك الدور الذي أخذت تضطلع به كمركز لممارسة السلطة وكنقطة إشعاع و استقطاب؛ الأمر الذي من أجله دفعت الثمن باهضا. ويكفي أن نشير إلى الصراع الذي دار حولها خلال القرن الخامس الهجري بين صنهاجيي إفريقية و الزناتيين المقيمين بها تحت إمرة زيري بن عطية و خلفه أو بين هؤلاء و أمويي الأندلس4.
كما أن فاس كمركز حضري و قطب ذي إشعاع هي التي أضفت على المجال المحيط بها (أي الأرياف) أهمية قصوى و جعلته مجالا "حيويا" مغريا يثير الأطماع.
و ما أتينا على ذكره بخصوص مدينة فاس لا ينطبق عليها أو على مدن أخرى لكونها كانت عواصم كيانات سياسية، و إنما ينطبق أيضا على بعض المدن الأخرى التي لم تصبح عواصم سياسية إلا في مراحل متأخرة من تاريخ المغرب.
و يكفي أن نسوق كمثال على ذلك مدينة مكناسة التي اكتست أهمية بالغة قبل أن تصبح عاصمة دولة المولى إسماعيل بفضل فحصها الخصب الكثير الموارد الفلاحية. و يكفي أنها استمدت إسمها من اسم أهم منتوج زراعي كان يقدمه هذا الفحص: الزيتون. كما أن هذا الفحص اكتسى أهمية قصوى بفعل وجود مكناسة كمركز حضري عمل على تنشيط إنتاجه وترويج منتوجاته5.
و بالتالي، فإن مكناسة و فحصها، وأي مركز حضري آخر و ظهيره نعتبرهما وحدة مجالية. و ما نذهب إليه يجد دعامته في معظم كتب الجغرافية و الرحلات و بعض الحوليات التاريخية أيضا. إذ حين يتحدث مؤلفوها عن إحدى مدن بلاد المغرب أو الأندلس يردفون حديثهم بحديث عن ظهرها، بما يترك الانطباع بوجود نوع من التكامل و الارتباط بين الطرفين.
و قد انعكست هذه الثنائية على طبيعية المجال الزراعي الذي مثل الفضاء الذي احتضن أبرز نشاط اقتصادي في بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري. فقد كان بدوره مجالا زراعيا "مخضرما" ريفيا – حضريا. كما أن المجتمع الذي كان يمارس ذلك النشاط الاقتصادي جمع بين خاصيات البداوة و التحضر.
فالاستغلاليات المستثمرة كانت تتوزع بين جنات و بساتين و حقول و عرصات وضياع و مجاشر. بعضها كان يقع داخل أسوار كل مدينة كالجنات أو العرصات، و بعضها كان يقع في الأرياف طبعا6.
أما الفئات التي كانت تستثمرها فقد توزعت هي الأخرى بين فلاحين صغار يملكون استغلاليات داخل محيط المدينة أو خارجها، و مزارعين لا يملكون سوى مجهودهم العضلي يعملون عند مالكين آخرين، و مالكين متوسطين أو كبار. كثير منهم كانوا يقيمون في المدن ويملكون استغلاليات في الأرياف يستثمرها لحسابهم مزارعون مقابل كميات من الإنتاج تحددها عقود تعرف بعقود المزارعة أو المغارسة (تبعا لنوعية العمل الذي قد يكون زراعة كميات من الحبوب أو غراسة أنواع من الأشجار المستثمرة).7
1- خصائص المجال الزراعي و الزراعة في بلاد المغرب حتى بداية غزوات القبائل العربية.
مثل النشاط الزراعي، كما سبق القول، كنه الحياة الاقتصادية قي بلاد المغرب خلال القرن الخامس الهجري. وقد كان المنتجون المباشرون المرتبطون بهذه الزراعة يعملون على تفعيل المجال الزراعي عن طريق الاستثمار.
و يفترض أن يستجيب المجال لهذا الجهد، غير أن هذه الاستجابة عادة ما تكون مقترنة بمعطيات كميائية و بيولوجية و مناخية ذات صلة بطبيعة المجال، و تمثل في نفس الوقت إحدى خاصيات هذا المجال8 .
و تبعا لطبيعة الوحدات التضاريسية التي أشرنا إليها، فقد قامت الزراعة في بلاد المغرب في الأراضي السهلية وفي الهضاب و على سفوح المنحدرات الجبلية و على ضفاف الأودية و الأنهار و حول نقط الماء في المناطق الصحراوية.
و مما لا شك فيه أن قوى الطبيعة قد مارست تأثيرا فعالا على العمل الزراعي. وتفيد بعض المصنفات في هذا الشأن أن حواضر وأرياف بلاد المغرب شهدت كوارث طبيعية خلال القرن الخامس الهجري. تمثلت في سلسلة من الزلازل و منها "(...) الزلزلة العظيمة التي لم ير الناس بالمغرب مثلها. هدت البنيان و مات فيها خلق كثير تحت الردم ووقعت الصوامع و المنارات. و لم تزل الزلزلة تتعاقب و تتكرر في كل يوم و ليلة من أول يوم من ربيع الآخر إلآخر من جمادى الآخر من السنة المذكورة (أي سنة 472 هـ)9 . و تكررت نفس الآفة سنة 504 هـ حيث "كان بالمغرب زلازل عظيمة دامت، شهر شوال كله"10.
يضاف إلى ذلك موجة من الأوبئة و الطواعين لم تحدد النصوص طبيعتها. و منها "وباء وطاعون" شهدته إفريقية و هي على مشارف القرن الخامس الهجري. و بالتحديد سنة 395 هـ "(...) هلك فيه أكثر الناس من غني و محتاج (...) و كان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم (بالقيروان) فتحفر لهم أخاديد و يدفن المائة و الأكثر في الأخدود الواحد (...) وهاجر خلق من أهل الحاضرة و البادية إلى جزيرة صقلية ..."11. و بعده "وباء عظيم" سنة 469 هـ، "مات فيه خلق كثير"12.
و إذا كانت هذه الكوارث قد خلفت آثارا بالغة على الوضعية الديموغرافية في الأقاليم التي نحن بصدد الحديث عنها، و على اقتصادياتها و مجتمعها، فتبقى مع ذلك آثارا محدودة في المكان والزمان، على اعتبار أننا نعتبرها من العناصر المتغيرة التي باستطاعة المجتمع تجاوزها رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه بمناسبتها.
غير أنه ثمة عناصر ثابتة. لاشك أن آثارها كانت بالغة. لأن مفعولها يحدث في المدى القريب و يظل ساريا على المدى المتوسط و البعيد. و أهم ما نعنيه بهذه العناصر الثابتة الظروف المناخية التي كانت في اعتقادنا أبرز عنصر معرقل للعمل الزراعي، مصداقنا في ذلك ما تعانيه أقطار المغرب العربي حاليا من كساد في أنشطتها الاقتصادية و تردي لأوضاعها الاجتماعية في زمن تطورت فيه وسائل و تقنيات الري و حفظ المياه و تدبيرها، إلى جانب تطور وسائل الرصد الجوي التي يمكن على ضوء المعلومات التي تقدمها الاستعداد لمختلف الاحتمالات فضلا عن كون النشاط الزراعي لا يمثل المورد الوحيد لخزائن دول المنطقة أو لمجتمعاتها.
فأقاليم الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط تنتمي عموما إلى مجال خاضع للمؤثرات الصحراوية حيث درجات الحرارة مرتفعة و التساقطات قليلة. إذ أن هذه المؤثرات لا تسمح بأن تنتقل إليه الرياح الرطبة المحملة بالأمطار. و على العكس من ذلك تسمح بأن تنتقل إليه الرياح الجافة التي تعمل على تسخين الجو. و ربما تؤدي إلا اندلاع الحرائق عند هبوب الرياح الجافة الحارة.
و قد حدث ذلك سنة 305 هـ حسب خبر أورده ابن أبي زرع يروي فيه أنه " في سنة خمس و ثلاثمائة أحرقت النار أسواق مدينة تاهرت قاعدة زناتة، و أحرقت أسوار مدينة فاس. وأحرقت أرباض مدينة بياسة من بلاد جوف الأندلس. و أحرقت أسوار قرطبة، و ذلك في شهر شوال من سنة خمس و ثلاثمائة المذكورة (مارس– أبريل 918م). فسميت سنة النار13
كما تعمل الرياح على إثارة زوابع من الأتربة و الغبار. و تعمل على تحرك الكثبان الرملية وزحف الرمال واتساع نطاق التصحر الذي يحدث أحيانا على حساب مناطق أو أراضي مستثمرة.
ولا شك أن بعض مناطق بلاد المغرب كانت تعرف هذه الظاهرة خلال القرن الخامس الهجري، مع أن المصنفات التي اطلعنا عليها لم تمدنا بإشارات عنها تهم الفترة المذكورة. و لكن أبا محمد عبد الله التيجاني الذي قام برحلة شملت إفريقية و اطرابلس بين سنتي 706 هـ و 708 هـ تنبه إليها و هو يحدثنا عن قرية إنزور الواقعة على مشارف اطرابلس . إذ يذكر أنها " (...) كثيرة القصور و قد استولى الرمل على أكثرها، و هم الآن [ أي سكان القرية ] يتوقعون استيلاءه على باقيها"14. مع أن الأمر يتعلق بقرية تتوفر فيها بعض وسائل منع التصحر. ففيها مرافق سكنية و مجاري مائية و غطاء نباتي مهم. و سكانها يعتنون بأنواع عدة من الأشجار المثمرة. إذ هي حسب التيجاني : "(...) غابة متسعة الأقطار ملتفة الأشجار و بها مياه عذبة و أكثر شجرها الزيتون (...) و بها و مع ذلك نخل كثير (...) و بها أيضا شجر التفاح و الرمان والعنب و التين كثير..."15.
و من الخاصيات التي تميز المناخ السائد في بلاد المغرب هو أن التساقطات فضلا عن قلتها بوجه عام، فهي متفاوتة من حيث الكمية بين منطقة و أخرى، إذ هي مرتفعة نسبيا في الأقاليم المحاذية للمحيط الأطلسي. و هي أقل نسبيا في الشريط الساحلي للبحر المتوسط. ثم تقل أكثر في الأقاليم الداخلية. و تنعدم أو تكاد في. الأقاليم الشبه صحراوية و الصحراوية.
و في الأقاليم التي تتميز بكونها تتلقى كميات لا باس بها أو جيدة من التساقطات المطرية، فإن هذه الأخيرة غير منتظمة من سنة لأخرى و من فصل لآخر خلال السنة الواحدة. كما أنها تسقط بغزارة على شكل سيول تعمل على انجراف التربة في المنحدرات أو تؤدي إلى حدوث فيضانات. و قد تقع مثل هذه الفيضانات أحيانا في مناطق تتلقى كميات قليلة جدا من الأمطار خلال المواسم العادية، كما حدث مثلا في سجلماسة سنة 381 هـ .حيث تساقطت كميات كبيرة من الأمطار أدت إلى فيضانات واديها. "فتعجب الناس" لأنهم لم يعهدوا مثل تلك الظاهرة في هذه المنطقة16.
و إذ لم تقدم لنا ا لمصادر التي اطلعنا عليها أية إشارات عن حدوث هذه الظاهرة خلال القرن الخامس الهجري، فإنها على العكس من ذلك حافلة بأخبار تتعلق بالمجاعات و القحط. ويكفي أن نشير إلى "البيان المغرب" و "نهاية الأرب" و "الأنيس المطرب" التي تتضمن جردا لسنوات الجماعات و القحط و الشدة التي شهدتها إفريقية أو المغرب الأقصى أو هما معا17. وهي لكثرتها تبدو و كأنها كانت " تتناوب " مع سنوات "الخصب.
و لاشك أن تأثيرها كان قويا على الحياة الاقتصادية بوجه عام و على الزراعة بوجه خاص؛ لأن هذه الأخيرة كانت "توكيلية" على حد تعبير أحد الباحثين و هو يتحدث عن النشاط الزراعي الذي كان يمارسه المجتمع المصمودي خلال القرنين الخامس و السادس الهجريين. و نحن نقول بأنها كانت كذلك في جميع مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط خلال القرن الخامس الهجري. و لازالت كذلك لحد الآن.
فالزراعة الممارسة في هذه المناطق كانت زراعة معاشية، تقوم على الحبوب كالحنطة والقمح و الشعير. و على القطاني كالحمص و اللوبيا، فضلا عن أصناف من الخضروات و البقول كالبصل و الجزر مثلا. إلى جانب أنواع من الأشجار المثمرة و أمهما الزيتون و التمور و التين و التفاح.
و في بعض المناطق المحدودة كانت تمارس زراعة متخصصة ارتبطت أساسا بالمبادلات التجارية. و نعني هنا زراعة قصب السكر التي حضيت بعناية هامة في بلاد السوس الأقصى. وقد أقيمت لاستخلاص مادة السكر العديد من المعاصر التي كانت تصدر كميات من إنتاجها إلى باقي أقاليم المغرب الأقصى و إلى افريقية و الأندلس19.
و كان يتم إنتاج معظم المزروعات و المغروسات المشار إليها في قطع أرض من نوع أراضي البور التي تنتظر ما تجود به السماء؛ بل إن قطع الأرض المسقية كانت بدورها تعرف نفس الوضعية لأنها تسقى بمياه الأنهار و الأودية أو الآبار أو العيون التي تتحكم في تزويدها و في منسوب مياهها التساقطات المطرية.
و فضلا عن ذلك فإن الري استند إلى جهود فلاحين، و بالتالي كان معتمدا على نطاق محدود. و قد استعملت لهذا الغرض السواقي و الجداول المتفرعة عن الأودية و الأنهار، إلى جانب القنوات و تقنيات أخرى مثل الدواليب التي كانت تستعمل في المهدية( بإفريقية) لرفع المياه من الآبار لتجري في القنوات20.
و يتضح من المصنفات التاريخية و كتب الجغرافية و الرحلات أن السلطات القائمة في بلاد مغرب القرن الخامس الهجري لم تول لقضايا المياه أي عناية تذكر. فمنذ المشروع الذي أنجزه عبيد الله المهدي، الذي بنى مدينة المهدية و جلب إليها المياه عبر قنوات من قرية منانش لمجاورة22،لم نسمع عن أي " مشروع مائي" في بلاد المغرب؛ و إن كان المشروع المشار إليه يهم تزويد المدينة بالماء الشروب بوجه خاص، و لم يكن موجها للري فيما يبدو. لذلك كان يجب أن ننتظر فترة طويلة جدا لنسمع عن مشروع مماثل قام به يوسف بن تاشفين بمناسبة تشييد حاضرة مملكته مدينة مراكش23.
و في ظل الاعتماد على مصادر المياه الطبيعية، فقد كان من الطبيعي جدا أن ينتكس الإنتاج الزراعي و معه النشاط الاقتصادي بوجه عام، عند كل اختلال (خلال المواسم التي تقل أو تنعدم فيها التساقطات). و حتى في مواسم التساقطات العادية، فقد ظلت العوائق منتصبة أمام المرتبطين بالمياه من فلاحين و مزارعين و أرباب الأرحي و عموم المستهلكين.
و قد نقلت لنا كتب الفتاوى الفقهية و كتب الجغرافيا بعض أصداء تلك العوائق و الآثار السلبية التي ترتبت عنها كالنزاعات و الخصومات. و نكفي أن نشير في هذا الصدد إلى ما يتضمنه مصنف القاضي عياض و ولده محمد24، لنقف على نماذج منها، و إن كانت تهم المغرب الأقصى فقط.
و يستشف من تلك النماذج أن النزاعات لم تكن تحدث دائما خلال مواسم ندرة المياه و تراجع جريان السواقي و الجداول. و لكن كثيرا منها كان يحدث خلال مواسم الجريان العادية. مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الندرة ربما كانت دائمة خلال القرن الخامس الهجري. و إن تخللت هذا الحيز الزمني مواسم بدت فيها التساقطات عادية (سنوات الخصب التي يشير إليها ابن عذاري). ومعنى ذلك أن صبيب المجاري المائية كان ضعيفا. و إلا كيف يمكن تفسير ظاهرة انحباس (انقطاع) الماء عن جنان أو مجموعة أجنة بفعل استخدام رحى واحدة. أو انقطاع جريان نهر عن مدينة بأكملها و حرمان سكانها من المياه طيلة ثلاثة أيام كل أسبوع من جراء تحويل مجراه لسقي بعض البساتين و الحقول خارج المدينة25.
ولا شك أن ظاهرة ندرة المياه التي نحن بصدد الحديث عنها هي التي تفسر إلى حد كبير عملية التحرك المستمر التي كانت تقوم بها بطون عريضة من قبائل زناتة منذ وقت سابق على القرن الخامس الهجري؛ في مجال شاسع جدا شمل صحراء تونس وأقاليم عدة من المغرب الأوسط وعدة مراكز في المغرب الأقصى كملوية و سجلماسة26، وفاس التي كانت قاعدة إمارتها منذ قيامها على يد زيري بن عطية.
و رغم شساعته، فيبدو أن هذا المجال لم يكن كافيا لتلبية حاجياتها لأن أجزاء منه جافة وأخرى شبه جافة، لذلك لم تكن تتوانى في العمل على توسيعه أكثر في اتجاه الأقاليم الغربية لإفريقية كما يفهم من قول النويري الذي يذكر أن "(...) زناتة قد استطالت على أهل الناحية (يقصد صنهاجة) من أيام بني الأغلب، ثم تزايد ضررهم في أيام المهدي و القائم"27. مما اضطر زيري ابن مناد إلى بناء (أو إعادة بناء) مدينة أشير سنة 324 هـ لاجتناب شرهم.
و من خلال تحركاتهم الدائبة، إن شرقا أو غربا، فإن قبائل زناتة فوتت الفرصة على القبائل التي كانت أكثر ميلا إلى الاستقرار و زراعة الأرض. بدليل أن النويري يعود فيخبرنا بأن "(...) أهل البادية اطمأنت نفوسهم للحرث والزراعة و صانهم زيري مما كان ينالهم من زناتة ..." 28 بعد .بناء مدينة أشير. و إن كان ذلك الاطمئنان إلى حين. إذ استمرت العداوة بين ضنهاجة وزناتة. و تواصلت الحروب بينهما خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري و النصف الأول من القرن الموالي. و هي حروب شديدة الضراوة أدت في نهاية المطاف - أي قبل أن يصبحا معا هدفا لغزو عرب بني هلال ابتداء من سنة 442 هـ- إلى "إبادة" زناتة " و إزالتها من الوجود" على الأقل في برقة. إذ حين دخلها عرب بني هلال "(...) وجدوا بلادا خالية طيبة كثيرة المرعى كانت عمارتها زناتة فأبادهم المعز (المقصود أبو تميم المعز بن باديس)"29.
و إذا كانت تلك الحروب قد أزاحت من بعض المواطن القبائل، التي يعتبرها بعض الباحثين قبائل "رحل"30، فإنها أنهكت قبائل المستقرين المزارعين، و نعني بهم صنهاجة. على اعتبار أن أبا تميم المعز ابن أبي مناد اضطر إزاء "تكاسل" صنهاجة – حسب تعبير النويري – عن قتال زناتة أن يشتري سنة 446 هـ ثلاثين ألف شخص من العبيد31 للاعتماد عليهم في حروبه المستقبلية.
و مهما يكن من أمر فإن سلسلة الحروب الدائرة في الجبهة الإفريقية بين صنهاجة و زناتة، و الحروب الدائرة في الجبهة المغربية بين زناتة و صنهاجة أيضا و بين قبائل زناتة فيما بينها (بين مغراوة و بني يفرن) و بين زناتة و برغواطة32 ، أدت إلى إبادة البعض و إنهاك البعض الآخر. كما أنها أدت إلى خراب العمران. و تدمير المنشآت و إتلاف المحاصيل و الغلات، و بالتالي ساهمت في تردي الأوضاع الاقتصادية بوجه عام. و يكفي أن نشير في هذا الصدد بأن ثلاث أعوام من الحروب و الصــــراع (453 هـ و 454 هـ و 455 هـ) بين عجيسة و فتوح إبني الأمير دوناس بن حمامة كانت كافية لخلق أزمة حقيقية بالمغرب الأقصى. حيث كثر الخوف في أيامهما و غلت الأسعار و اشتدت المجاعة و عظم الهرج و قويت الفتن في جميع نواحي المغرب و ظهرت لمتونة على أطراف البلاد فملكوها"33. مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الاقتصاد السائد، ليس في المغرب الأقصى وحده و إنما في بلاد المغرب ككل، و منذ فترات سابقة على القرن الخامس الهجري، كان هشا و يستند على موارد تبدو محدودة. و هذا ما دفع بعض الدارسين إلى التأكيد بأن ضعف موارد بلاد المغرب شكل عاملا من بين العوامل التي دفعت الفاطميين منذ عهد عبيد الله المهدي، إلى التخلي عن هذه المنطقة و التفكير جديا في السيطرة على مصر و الأندلس لغنى مواردهما34.
2- عمليات الغزو و تحولات المجال الريفي
... وستشرع القبائل العربية ابتداء من سنة 442 هـ في القيام بزحفها الشهير لتأتي على البقية الباقية. و من هذا المنطلق، فإننا نعتقد بأن ذلك الزحف يمثل منعطفا في التاريخ الاقتصادي لحواضر و بوادي بلاد المغرب بوجه عام، و أقاليمها الشرقية بوجه خاص، كما أنه يمثل النقيض تماما لظاهرة عملية الاستصلاح الكبرى التي شهدتها البوادي الأورو -متوسطية ابتداء من مطلع القرن الحادي عشر؛ و التي مثلت منعطفا في تاريخها الاقتصادي.
فقد كانت عمليات الاستصلاح عبارة عن غزو قام به مجتمع تلك الأرياف للغابة. حيث تم اجتثاث الأشجار و كذلك الإنسان (في إسبانيا الإسلامية) لتوسيع المساحات الصالحة للزراعة، مما أدى إلى الزيادة في الإنتاج.
أما عمليات زحف القبائل العربية فكانت عبارة عن غزو قام بع أفراد مجتمع ضد أفراد آخرين (إخوان لهم في الدين). حيث تم اجتثاث الأشجار و كذلك الإنسان مما أدى إلى تقليص المساحات الصالحة للزراعة و تراجع الإنتاج.
و من ثم، فإن عمليات زحف عرب بني هلال و بني سليم، مثلها مثل عمليات الاستصلاح التي قام بها فلاحو غرب أوربا، نعتبرها بحق إحدى أبرز معالم تاريخ مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط نظرا لحجمها و لما ترتب عنها من نتائج بالغة الأهمية.
فما هي حيثيات تلك العمليات و ماذا يمكن أن يقال عن مظاهر التراجع الذي ترتب عنها؟ ذلك ما سنحاول توضيحه بإيجاز.
بعد السيطرة على مصر، أصبحت معظم حواضر و بوادي مناطق الضفة الجنوبية الغربية للبحر المتوسط تدخل ضمن دائرة نفوذ الفاطميين. و قبل انتقالهم إلى مصر كانوا قد استغلوا موارد بلاد المغرب و لفترات طويلة، في بناء دولتهم و تحقيق طموحاتهم. و حين لم يعد يطيب لهم مقام بها قرروا مغادرتها و الرحيل إلى مصر بعد أن استنزفوا مواردها36. و التي اتضح لهم بعد ذلك أنها غير كافية لتحقيق مشروعهم السياسي الطموح.
و لتأمين ظهرهم سمحوا لصنهاجة بني زيري بنوع من الاستقلال ا لذاتي في إفريقية كما استعملوهم "كحرس" لمراقبة تحركات قبائل المنطقة، و خاصة قبائل زناتة36. و لا سيما بعد أن اتضح إخلاص صنهاجة بني زيري و أبانوا عن قوة كبيرة في إخماد انتفاضات سكان المنطقة كالانتفاضة التي تزعمها أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني.
و حين "اينعت رؤوس" أمراء بني زيري و شرعوا في الاستقلال الفعلي عن الفاطميين، قرر هؤلاء " قطافها" ، و ذلك بأن أطلقوا سراح قبائل بني هلال و بني سليم من "معاقلها" لتنوب عنهم فيما يجب القيام به عندما لا تحترم "فروض الطاعة و الولاء".
و قد كان هؤلاء قبيل الشروع في زحفهم على برقة و إفريقية، مقيمين بمصر في الأقاليم الواقعة شرق النيل. فأجاز لهم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عبور النيل للانتقال إلى إفريقية. و بهذا الإجراء فهو عمل أيضا على تأمين دولته من خطر محتمل كان يمكن أن يأتيها من جانب هذه القبائل، لأنها عناصر (هدامة عاشت في صعيد مصر فسادا"37.
فتحركت تلك القبائل فعلا نحو برقة التي استقرت بها بعض بطون قبائل بني سليم. فيما واصلت بطون أخرى إلى جانب جموع بني هلال زحفها نحو اطرابلس، و منها إلى إفريقية حيث بدأت حلقات المسلسل الذي يلخصه النويري بروعة بقوله : "(...) شنوا الغارات على البلاد وقطعوا على الرفاق و أفسدوا الزروع و قطعوا الأشجار و حاصروا المدن فضاق الناس وساءت أحوالهم و انقطعت أسفارهم و حل بإفريقية من البلاء ما لم ينزل بها مثله قط"38.
و يزكي ابن خلدون بدوره ما ذهب إليه النويري. إذ يذكر أن قبائل بني هلال و بني سليم "(...) سارت كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه"39. ثم يعود في موضع آخر ليؤكد أن العرب "تقدموا إلى البلاد و أفسدوا السابلة و القرى (...) و طال عيثهم في البلد و إضرارهم بالرعايا إلى أن خربت إفريقية"40.
و على غرار المؤرخين القدامى، لم يتردد الهادي روجي إدريس في نعت هذا الغزو بأنه "كارثة"41 أفضت إلى تراجع الزراعات لفائدة المراعي، و أذكت ظاهرة تصحر عدد كبير من المناطق التي كانت مزدهرة قبيل الغزو. بل الأكثر من ذلك أنها " أدت إلى قلب جغرافيا شرق المغرب البشرية رأسا على عقب" 42.
ونحن بدورنا تؤكد حقيقة الحكم الذي ذهب إليه القدامى والمحدثون انطلاقا من النتائج التي ترتبت عن حدث مماثل تعرضت لـــه الولايات الغربية التابعة للإمبراطورية الرومانية خلال القرن الخامس للميلاد حين غزتها القبائل الجرمانية.
فقد ترتبت عن ذلك الغزو نتائج بالغة الأهمية يمكن أن نلخصها في جملة واحدة : لقد أدى إلى إحداث نقلة على مستوى البنيات الاقتصادية و الاجتماعية في غرب أوروبا؛ و سارع بالاتجاه الذي كانت قد أخذته نحو "الأريفة" (la ruralisation) منذ أزمة القرن الثالث للميلاد43.
و للوقوف عن كثب على النتائج التي أل إليها غزو القبائل العربية، سنحاول عقد مقارنة بسيطة بين الصورة التي ينقلها البكري عن أرياف و حواضر مناطق شرق بلاد المغرب خلال النصف الأول من القرن الخامس ( و إن كانت صورة تنطبق أكثر على القرن الرابع لأن البكري نقل معالمها عن ابن حوقل). و الصورة التي يقدمها لنا عنها كل من الإدريسي و التيجاني بعد الغزو. و سنحاول رسم معالم الصورتان من خلال عملية تركيب (montage) و انطلاقا من بعض النماذج.
إن برقة المحطة الأولى التي دخلها العرب سنة 442هـ" (...) هي أول منبر ينزله القادم من بلاد مصر إلى القيروان.."44. و هي مدينة متوسطة تقع في بقعة فسيحة و بها بساتين عدة. كانت قبل الغزو "(...) دائمة الرخاء كثيرة (...). و كانت كثيرة الثمار من الجوز و الأترج و السفر جل وأصناف الفواكه ..." . و "(...) كان لها من الغلات في سالف الزمان القطن المنسوب إليها الذي لا يجانبه صنف من أصناف القطن ..." 46، "(...) على أنها في هذا الوقت (أي عصر الإدريسي) عامرها قليل وأسواقها كاسدة، وكانت فيما سلف على غير هذه الصفة..."47.
أما مدينة اطرابلس التي انتقل إليها عرب بني هلال بعد برقة، فقد كانت قبل هذا الحادث "(...) كثيرة الثمار والخيرات ..."48. و إن لم يكن "(...) البلد بلد احثرات..."49. بالرغم من وجود فحص بظاهرة المدينة، يعرف بفحص سويجين (أو سوفجين) كانت تتم زراعته. غير أنه لم يكن منتظم الإنتاج بين موسم و آخر. فهو يعطي محصولا جيدا خلال سنة ثم يتراجع إنتاجه لعدة سنين50. و من ثم فإن أهالي اطرابلس و باديتها كانوا يعوضون هذا النقص باستثمار عدة"(...) بساتين جليلة في شرقيها"51. و هي بساتين "(...) كثيرة شجر الزيتون و التين. و بها فواكه جمة و نخيل، إلا أن العرب أضرت بها و بما حولها من ذلك. و أجلت أهلها و أقفرت بواديها و غيرت أحوالها و أبادت أشجارها و أغورت مياهها.."52
و كما أتلف العرب بساتين و غلات اطرابلس و أريافها، فقد دمروا منشآتها العمرانية كالمساجد؛ و أشهرها مسجد الشعاب الذي يذكر التيجاني، عند زيارته لاطرابلس أنه خال لا عمارة به53. و امتدت أيديهم بالتخريب لقصبة المدينة؛ و التي يقدم لنا أيضا شهادة عنها بقوله :"(...) ورأيت أثار الضخامة بادية على هذه القصبة، غير أن الخراب قد تمكن منها، وقد باع الولاة أكثرها فما حولها من الدور التي تكتنفها الآن إنما استخرجت منها..."54.
رغم الخراب الذي لحق ببرقة واطرابلس وأريافهما، فلم يكونا، فيما يبدو سوى محطتي عبور في الطريق نحو القيروان "أم الأمصار و قاعدة الأقطار و الأكثرها بشرا و الأيسرها أموالا"55. بدليل أن العرب الزاحفين حين أشرفوا على أول قرى إفريقية "تنادوا : " هذه القيروان" و انتهبوها من حينها"56. اعتقادا منهم بأنها القيروان فعلا لأنهم :" لم يعهدوا نعمة و لا طالعوا حاضرة..."57. و في طريقهم نحو أم الأمصار " أتلف العرب الزاحفون المزارع و الغلات ودمروا القرى و القصور و المدن كمدينة رقادة التي كانت بساتينها يانعة وحقولها مخضرة أيام الأغالبة " (...) وهي الآن خراب لا ينتظر جبرها ولا يعود خيرها"58. ومدينة صبرة التي شيدها أبو الطاهر اسماعيل المنصور سنة 337 هـ وسماها المنصورية تخليدا لإنتصاره على أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفراني. فقد "(...) أتت العرب على عمارتها وطمست آثارها وأخربت عشارها وأفنت خيراتها فليس بها الآن أنيس قاطن ولا حليف ساكن" 59.
ومنها انتقل العرب إلى القيروان التي ضربوا عليها حصارا وضيقوا عليها ... تضييقا شديدا60، وأعاثوا في أحوازها فسادا. فأفسدوا الزروع وخربوا العمران. ولم تستطع جيوش المعز بن باديس، رغم الدعم الذي تلقته من زناتة وبني حماد، ردهم، بل تلقت هزيمة نكراء في واقعة حيدران سنة 443 هـ .
ويبدو أن الإجراءات التي اتخذها المعز ابن باديس كمصاهرة بعض زعماء العرب ، وبناء سور حول القيروان ، والسماح للعرب بدخول المدينة قصد البيع والشراء، لم تجد نفعا أمام إصرارهم على السيطرة على المدينة. وذلك ما تحقق لهم إذ رحل عنها المعز بن باديس إلى المهدية فاستولوا عليها ودمروها تدميرا " (..) حتى لم يبق منها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة ..."61.
وكانت سيطرة عرب بني هلال على القيروان تعني تحكمهم في أهم مجال في إفريقية، وهو مجال " حيوي" تجتمع فيع مزايا البر والبحر. فالقيروان كما يوضح البكري تقع " (...) في بساط من الأرض مديد في الجوف منها بحر تونس، و في الشرق بحر سوسة و المهدية و في القبلة بحر سفاقس و قابس و أقربها منها البحر الشرقي، بينهما و بينه مسيرة يوم ( و بينها و بين الجبل مسيرة يوم) و بينها و بين سواد الزيتون المعروف بالساحل مسيرة يوم و شرقيها سبخة (ملح عظيم طيب نظيف) و سائر جوانبها أرضون طيبة كريمة ..."62.
و كان استيلاء عرب بني هلال على حواضر و بوادي هذا المجال إلى جانب حواضر و بوادي أخرى يعني حرمان إمارة صنهاجة بني زيري من خلفية كانت تمدها بالموارد، فاضطر هؤلاء، بما تبقى تحت نفوذهم من مراكز قليلة على ساحل البحر المتوسط، أن يواصلوا توجههم نحو هذا المجرى المائي علهم يعوضوا فيه جانبا مما فقدوه في البر غير أن هذه الرغبة لم تتحقق.
فمراكبهم التي كانت تمخر عباب هذا البحر قبل الغزو محملة بمنتوجات فلاحية قصد البيع63، أصبحت بعد هذا الحادث تشحن برجال يشنون غارات على سواحل إيطاليا و سيردانية وصقلية، الأمر الذي أدى إلى تنشيط عمليات "القرصنة" التي وجدت "السلطة المركزية" نفسها متورطة فيها مما عاد عليها بعواقب وخيمة. بحيث وضعتها تلك العمليات أمام مسيحيي صقلية في مواجهة لم تكن قادرة عليها. فتمكن هؤلاء فعلا من الاستيلاء على طرابلس و معظم مراكز الشريط الساحلي في إفريقية بما في ذلك المهدية. و بذلك انضاف الهجوم البحري إلى الهجوم البري ليزيد من تدهور النشاط الزراعي في إفريقية.
يتضخ من خلال ما تقدم أن الهجمة التي تعرضت لها إفريقية من قبل عرب بني هلال، فضلا عن الغزو الذي قام به النورمانديون كانا بالغي الأثر على حواضرها وبواديها.
ولا نحتاج إلى التأكيد بأن العودة بالأنشطة الإقتصادية إلى وضعها الطبيعي كان يتطلب إمكانيات مادية وبشرية ضخمة. وهذا ربما ما يفسر النجاح المحدود الذي حققه الموحدون ( ورثة صنهاجة بني زيري في إفريقية) في إعادة الانتعاش إلى أرياف إفريقية مقارنة بالنجاح الكبير الذي حققته جهودهم في المغربين الأوسط والأقصى كما يوضح ذلك أحد الباحثين64. وهي جهود مكنتهم من المحافظة على مستوى الإنتاج الذي سبق أن حققه المرابطون. بل يستفاد من النتائج التي توصل إليها نفس الباحث، بأنهم استطاعوا مضاعفة إنتاج بعض أنواع المزروعات كالزيتون وقصب السكر 65 .
و مما لا شك فيه أن جهودهم في هذين الإقليمين لم تنطلق من فراغ كما هو الشأن بالنسبة لإفريقية. فالمغرب الأوسط تعرض بدوره لزحف عرب بني هلال سنة 498 هـ حيث اكتسحوا مدينة القلعة و عاثوا فسادا في ظهيرها، و مع ذلك فالغالب على الظن أن الآثار المترتبة عن هذا الزحف كانت محدودة بفضل سياسة المهادنة التي انتهجها أمراء بني حماد و التي جعلتهم ينجحون في احتواء هذا الخطر الداهم الذي كان من الممكن أن يأتي على الأخضر و اليابس. و هو ما عبر عنه عز الدين أحمد موسى بقوله : "كان وضع بلاد بني حماد أفضل من بلاد بني با،ديس. إذ نجح أولائك في رد غارات العرب الهلالية، إذ قاسموهم غلات بلادهم مناصفة"66 حتى سنة 547 هـ تاريخ استيلاء الموحدين على إمارة بني حماد.
أما المغرب الأقصى، فقد قدر له أن يظل بعيدا عن الأحداث الدامية التي شهدتها الأقاليم الشرقية من بلاد المغرب بمناسبة زحف عرب بني هلال و بني سليم. و ليس معنى ذلك أن أوضاعه كانت ملائمة للعمل الزراعي. فقد تطرقنا في الفقرات السابقة إلى مختلف المعوقات الطبيعية و السياسية و غيرها، التي كانت تعوق العمل الزراعي.
بقي أن نشير إلى بعض المعطيات التي من شأنها أن تساعدنا على استكمال الصورة التي شرعنا في رسمها للنشاط الزراعي في هذا الإقليم.
إذ في الوقت الذي كان فيه عرب بني هلال يعيثون فسادا في حواضر و أرياف الأقاليم الشرقية من بلاد المغرب، كان المغرب الأقصى يشهد بدوره اضطرابات سياسية - عسكرية انضافت إلى المعوقات الطبيعية لتساهم في تدهور اقتصادياته.
و هي اضطرابات استغرقت الفترة الممتدة من نهاية حكم الأدارسة حتى قيام دولة المرابطين. و قد أشرنا في الصفحات السابقة إلى الصراع بين زناتة و صنهاجة بني زيري، ثم الصراع بين زناتة و برغواطة، و بين مغراوة و بني يفرن، إلى جانب الصراع الذي دار رحاه بين الأخوين الأميرين الفتوح و عجيسة.
و لا نحتاج إلى التأكيد مرة أخرى بأن مجريات الصراع، في جميع مراحله و بين مختلف أطرافه، أثرت سلبا على النشاط الزراعي و الحركة التجارية أيضا و استنزفت إمكانيات القوى السياسية التي كانت تقتسم حكم المغرب الأقصى آنذاك.
و في هذا الصدد يذكر ابن أبي زرع و هو يتحدث عن إمارة مغراوة أن أمراءها "انقطعت عنهم الموارد"67. خلال المراحل المتأخرة من حكمهم، فأخذوا ينهجون سياسة العسف و الشطط تجاه "رعيتهم"68. حيث تمت مصادرة أموال التجار و ممتلكات الفلاحين. بل كانت تتم مداهمة البيوت للسطو على الكميات القليلة من الطعام التي كانت توفرها الأسر لسد رمق أفرادها. فانضاف إلى انعدام الأمن و الخوف " الغلاء المفرط" و الجوع المتصل بانعدام الأقوات69. إلى أن استولى المرابطون على مجموع حواضر و أرياف المغرب الأقصى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق