يبدأ إدغار موران محاضرته الأولى، «بربرية أروبية»، بتقديم لمحة مختصرة عن
«أنثروپولوجية البربرية الإنسانية»، انطلاقًا من فرضية تركيبية تعتبر «الإنسان
العاقل»
Homo sapiens
قادرًا، في الآن نفسه، على «الهذيان والحمق»، و«الإنسان الصانع»
Homo faber
قادرًا على «إنتاج أساطير لا تُحصى»، مثلما أن «الإنسان الاقتصادي»
Homo economicus
يمكن له أن يكون «إنسان اللعب والإنفاق والتبذير». وهذا التعقيد الدَّامِج لخصائص
إنسانية «متناقضة» يضيء لإدغار موران الطابعَ المُركَّب لـ«البربرية الإنسانية»،
حيث يوجد «الحمق المنتج للهذيان والحقد والازدراء» والإفراط والمغالاة. وإذا كان
هذا «الحمق» يجد ترياقه في «العقل»، فإن هذا الأخير لا يخلو مفهومُه من التباس؛
لذلك يذهب موران إلى أننا عندما نعتقد أنفسنا «داخل العقلانية» لا نكون، في واقع
الأمر، إلاَّ «داخل العقلنة»، بما هي «نسق منطقي... يفتقد للأساس التجريبي الذي
يسمح بتبريره».
يميِّز إدغار موران، ضمن تصوُّره الأنثروپولوجي للبربرية، بين ثلاثة مجتمعات تفصح
عن النموِّ المتصاعد للفكرة والسلوك البربريين:
هناك «المجتمعات الأولى»، التي تتكون من بضع مئات من الأفراد «تعاطوا للصيد وجني
الثمار»؛ وهي مجتمعات «أنتجت تنوعًا هائلاً في اللغات والثقافات والموسيقى
والطقوس»، وعبَّرت عن اكتفائها الذاتي، ولم تكن في حاجة إلى غزو أراضي غيرها، على
الرغم من كونها خبرت حروبًا محلِّية، وربما اغتيالات
وهناك «المجتمعات السحيقة في القدم»، الخاضعة لـ«رابطة الأخوة» و«أسطورة الجدِّ
المشترك»، التي جعلتْها أقل عدوانية وبربرية؛ وعن هذه المجتمعات انبثقت الحضارات
الكبرى «التي تضم آلاف، بل ملايين الأفراد الذين يتعاطون للفلاحة ويبنون مدنًا
ودولاً وجيوشًا ويطوِّرون التقنيات بوفرة».
ثم
هناك «المجتمعات التاريخية» التي ارتبطت بسلطة الدولة وبالغلوِّ الجنوني الذي دفعها
إلى القيام لغزوات لضمان «الحصول على المواد الأولية أو احتياطات المئونة»، كما
دفعها إلى ممارسة عمليات الإبادة والتخريب والسلب والاغتصاب والاسترقاق. ويربط
إدغار موران تاريخ هذه المجتمعات بتاريخ الحروب التي «لم يهدأ لها ساكن»؛ لكن هذا
التلازم لم يمنعه من ملاحظة أنها مجتمعات «أنتجت، إلى جانب البربرية، ازدهار الفنون
والثقافة وتطور المعرفة وظهور نخبة مثقفة».
ويورد إدغار موران أمثلة متنوعة عن تطور النزعة البربرية الأوروبية، بدءًا من
«العصر القديم» لدى الإغريق والرومان، وصولاً إلى «العصر الحديث» مع تشكُّل «الأمم
الأروبية الحديثة: إسبانيا، فرنسا، البرتغال، إنكلترا». وفي ذلك كلِّه، يؤكد موران
على تلازم مستعصٍ بين الحضارة والبربرية، جعل أوروبا تختبر كلَّ «أشكال البربرية
الخاصة بالمجتمعات التاريخية»، كالتعصب الديني، والتطهير العرقي، وتصفية المجتمعات
الصغيرة العريقة، والاسترقاق، والاستعمار، ونشر الأمراض.
هناك خمسة قرون من «البربرية الأروبية» لم تخلُ، برأي موران، على ضراوتها، من
«مفعولات حضارية»، نَتَجت منها «اتصالات خلاقة» و«امتزاجات بين الثقافات». وإذا كان
من الصعوبة الحسمُ في جوهرية الخصائص الإيجابية أو عَرَضيَّتها، فإن هذا الواقع
ينبغي أن يدفع، برأي موران، نحو «التأكيد على التعارض والتعقيد الملازمَين لتحديد
ما ينتمي للبربرية وما ينتمي للحضارة».
http://www.mediafire.com/download.php?0f07idi00hslbbi
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق