الاثنين، 28 أكتوبر 2013

السعديون و العلويون الأوائل
Ø    مقدمـــة:
    تميزت فترة حكم السعديين و العلويين الاوائل بتحولات مهمة ساهمت في تغير مجرى تاريخ المغرب و منحته فرصة ولوج العالم الحديث حسب ما عبر منه جاك بيرك ( فهو فرصة للانتقال نحو العالم الحديث و مناسبة لتغيير شكل شكل المجتمع) . و من مظاهر هذه الظرفية الاحتلال الابيري للسواحل المغربية سواء منها الاطلسية أو المتوسطية و ما ترتب عنه من تنشيط لفريضة الجهاد ، و تحركات القبائل العربية و وصول الاتراك الى الجزائر و الانتشار الواسع للصلاح ( الصلحاء، الزوايا ،...) و تزامنت هذه الفترة مع عصر النهضة الاوربية و محاولة السلاطين السعديين و العلويين التكيف مع هذه المستجدات و ما نتج عنها من تحولات اقتصادية و عسكرية . و من اهم التحولات التي طبعت الفترة :" الايديولوجية " الجديدة للدولة المغربية التي اصبحت تستمد منها اسس وجودها و مقومات استمرارها على الصعيدين السياسي و المجتمعي و هي " النسب الشريف" . الذي احيط بعناية كبيرة منذ عهد الادارسة . لكن هذا الاهتمام تراجع نوعا ما خلال عصور الأمارات الزناتية و المرابطين إلا ان مكانتهم ( الشرفاء) في المجتمع بقيت محترمة . و في العصر الموحدي استندت ايديولوجية الدولة الى النسب الشريف الذي يبرر مهدوية ابن تومرت و مع العصر المريني ستعرف ظاهرة الشرف موقعا متميزا و أساسيا داخل المنظومة السياسية و الثقافية و ذلك لان الحكم المريني حاول البحث عن توازنات جديدة للاستفادة منها في تدعيم شرعيته السياسية و حسب المؤرخ محمد القبلي في مقاله " مساهمة في تاريخ التمهيد لظهور دولة السعديين " مجلة كلية الاداب / الرباط. عدد ¾ / 1978. بأن ظاهرة الشرف أصبح لها موقع خاص ضمن ايديولوجية الدولة المرينية .
       و مما لا شك فيه ، أن الشرفاء لعبوا دورا مهما في المجتمع المغربي ، إذ أصبحوا يشكلون عنصر توازن اجتماعي و روحي ، خاصة في المناطق التي تعرف فراغا سياسيا و ذلك منذ عهد الادارسة .
     و نفس لعبتها الاسر الشريفة التي ستدخل المغرب بعد الادارسة منها السعديون و العلويون و الذين اتخذوا من النسب الشريف احد المقومات الايديولوجية لتبرير احقيتهم في الحكم مدشنين بذلك منعطفا جديدا ، أصبحت بموجبه الاطروحة الخلدونية التي تجعل من العصبية القبلية أساس الملك أطروحة متجاوزة على هذا المستوى حسب جاك بيرك .
      و الملاحظ أن الشرفاء السعديين و العلويين تمكنوا من تركيز دعائم دولتهم استنادا الى هذه المشروعية السياسية الجديدة و نجحوا في مهمتهم و قاموا بمجموعة من الاصلاحات في مجالات متعددة و إن كان هذا لا ينفي مرور الدولة المغربية من ازمات سياسية عميقة طرحت فيها مشروعية الحكم من جديد بعد وفاة أحمد المنصور السعدي و المولى اسماعيل العلوي.
     وهذا الوضع يدفع الى طرح سؤال جوهري و هو : الى اي حد تساهم شخصية السلطان في اقرار الاستقرار و الاستمرار ؟
     فمن خلال تصفحنا و استقرائنا لتاريخ المغرب نلاحظ أن هيبة الدولة و قوتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بهيبة و قوة السلطان لذلك فبمجرد اختفاءه توضع علامة استفهام اما كل شيء.
1-   الظروف التي تولى فيها السعديون الحكم:
عندما تولى السعديون الحكم كان المغرب يعرف تمزقا داخليا لضعف سلطة الوطاسيين التي اصبحت مقتصرة على مدينة فاس و ما يحيط بها ، كما ان الوطاسيين انهكت قواهم في محاربة الثائرين داخليا و مواجهة الغزو الايبيري خارجيا . و هناك عدة ظروف ساعدت السعديين على الوصول الى الحكم منها الاحتلال الاسباني و البرتغالي لسواحل المغرب الاطلسية منذ مطلع ق 16 بما في ذلك سواحل سوس إضافة الى ان جنوب المغرب كان يعيش فراغا سياسيا لانعدام السلطة الوطاسية فيه مما ادى الى ظهور فوضى و اضطرابات و صراعات بين القبائل .
      و أمام هذا الفراغ السياسي اصبح الفقهاء و المتصوفة يلعبون دور السلطة في فك النزاعات و توفير السلم ، و من أهم الشيوخ الذيم برزوا في هذه المنطقة الشيخ محمد بن امبارك الاقاوي نسبة الى قرية آقا و هو من مريدي محمد بن سليمان الجازولي ، الذين جمعوا بين العلم و العمل . و نظرا للمكانة التي كان يحتلها الشيخ محمد الاقاوي في مجاله الذي عمل على تنظيمه فإن بعض القبائل السوسية بادرت الى مبايعته على اساس حمايتها و القيام باعمال الجهاد ضد كل خطر خارجي الا ان الشيخ رفض طلبهم لما عرف عنه من زهد و ورع و عزوف عن الملك و السياسة ، لذا نصحهم بمبايعة الشريف محمد بن عبد الرحمان (جد السعديين) من تاكمادارت بدرعة و كان ذلك سنة 915 ه الموافق ل 1510 م . و هكذا بايع اهل سوس محمد بن عبد الرحمان في قرية تدسي قرب مدينة تارودانت و خطب فيهم باللهجة الامازيغية ، فوقع اجماع على بيعته .
      كان المشروع السياسي محكما و مضبوطا ، إذ اعتمد الدقة و التدرج في تنفيذه ، فالرجل كانت له كفاءات عالية إذ استثمر كل المؤهلات سواء العلمية أو الدينية أو النسب الشريف و أيضا المكانة الاجتماعية و الصلاح و هي كلها مفاهيم مشتركة بين كل المتطلعين للسلطة عبر تاريخ المغرب و ملوح بها ايديولوجيا لتحقيق المشروعية في مجتمع متدين و كسب الدعم الشعبي . و أول شيء قام به محمد بن عبد الرحمان هو بيعة ابنه الاكبر احمد اذا اصبح يلقب بملك سوس أما هو فلقب بالقائم بامر الله و تبنى فكرة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر . كما استغل الكرامة و ما تحمله من رموز و دلالات لاكتساب مشروعية الحكم.
     و حسب لطفي بوشنتوف في كتابه " العالم و السلطان" اختلف الباحثون حول الظروف التي ادت الى قيام السعديين فهناك من تبنى مقاربة التصوف و الصلاح اي ان الدولة قامت بفضل الصوفيةو زواياها و هناك من تبنى مقاربة طبيعية لها علاقة بجفاف و مجاعة و وباء 1521-1522 م التي ابانت عن ضعف الوطاسيين و عجزهم عن احتواء الازمة و بروز السعديين في الجنوب المغربي و قدرتهم على التحكم في المنطقة حسب حميد التريكي و روزان بيرجي في مقالهما : المجاعة و الاوبئة في المغرب في ق 16-17 م و هناك من ربط وصول السعديين الى الحكم باقتناء السلاح الناري مقايضة بسلعة السكر ، إذ تنبه السعديون الى انه لا يمكن الانتصار على الوطاسيين بفاس و الهنتاتيين بمراكش و تحرير الثغور من يد البرتغال إلا بتسليح الجيش بالسلاح الناري فعملوا على استيراده من الموانئ عن طريق المهربين ،ى و هكذا اقترن نجاح مشروع السعديين السياسي في بداياته بكسب المعركة التجارية بالاساس مما مكنه من التغلب على كل القوى المحلية و البرتغاليين و الوطاسيين حسب الباحث محمد المهناوي في بحثه : السلاح الناري في مغرب السعديين.
    في حين ركز بعض الباحثين على المتغيرات التي طرئت على البنى الاجتماعية التقليدية ، إذ ان العصبية القبلية لم تعد لها نفس الفعالية في تاسيس الدولة و خلق وحدة سياسية خاصة بعد الظرفية التي اصبح يعيشها المغرب في عهد الدولة الوطاسية التي تحول فيها من موقع المهاجم الى موقع المدافع سواء على حدوده أو اقتصاده أو دينه . و امام تراجع العصبية أصبح الشرف هو السبيل الوحيد لبلوغ الهدف.
2-   الاسس المادية لقيام السعديين:
بعد بيعة محمد القائم بالله سنة 1510 م من طرف القبائل السوسية اشترط عليها ان تسلمه كل قبيلة عشرة اشخاص من ابنائها مجهزين باسلحة ، فاجتمع له 500 رجل و بعد بيعة ابنه احمد الاعرج بادر السعديون الى القيام بعمليات الجهاد لتحرير السواحل المغربية من الاحتلال الايبيري . و قد استغل احمد الاعرج مؤهلات المنطقة الزراعية و التجارية للحصول على الاموال اللازمة لشراء الاسلحة و تمويل الجيش الذي تزايد عدده و إضافة الى هذه الموارد اولى السعديون عناية كبيرة لمسألة الجباية كأحد و ابرز الاسس الاقتصادية لخلق توازن مالي للقيام بالجهاد اذ كان لا بد من البحث عن الموارد المالية لتمويل النفقات العسكرية و هذا ما فعله محمد القائم بامر الله بمجرد البيعة بادر الى جمع المال لتجنيد الجنود و ممارسة الجهاد الذي ظل حاضرا و مستمرا طيلة فترة حكمهم حتى بعد تمكنهم من السلطة فقد وظف هذا الشعار لتبرير الحصول على الاموال و اضفاء طابع المشروعية على النظام الجبائي.
        تذكر أغلب المصادر أن الضرائب التي كان يحصل عليها محمد بن عبد الرحمان و ابنه احمد الاعرج كانت شرعية اي مقتصرة على الزكوات و الاعشار لكن بعد اتساع المجال الذي اصبح يتحكم فيه السعديون و ما يتطلبه هذا المجال من مصاريف ، جعل محمد الشيخ يفرض ضريبة النائبة على شريحة من المجتمع كانت معفاة منها و هي الاولياء و الصلحاء و الشرفاء . فضريبة النائبة ظهرت منذ عهد محمد بن عبد الرحمان ، فاول من من اداها له السوسيون بعد مبايعتهم له و كانت عبارة عن بيضة دجاجة لكل كانون(اسرة) ثم اصبح بديل البيضة درهم و بذلك ظهرت أول نائبة في الدولة السعدية حسب الناصري في الاستقصا، ج 5، ص8 . و قد كانت تؤدى النائبة حسب عدد الافراد الذين يتكون منهم الكانون لا حسب ما ينتج الكانون اي لا تضع المحصول هو الاساس بل تعتبر فقط عدد الافراد.
       إن الاجراء الذي اتخذه محمد الشيخ بفرض النائبة على فئة من المجتمع كانت معفاة (العلماء، الفقهاء، الشرفاء....) يدل على ان السعديين بدؤوا يبحثون على كل الوسائل لتقوية مركزية دولتهم خاصة بعد القضاء على آخر سلطان وطاسي سنة 1554 م هذا من جهة و من جهة اخرى يدخل فرض النائبة على الزوايا ضمن خوف محمد الشيخ من هذه الفئة التي اصبحت لها تاثيرات عميقة على المجتمع اضافة كما يقول الباحث الفقيه الادريسي ان الظرفية التي كان يعيشها المغرب جعلته لا يراعي التوافق بين الممارسة السياسية للدولة و مرجعيتها الدينية . أما رد فعل الاولياء و المتصوفة فكان عنيفا ، إذ رفض البعض منهم أداء النائبة مما جعل محمد الشيخ يستعمل القوة لردع هؤلاء عن طريق التقتيل و الترحيل و تخريب الزوايا و يلاحظ ان حلفاء الامس من الاولياء و المشايخ و الزوايا هم من بادر الى اعلان الثورة و الخروج عن الطاعة حينما شعروا بخطورة الاجراءات الجبائية و ما لها من انعكاس على مواردهم الاقتصادية و الكل يعلم ان ممتلكات الزوايا و مصالحها كانت كبيرة و انها كانت تستفيد دون مقابل و أن السلاطين كانوا يصدرون اوامرهم لحماية هذه الاملاك بظهائر و توقيرات و رغم الصرامة التي اظهرها محمد الشيخ اتجاه الزوايا فانه لم يتمكن من الحد من ثوراتهم التي استمرت حتى بعد وفاته على عهد ابنه عبد الله الغالب . إلا ان هذا التوتر سيحل محله تقارب بين عبد الله الغالب و الزوايا و لكن ليس بسبب حذف النائبة و انما بسبب الجهاد ضد الاتراك الذين كانت لهم محاولة الهجوم على مدينة فاس ثم صد هجومات الاسبان و البرتغال و ان كان سيقع جفاء من جديد بين عبد الله الغالب و رجال الزوايا عندما تخلى للاسبان عن حجر باديس سنة 1564 م

3-   الصراع الوطاسي السعدي:
تفيد الاشارات التاريخية على ان العلاقات الوطاسية السعدية في عهد محمد بن عبد الرحمان عرفت نوعا من الاستقرار و التعاون في مجال الجهاد ، و من المؤكد ان هذا التعايش استمر حتى بعد وفاة محمد بن عبد الرحمان فقد تمكن السعديون من الحصول على اذن من السلطان الوطاسي للقيام بالجهاد في جنوب المغرب و قد منحتهم هذه العملية قوة و مكانة و شعبية داخل المجتمع المغربي خاصة عندما حققوا مجموعة من الإنتصارات على المحتلين للسواحل المغربية الشيء الذي عجز عن تحقيقه الوطاسيون و نتيجة هذا الوضع اصبح السعديون يشكلون اقوى منافس للوطاسيين على المستوى الجهادي بل حتى على المستوى السياسي و هذا سيظهر من خلال الصراع و التوتر اللذين طبعا العلاقات بينهما .
      إن الحدث السياسي الذي وتر العلاقات بين الوطاسيين و السعديين هو استيلاء هؤلاء على مراكش سنة 1521 م . إذ ابان ذلك عن طموحات السعديين السياسية . و قد دفعت هذه الحرب الطرفين الى التفاوض مع المحتل البرتغالي إما لطلب العون كما هو الشأن بالنسبة للوطاسيين أو لعقد هدنة لمدة ثلاثة اشهر بالنسبة للسعديين . بعد هذه الاحداث خرج السلطان الوطاسي محمد البرتغالي ( امه كانت برتغالية) نحو مراكش التي حاصرها مما جعل احمد الاعرج ينسحب من مراكش ما بين سنتي 1523-1524 م ثم يعود اليها بعد ان عزز جنده بقبائل اخرى هم القبائل هم قبائل: المغافرة و السباعيين و دخل مراكش و قتل حاكمها و حتى يتفرغ احمد الاعرج لتهدئة الاوضاع بالمدينة بعد حالة الاستياء التي خلفها اغتيال حاكمها و حتى لا يثير غضب السلطان الوطاسي فانه عقد معه هدنة و بعث له سفارة على فاس مخبرا اياه انه يستمر في ولاءه و انه سيدفع له الضرائب مقابل الاعتراف بهم كامارة . الا ان هذه العلاقة لم تدم طويلا إذ سرعان ما توقف السعديون عن اداء الضرائب لحكام فاس تحت ذريعة انهم شرفاء و انه ماحق بحكم المغرب و انهم يمارسون الجهاد . و على اثر ذلك اندلعت الحرب مرة اخرى بين السعديين و الوطاسيين اذا حاصر احمد الوطاسي مدينة مراكش سنة 1527 م لكن هذا الحصار لم يستمر طويلا لوصول مساعدات عسكرية من تارودانت قادها محمد الشيخ السعدي و لاندلاع ثورة بفاس ضد احمد الوطاسي مما اضطره الى فك حصاره عن مراكش و الرجوع الى فاس لتهدئة الاوضاع.
         إن انشغال الوطاسيين بتهدئة الثورات التي كانت تندلع في فاس ساعدت السعديين على توسيع مجالهم الذي شمل عدة مناطق منها تارودانت و حاحا و سوس و درعة . و نظرا لتطلعات السعديين للاستيلاء على تادلة فان احمد الوطاسي جهز حملة عسكرية في سنة 1530 م لمحاصرة السعديين بمراكش و قد دارت الحرب بين الطرفين عند انماي ( تقع في طريق مراكش و تادلة على وادي تساوت احد روافد نهر ام الربيع) إلا أن تدخل العلماء و الصلحاء اوقف الحرب التي انتهت بعقد صلح بين الطرفين في سنة 1531 م و قد نص هذا الصلح على بندين هما :
أولا : قسمة البلاد على اساس ان ما كان من نهر ام الربيع الى سوس اضافة الى درعة فهو للسعديين و ما كان من نهر ام الربيع الى تادلة اضافة للسجلماسة فهو للوطاسيين.
ثانيا : ضمان حرية التجارة بين القسمين على اساس تعويض طرف لما يضيع من السلع و المال في دائرة حكمه ( مؤرخ مجهول : تاريخ الدولة السعدية ص 7 ) و بهذا الصلح حصل السعديون على مكسبين هما : أ- امتداد المجال الترابي ب- اعتراف الوطاسيين و من معهم من العلماء بهم كقوة تحكم نصف البلاد . لكن الملاحظ هو ان السعديين لم يحترموا بنود هذا الصلح اذ ظلوا يدعون الناس لبيعتهم و طاعتهم و يستقطبون القبائل و قادة الجيش الوطاسي كما ظلوا يطمعون في الاستيلاء على تادلة .
و كانت نتيجة هذه الخروقات أن قامت الحرب بين الطرفين سنة 1536م مني خلالها الوطاسيون بهزيمة في مشرع بوعقبة و انتهت المعركة بعقد صلح استفاد منه السعديون اذ ضموا اليهم منطقة تادلة . غير ان الصلح لم يستمر طويلا ، فأحمد الوطاسي ظل يشن هجمات لاسترجاع منطقة تادلة . و يلاحظ انه بعد معركة بوعقبة تمركز الصراع حول منطقتين حيويتين هما تادلة باعتبارها ممرا استراتيجيا نحو مراكش ، و منطقة تافيلالت باعتبارها محطة للقوافل التجارية الصحراوية .
ابتداء من سنة 1538م ازدادت الاحوال سوءا و توترا بمدينة فاس حيث انعدم الامن كما زادت تخوفات احمد الوطاسي بعد ان اصبح السعديون على مقربة من حاضرة فاس و امام تزايد قوتهم و ممارستهم الجهاد اضطر الوطاسي الى عقد هدنة مع البرتغال . و زادت شعبية السعديين عندما تمكنوا من تحرير حصن سانتا كروز ( اكادير حاليا ) في سنة 1541م ثم انسحاب البرتغاليين من نفس السنة من ازمور و اسفي.
   بعد انتهاء الصراع بين احمد الاعرج و محمد الشيخ حول السلطة و ذلك بانتصار هذا الاخير ستندلع الحرب من جديد بين الوطاسيين و السعديين فعرفت سنة 1545م معركة بين الطرفين بوادي درنة ( احد روافد أم الربيع ) انتهت بهزيمة أحمد الوطاسي و سجنه و بقاءه رهينة عند محمد الشيخ الى غاية 1547م . و امام هذا النزاع السياسي بادر اهل فاس الى بيعة ابن احمد الوطاسي و هو محمد القصري و بعد معركة درنة بدأ السعديون يهددون مدينة مكناس التي تعرضت لهجوم سنة 1546م و كاد يسيطر عليها محمد الشيخ لولا ايقافه الحصار بعد ثورة اخيه احمد الاعرج عليه و سيطرته على مراكش مما جعله يتوجه الى الجنوب لانقاذ الموقف.
   و قد حاول محمد الشيخ استغلال وجود احمد الوطاسي كرهينة لديه للحصول على مناطق متعددة من مملكة فاس . و بالفعل نجحت الخطة السعدية في الضغط على الوطاسيين فعقد اتفاق معهم في 22يوليوز 1547م و كانت نتيجة هذا الاتفاق حصول محمد الشيخ على مكناس و سلا و القصر الكبير و تطوان و شفشاون مقابل اطلاق سراح السلطان الذي احتفظ فقط بفاس و تازة . الا ان الوطاسي لم يحترم هذا الاتفاق و دخل في حرب مع محمد الشيخ على نهر سبو في سنة 1548م انتصر فيها على محمد الشيخ . و رغم هذا الانهزام فإن محمد الشيخ واصل حربه من اجل القضاء على الوطاسيين و الاستيلاء على فاس و فعلا تمكن من ذلك سنة 1549م بعد حصار المدينة و تجويعها و شراء ذمم بعض اهلها الذين يسروا له دخولها . فقبض على احمد الوطاسي و اسرته كما قام باغتيال المفتي عبد الواحد بن احمد الونشريسي الذي ظل متشبثا ببيعة الوطاسيين في حين فر ابو حسون الوطاسي الى باديس ( شمال المغرب على الساحل المتوسطي) و منها الى شبه الجزيرة الايبيرية ) لطلب النجدة و تمكن من الحصول على مساعدة برتغالية الا انه اثناء عودته تم القبض عليه من طرف الاتراك ( قرصنة بحرية ) الذين نقلوه الى الجزائر فدخل معهم ابو حسون في مفاوضات من اجل مساعدته لاسترجاع عرش اجداده .و قد وافقه السلطان سليمان القانوني على ذلك و خرجت الحملة التركية برفقة ابي حسون من تلمسان سنة 1553م و تمكنت من الدخول الى فاس في يناير 1554م الا ا نابا حسون لم يمكث بفاس الا ثمانية اشهر لان محمد الشيخ تمكن من الدخول اليها في شهر شتنبر من نفس السنة بعد قتل ابي حسون
الأوضاع بالمغرب بعد وفاة احمد منصور السعدي
1-   ازمة الحكم السعدي و تصارع ابناء احمد المنصور:
     سنحاول في هذه الدراسة تحليل اوضاع المغرب في بداية القرن السابع عشر الميلادي ، اي بعد وفاة احمد المنصور و التساؤل حول بعض القضايا و الاسباب الجوهرية و العميقة التي ساهمت في هذه الازمة مثل مشكل البيعة و السياسة المتبعة من طرف السلاطين و دور العلماء كطرف في هذه الازمة و مدى تأثير الوضع السياسي على الاقتصاد و على المجتمع .
    لقد عاش المغرب فترة استقرار و ازدهار خلال حكم الدولة السعدية التي تمكنت من استرجاع بعض الثغور من يد البرتغاليين و الاسبان و زاد الوضع تحسنا في عهد احمد المنصور الذي اخضع كل البلاد تحت حكمه بعد الانتصار في معركة وادي المخازن سنة 1578م هذا الانتصار الذي عزز مكانة المغرب بين الدول الاوربية فربطت معه علاقات ديبلوماسية و تجارية خاصة بعد غزو احمد المنصور بلاد السودان سنة 1591م لكن بعد وفاة هذا السلطان سنة 1603م بالطاعون دخل المغرب سلسلة من الاضطرابات دامت تقريبا 60 سنة من سنة 1603 الى 1666م اي سنة دخول المولى الرشيد الى مدينة فاس .
     فأحمد المنصور لم يكن قد بت في مسألة ولاية العهد خاصة بعد ان ثار عليه ابنه الشيخ المامون الذي كان خليفته في مدينة فاس و ولي عهده ، فقبض عليه و سجنه بمكناسة و عين المولى زيدان على مدينة فاس . و بعد وفاة احمد المنصور بايع علماء فاس المولى زيدان و لما سمع المراكشيون بالخبر بايعوا ابا فارس الذي كان الخليفة الرسمي للسلطان بمراكش . و زاد من تأزم الوضع فتوى علماء فاس بوجوب قتال المراكشيين عملا بالحديث النبوي " اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما " فالتقا الجيشان عند ضفة نهر ام الربيع و تمكن ابو فارس بمساعدة اخيه محمد الشيخ المامون بعد ان اخرجه من السجن من الانتصار على زيدان الذي فر عند الاتراك في تلمسان . أما الشيخ المامون و بعد ان احس بقوة جانبه اعلن نفسه خليفة و اخذ البيعة من علماء فاس و بعد احتدام الصراع بينه و بين إخوته حول السلطة و بعد انهزامه في فاس فر الى اسبانيا لطلب المساعدة من فيليب الثالث مقابل تسليم هذا الاخير مدينة العرائش سنة 1610م.
    و تذكر المصادر انه كاتب علماء فاس يسألهم عن مشروعية ما فعل و يذكرها الافراني في كتابه " نزهة الحادي " لما وغل في بلاد العدو الكافر و اقتحمها كرها باولاده منعوه من الخروج من بلادهم حتى يعطيهم ثغر العرائش ، و انهم ما تركوه خرج بنفسه حتى ترك لهم أولاده رهنا على ذلك . فهل يجوز له ان يفدي أولاده من ايدي الكفار بهذا الثغر أم لا ؟ فأجاب جلهم بالقبول و بأن فداء المسلمين سيما أولاد أمير المؤمنين سيما أولاد سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم من يد العدو الكافر باعطاء بلد من بلاد الاسلام له جائز و إنا موافقون على ذلك . فوافقه بعض العلماء خوفا على انفسهم في حين فر عدد منهم من فاس لعدم قبولهم لهذه الفتوى و إلتجأ البعض منهم الى زاوية الدلاء و هناك من العلماء الذين انكروا ذلك علانية على المامون و هو الشيخ محمد بن علي الأغصاوي ، فكان رد فعل المامون عنيفا عندما ارسل اليه اعوانه فقتلوه ضربا . و قد كان تسليم العرائش للاسبان سببا في قيام موجة من الغضب الشعبي انتهت بقتل الشيخ المامون سنة 1613م من طرف محمد بن ابي الليف بضواحي مدينة تطوان كما ان اخاه ابا فارس قتل قبله خنقا.
     يلاحظ أن انقسام العلماء بين مؤيد و معارض ساهم في تكاثر الاضطرابات كما ان العامة اصبحوا لا يأخذون ببعض فتاويهم خاصة في المواقف السياسية ، يقول الحسن اليوسي في محاضراته ص :121 " أما الزمان فلا تسأل عنه ، في الحديث النبوي : سيفان إذا أصلحا أصلح الناس و إذا فسدا فسد الناس : الامراء و العلماء ، و قد فسدا معا ، و الى الله المشتكى " . و كان نتيجة هذا الصراع أن انقسم المغرب الى مملكتين . مملكة فاس يحكمها عبد الله بن الشيخ المامون و منافسوه من الثوار الى ان انقرض امر السعديين بهذه المدينة بموت عبد الملك بن الشيخ المامون أواخر سنة 1627م . و مملكة مراكش التي كان يحكمها زيدان و أبناؤه من بعده الى ان قتل اخرهم و هو احمد بن الشيخ بن زيدان سنة 1658م . فانتهى أمر السعديين و استولى عرب الشبانات على مراكش الى ان استولى عليها المولى رشيد سنة 1668م.
     يلاحظ ان حكم السعديين اصبح يتقلص شيئا فشيئا الى ان اقتصر على مدينتي فاس و مراكش و ما يحيط بهما . مما أدى الى ظهور بعض الزعامات المحلية مثل المجاهد العياشي و بعض ارباب الزوايا الذين كانت لهم طموحات سياسية كابي حسون السملالي و ابو زكريا الحاحي و محمد الحاج الدلائي و ابن ابي محلي.
2-   الاوضاع الاقتصادية :
   إن أسباب الازمة التي ادت الى انهيار الحكم السعدي عميقة و متعددة الجوانب ، فالمغرب فقد مكانته المرموقة التي اكتسبها على اثر معركة وادي المخازن و غزو بلاد بلاد السودان . فبموت احمد المنصور أصبح المغرب يعرف عدة صعوبات اقتصادية منها ما له علاقة بالكوارث الطبيعية التي اجتاحته كقلة الامطار و غلاء المعيشة و انتشار الوباء و منها ماله علاقة بالوضع الاقتصادي العام الذي كان يعيشه المغرب و التحولات الدولية التي عرفتها بداية القرن السابع عشر . فالاسس التي كان يقوم عليها الاقتصاد المغربي في عهد احمد المنصور انهارت نسبيا و هي تجارة السكر و الذهب. فمادة السكر كانت معروفة منذ العهد المرابطي حسب ما جاء عند الادريسي في كتابه نزهة المشتاق و سيعرف توسعا اكثر مع السعديين لدرجة ان عبد العزيز الفشتالي في كتابه " مناهل الصفا " شبهها بأهرام مصر ( زراعة قصب السكر) فصناعة السكر كانت تمثل % 33 من مداخيل بيت مال السعديين الا ان الاضطرابات التي عرفها المغرب في ق.17 و منافسة دول امريكا اللاتينية و جزر الانتيل زحزحت المغرب عن مركز الزعامة في الاقتصاد و اصبحت هذه الدول تستقي مادة السكر من هذه المناطق .
    أما مادة الذهب فظل المغرب لعدة قرون يلعب فيها دور الوسيط بين افريقيا و اوربا الغربية الا ان الوضع عرف تغيرا في اواخر الدولة المرينية عندما استولى السعديون على الحكم أصبح على عاتقهم فك الحصار الاقتصادي المضروب على المغرب و لم يتمكنوا من ذلك الا بعد انتصارهم في معركة وادي المخازن و غزو بلاد السودان . إذ اصبح الاتصال مضمونا من جديد لكن بعد وفاة أحمد المنصور نقصت كمية الذهب و اخذت القوافل تتجه نحو ايليغ ا والى سجلماسة ( يوجد بها العلويون ) و اصبح المغرب يستقبل قافلة كل ثلاث سنوات . و قد كان للاوربيين دور في ذلك إذ عملوا على احتكار  جزء مهم من تجارة السودان عبر السواحل الافريقية بانشاء مراكز هامة  مثل مركز سان لوي بالسنغال من طرف الفرنسيين . و هكذا استغنى الاوربيون عن الوساطة المغربية و وصلوا الى مناجم الذهب كما هتموا بتجارة العبيد لبيعهم بأمريكا و مقابل ذلك كانوا يبيعون للسكان المحليين الاسلحة مما زاد من تدهور التجارة المغربية بالسودان .

العرض :
المبحث الاول : الدولة السعدية قبل وصول احمد المنصور الذهبي للحكم .
المبحث الثاني : مميزات عصر احمد المنصور الذهبي على المستوى الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي و العسكري و الثقافي .
الزوايا و الزعامات المحلية :
    لقد مر المغرب من ازمة خانقة لم تبق فيها النزاعات منحصرة في القصر (البلاط) بل نقلها ابناء احمد المنصور الى المجتمع . هذه الازمة شاركت فيها اطراف متعددة فانقسمت البلاد الى وحدات سياسية ، يقول الزياني في كتابه " البستان الظريف " ص: 7 " بعد موت زيدان تطاولت ايدي و رؤساء القبائل و عمالها الى الاستبداد على الدولة لمرضها و هرمها و شارك من له شوكة قوية و ساروا كملوك الطوائف بالاندلس " .
   و امام تفاقم الاوضاع سقطت عن السعديين الصلاحية الشرعية لقيادة المغاربة في شؤونهم الدينية و الدنيوية و منها الجهاد .
ü   ابن ابي محلي : كان يزعم انه من نسل العباسيين ، تلقى العلم بمدينة فاس و بقي فيها عدة سنين . الف عدة كتب تدور كلها حول البدع . كانت له مواقف من المنحرفين من الدين كما عرف بتصوفه . استقر مدة بالزاوية الدلائية ثم اتجه الى واحة الساورة و اخذ يدعو لنفسه باعتباره المهدي المنتظر ، و اعتمد في دعوته على المراسلة و الاتباع خاصة بعد تسليم محمد الشيخ المامون مدينة العرائش للإسبان فأصبح يدعو الناس للجهاد و توجه الى مدينة مراكش و طرد منها زيدان بن احمد المنصور و استقر بقصر الخلافة و ضرب السكة ( النقود ) باسمه الا ان تجربة ابن ابي محلي لم تدم الا 3 سنوات و سرعان ما استنجد زيدان بابن ابي زكريا الحاحي الذي تمكن من القضاء على ابن ابي محلي سنة 1614م و احتز (قطع) راسه و علقه على سور مدينة مراكش مع رؤوس جماعة من اصحابه مدة 12 سنة . و يبقى السؤال المطروح كما يقول الاستاذ عبد المجيد القدوري في كتابه " المغرب و اوربا في القرنين 16و 17 " هل كانت ثورته مجرد مغامرة و اندفاع ؟ أم كانت تعبر في عمقها عن سخط و انزعاج طائفة من علماء المغرب الذين تذمروا مما اصاب المغرب من خروج عن الاسلام الصحيح و ان الوضع لن يصحح الا بوجود امام منقذ ؟
و قد عرفت منطقة سوس عدة محاولات للاستقلال عن السلطة الا ان اهم هذه الحركات هي تلك التي تزعمها ابو زكريا الحاحي و ابو حسون السملالي .
ü   ابو زكريا الحاحي :  عرف بالعلم و الصلاح . درس بمدينة فاس و بعد وفاة والده تولى أمور زاويتهم التي توجد بالزداغة شمال مدينة تارودانت سنة 1603م و كما سبق الذكر كان ابو زكريا مساندا للامير زيدان اذ سانده في حروبه ضد ابي محلي و بعد القضاء على هذا الاخير ظل ابو زكريا مقيما بمراكش في حين كان الامير زيدان بمدينة آسفي . و عندما دام مقامه بمراكش كاتبه زيدان " رسالة زيدان الى زكريا " : " اما بعد فإن كنت جئت لنصرتي و كف يد ذلك الثائر فقد ابلغت المراد و شفيت الفؤاد ، و ان كنت انما رمت ان تجر النار لقرصك و تجعل الملك من قنصك ، اقر الله عينك به "
   فاضطر ابو زكريا الى مغادرة مراكش و بعد رجوعه الى بلده اعلن ثورته و اظهر اطماعه في الحكم مدعيا حماية الدين و جمع كلمة المسلمين فانتزع تارودانت من يد ابي حسون السملالي و اتخذها عاصمة الا حركته لم تتجاوز كثيرا مدينة تارودانت الى ان توفي سنة 1626م.
ابو حسون السملالي : يعرف بعدة القاب منها ابو الحسن و بودميعة و صاحب الساحل و امير سوس و شيخ إليغ و هو من أحفاد الشيخ الشهير احمد بن موسى السملالي ، اعلن ثورته سنة 1613م اسس مدينة إليغ و اتخذها عاصمة لامارته و خضعت له كل منطقة سوس بعد وفاة ابي زكريا الحاحي . كانت له طموحات سياسية كبيرة فقد امتد نفوذه الى درعة و سجلماسة سنة 1630م . أقام ابو حسون علاقات تجارية مع الدول الاوربية التي كانت لها مصالح في المغرب . فعقدت معه معاهدات تجارية و اصبحت تتفاوض معه باعتباره صاحب الساحل . كانت هذه العلاقات التجارية الخارجية من اهم الاسباب التي دعمت نفوذ ابي حسون بمنطقة سوس الا ان نفوذه سيتراجع عندما دخل في صراع مع العلويين و الدلائيين و وقعت حروب كثيرة بينهم ادت الى انكماش امارة ابي حسون و اقصاءه عن سجلماسة و درعة حوالي 1640م على يد محمد بن الشريف و بقي نفوذه مقتصرا على سوس الى توفي سنة 1655م فخلفه ابنه محمد الى ان استولى المولى الرشيد على الزاوية السملالية سنة 1670م فهدمها و شتت اهلها .
ü   الزاوية الدلائية : اسست سنة 1566م و لم يكن لشيخها محمد بن ابي بكر اطماع سياسية و ظلت هذه الزاوية تهتم بما هو ديني و علمي معترفة بالسلطة السعدية بمراكش . و رغم ان نفوذها وصل الى تادلة و الغرب و كانت مؤهلة لتوحيد البلاد لتوفرها على قاعدة مادية . إذ كانت تراقب الطريق الصحراوي و كانت صلة وصل بين الجبال و السهول . و فتحت لها بابا على المحيط عندما استولت على مدينة سلا .
و رغم ذلك فقد نهجت الزاوية الدلائية اسلوب الحذر و الاحتياط و قد رأى المفكر جاك بيرك في هذا السلوك بعدا وطنيا ضائعا لان الزاوية كانت مؤهلة لبناء دولة .
فلماذا لم يحاول الدلائيون توحيد المغرب ؟ هل هذا راجع الى انعدام الطموحات السياسية لديهم ام لاسباب اخرى ؟
في حين هناك كتابات اخرى خاصة الاوربية تؤكد على الطموحات السياسية للزاوية و التي اوقفها المولى الرشيد بالاستيلاء عليها سنة 1668م و اخذه كل ما تملكه هذه الزاوية و ترحيل شيوخها و تخريب كل مدينتهم . فكان الدمار المادي اوهن من الدمار النفسي الذي هو الاغتراب و النفي .

ü   المجاهد العياشي : هو محمد بن احمد المالكي الزياني السلاوي اصله من قبيلة بني مالك من العرب الهلالية المستوطنة بلاد الغرب و فصيلته القربى بنو زيان القاطنون اليوم باحد ولاد جلول بدائرة القنيطرة و سوق الاربعاء الغرب ، و هو من تلامذة عبد الله بن حسون و هو الذي اشار عليه بالجهاد . بدأ عملياته الجهادية منذ اوائل القرن السابع عشر في بلاد دكالة حيث قاتل البرتغاليين في الجديدة و قد كافأه السعديون بعمالة ازمور حيث ظل يضايق البرتغاليين بهذه المناطق مما جعلهم يتضايقون منه فعمدوا الى الحيلة و الخديعة الى ان جهز زيدان جيشا لمحاربته (ايقاع الخلاف بين العياشي و السعديين –زيدان-) الا ان قائد الحملة محمد السنوسي اخبر العياشي بالامر فرحل هذا الاخير الى بلاد الغرب و رجع بعدها الى مدينة سلا حيث ظل يجاهد . و قد تمكن من ضبط الامور بمنطقة الغرب و قاد عمليات عسكرية ضد المستعمر بدأت بسيطة ثم تزايد عددها الى ان بلغت اوجها سنة 1631م عندما قاد اربع عمليات عسكرية ضد مناطق المعمورة و العرائش .
و على العموم فالحركة العياشية كانت حركة جهادية تعبر عن رد فعل وطني ازاء الاحتلال الاجنبي و بهذه العمليات العسكرية كسب العياشي شهرة واسعة حتى و ان لم يستطع تحقيق الهدف المحدد و هو تحرير الثغور المحتلة . فالحركة العياشية حركة حاولت ان تسد الفراغ و ان تبعد الخطر عن المناطق المهددة الى الا انها لم تقدر الظرف العام للبلاد التقدير الحقيقي و بقيت تصرفاتها و تحركاتها جزئية محلية . فساعدت بذلك على خلق الظروف المناهضة لها و بتكاثف هذه السلبيات و ظهور عناصر منافسة لها كانت نهاية هذه الحركة في ظرف لم يكن منتظرا .
و من المتناقضات المحيرة في حياة المجاهد العياشي حسب الاستاذ محمد حجي في كتاب : جولات تاريخية ج2 ص :620 :" تمرد قبائل الغرب و هم اهل عصبيته ، و عصيان اهل الاندلس في الرباط و القصبة (الوادية) و هم جيرانه و انصاره و مهاجمة الدلائيين له بعد ان اتخذوا من الدعاء له بالنصر و التأييد و اغتياله في النهاية على يد عشيرته الاقربين " و هكذا كانت نهاية العياشي على يد قبيلة الخلط حيث اغتالوه و ذلك في 21ابريل 1641م و بموت العياشي خلا الجو للدلائيين الذين دخلت تحت نفوذهم كثير من المدن منها مدينة فاس و سلا و تطوان و سائر بلاد المغرب .
بوادر قيام العلويين و اعادة تأسيس الدولة المغربية
ظهر العلويون و المغرب يعيش ازمة على جميع مستوياته ، انقسامات سياسية و ضعف اقتصادي و فتن و اضطرابات و لتجاوز هذه الازمة اصبح المغاربة في حاجة الى قوة جديدة قادرة على توحيد البلاد ، فعرف العلويون كيف يستغلون الظرف و يوظفون نسبهم الشريف للوصول الى الحكم رغم وجود منافسين يملكون استراتيجية بشرية و مادية . ( الزاوية الدلائية و السملالية ). فما هو المشروع السياسي الذي تبناه العلويون ؟
                             I.       المولى محمد و مشروع اعادة توحيد البلاد :
تتفق كل الكتابات التاريخية حول شرف العلويين فأصلهم من الينبوع ببلاد الحجاز و أول قادم منهم الى المغرب هو الحسن بن القاسم في القرن الثالث عشر الميلادي و هناك اختلاف حول سبب قدومه ، إذ يرجعه البعض الى خلو سجلماسة من الشرفاء اثر تفرق الشرفاء الادارسة في البلاد فقل الشرق في المغرب فأراد المرينيون ان يملؤوا بهم هذه المدينة و البعض يرجعه الى رغبة المغاربة في الانتفاع ببركة الشرفاء في حل ازمة انتاج النخيل . و قد كان للشريف علي جد الملوك العلويين مكانة مهمة ند اهل تافيلالت لذلك بايعوه سنة 1634م الا انه تخلى عن هذه البيعة لابنه محمد الذي تمت بيعته سنة 1640م بعد ان انتزع نهائيا المنطقة من يد ابي حسون السملالي الذي كان الشريف بن علي استنجد به ضد اهل حصن تابوعصامت الذين استنجدوا بدورهم بمحمد بن ابي بكر الدلائي فارسل جيشا بقيادة ابنه محمد الحاج الا انه لم تقع حرب بين الطرفين . بعد ذلك تطورت العلاقات بين العلويين و ابي حسون السملالي عندما اصبح هذا الاخير مساندا لاهل تابوعصامت و حبس الشريف بن علي في سوس و هناك اختلاف حول سبب حبسه اذ يرجعه البعض الى محاصرة محمد بن الشريف لحصن تابوعصامت و الاستيلاء على ذخائره و هروبه الى الصحراء و هناك من يرجعه الى تمرد الشريف على السملالي عند اخذه البيعة من سكان تافيلالت . و امام هذا الوضع التجأ ابناء الشريف الى اهل الدلاء (الزاوية الدلائية ) ليتوسطوا لهم السملالي حتى يطلق سراح والدهم . فكتب له محمد بن ابي بكر رسالة يعاتبه فيها على سوء معاملته للشرفاء طالبا منه اطلاق سراح الشريف و التخلي عن تافيلالت .
و رغم كل الخطابات التي بعث بها الدلائي لابي حسون السملالي فانه لم يطلق سراح الشريف و انما خفف عليه عندما جعله في شبه اقامة محروسة و بقي في السجن الى حدود سنة 1638م حتى افتداه ابنه امحمد بمال كثير .
و بعد أن نجح العلويون في انتزاع منطقة تافيلالت نهائيا من يد السملالي بدأ يتجلى المشروع السياسي للمولى محمد و الذي كان يرتكز في نقطة واحدة هو اعادة بناء الوحدة الوطنية و انهاء مظاهر التفكك السياسي . و هكذا بدأت اهتماماته تنصب حول المناطق المجاورة خاصة واد درعة لاهمية المنطقة من الناحية الاستراتيجية و التجارية فقد كانت ممرا للقوافل التجارية .
و للاستيلاء على هذه المنطقة سلك المولى محمد مرحلتين اعتمد في الاولى على الديبلوماسية اذ حاول اقناع سكان واد درعة في الدخول تحت طاعته و كلف لهذا الغرض احد وجهاء القوم المعرف بنفوذه و هو الطيب بن عبد الله المدغري و اما المرحلة الثانية فمهد فيها للقيام بالعمليات العسكرية و نهج هنا استراتيجية معينة عندما ادخل ابا حسون السملالي في عدة معارك هامشية عن طريق اثارة اهل درعة ضده لاضعاف مركزه فضمن بذلك دخوله الى درعة و خضوعها له . هذا الخضوع الذي حقق للعلويين عمقا استراتيجيا و بشريا جعل المولى محمد يخرد بمشروعه التوحيدي الى جهات اخرى من المغرب . فوسع نفوذه في الشرق والشمال الشرقي واستولى على وجدة وبني يزناسن والاراضي الواقعة شرق ملوية, وشن غارات على تلمسان وتوغل في الصحراء شرقا فاضطرب الوضع في الجزائر خاصة بعد أن ابدى أهل تلمسان رغبتهم في الخروج عن الحكم التركي والدخول في طاعة المولى محمد مما جعل الأتراك يدخلون في مفاوضات معه أسفرت عن عقد اتفاق يوضح الحدود بين البلدين وتقرر أن يكون الحد هو نهر تافنا . وبعد أن أمن المولى محمد من أي تدخل تركي واصل تحركاته من داخل المغرب .
                         II.            علاقة الديلائيين بامارة فاس .
إذا كان محمد بن أبي بكر الديلائي زاهدا في الملك , فإن ابنه محمد الحاج أبان عن نزوعه السياسي منذ البداية . وهكذا بعد أن قضى على منافسيه في منطقة الغرب وجه اهتمامه نحو سجل ماسة عندما بلغه خبر انتشار نفوذ محمد بن الشريف . وعلى العموم فمحمد الحاج كان دائما يبحث عن وسيلة تمكنه من السيطرة على هذه المنطقة فزحف بجيشه الى تافيلالت سنة 1546 ليقضي على منافسه امحمد بن الشريف وعلى طموحاته السياسية التي تخطط للاستيلاء على منطقة الغرب , وبالتالي على مدينة فاس , ودارت بينهما معركة القاعة المشهورة التي انتهت بانتصار الديلائيين ودخول محمد الشيخ الى تافيلالت وتوقيع صلح بين الطرفين على أساس اقتسام مناطق النفوذ فجعلوا ما دون جبل العياشي من الأقاليم الصحراوية من نصيب المولى محمد وما فوق ذلك من البلاد للدلائيين واستثني محمد الحاج منطقة نفوذ العلويين في خمسة مراكز احتفظ بها , لكن بعد انصراف محمد الحاج استولى المولى امحمد على هذع المراكز مما أدى الى تطور العلاقات بين الطرفين خاصة في عهد المولى الرشيد .
                     III.   استيلاء المولى الرشيد على الحكم :
فوجئ المولى محمد بقيام أخيه المولى الرشيد عليه مطالبا بالمُلك , فبعد وفاة الشريف بن على سنة 1659 خرج المولى الرشيد من تافيلالت فارا من أخيه وبقي ينتقل في جبال الأطلس الكبير والمتوسط والزاوية الديلائية الى أن وصل الى مدينة تازة واستولى حلى على دار اليهودي بن مشعل في بني يزناسن شمال غرب وجدة فقتله وازدادت بذلك قوته بعد أن استولى على أملاكه . وعندما سمع المولى محمد باجتماع قبائل المغرب الشرقي حول أخيه حدثت بينهما مواجهات انتهت بمقتل محمد سنة 1664 وانضم جنوده لأخيه المولى الرشيد فتقوى أمره وتمكن بحزمه وقوته من أن يوطد دعائم الحكم في المنطقة التي كان يتحرك فيها أخوه بل ووسع نفوذه عندما أخضع عبد الله أعراس القائم بالريف ( ثائر) واستولى على تازة وتوجه بعد ذلك نحو سجلماسة للقضاء على حركة ابن أخيه محمد بن محمد وتمكن من ذلك بعد حصاره للمدينة مدة 7 أشهر وبعد دخوله تافيلالت سجن أبناء أخيه وبعثهم الى تازة وقتلهم .  ولما علم أهل فاس بما حققه المولى الرشيد من انتصارات في الشمال والشرق تحالفوا مع قبائل الحياينة والبهاليل وغيرهم من القبائل ليقفوا في وجهه اذا ما حاول الدخول الى فاس واستعدوا لذلك " وأمر رؤساء فاس عامتها شراء الخيل والعدة والإكثار منها ووظفوا على كل دار 'مكحلة' (بندقية) ومن لم توجد عنده مكحلة يعاقب , فاشتروا بذلك فوق الكفاية " الاستقصا الجزء 7 ص33 . وقد حاصر المولى الرشيد مدينة فاس لمدة سنة 1665-1666 ولم يتمكن من دخولها الا بمساعدة بعض الأعيان مثل أحمد بن عبد الرحمان الفاسي الذي قام بالدعوة للعلويين . يعتبر دخول المولى الرشيد الى فاس أهم إنجاز حققه باعتبار أهمية ومكانة هذه المدينة التي اتخذها عاصمة لملكه كما يفسر هذا الحدث السرعة التي سيتم بها توحيد البلاد على يده , وفي سنة 1668 قضى المولى الرشيد على الزاوية الدلائية واستولى على ما كان فيها من خيل وسلاح وكتب ووثائق وغَرّب رؤساءها الى فاس وتلمسان من غير أن يريق لهم دما ولا أن يكشف لهم عورة كما يقول الناصري . وفي سنة 1669 قضى على عرب الشبانات بمراكش , هذه الإمارة التي نشأت بعد انهيار الحكم السعدي ثم واصل تحركه نحو الجنوب فأخضع تارودانت وقضى على حكم السملاليين بإليغ سنة 1671 .
يلاحظ أن المولى الرشيد تمكن في ظرف وجيز من بسط نفوذه على كثير من أنحاء المغرب والقضاء على منافسيه , وهذا يدل على ضعف وانقسامات أصبح عليها المغرب , والدور الذي لعبه الجيش العلوي الذي نما بشكل سريع , ويشير الى ذلك الأسير "مويط" في رحلته اذ يقول أن العناصر العسكرية الأولى التي ناصرت المولى الرشيد تتكون من عرب أنكاد ثم بعد ذلك انضمت اليه قبائل المغرب الشرقي  ثم رجال تافيلالت بعد موت أخيه المولى امحمد ورجال الغرب بعد أن دخل الى فاس . ولم يعط الأسير مويط رقما عاما لجيشالمولى الرشيد , وإنما يستنتج من خلال الأرقام الجزئية أنه أصبح يتوفر على الآلاف من الفرسان والراجلين .       كما يشير الأسير مويط الى بداية تطعيم الجيش المغربي بأسرى أوروبيين خاصة في المدفعية . ( يتم ذلك عن طريق ممارسة الجهاد البحري , حيث كانت تتم مداهمة السفن الأوربية بحوض البحر المتوسط )  . الا أن الجيش العلوي سيعرف تطورا أكثر مع بداية العهد الاسماعيلي , اذ سيصبح أداة سياسية واقتصادية هامة في سيرورة الدولة المركزية , فقد أصبح عبارة عن مؤسسة عسكرية غير أن المولى الرشيد لم يتمكن من استكمال مشروعه السياسي اذ وافته المنية سنة 1672 بمراكش اثر اصابته في رأسه بعد أن سقطت عليه شجرة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق