الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

المغيّبون فى تاريخ تونس الإجتماعي... مجموعة من الباحثين

المُغَيَّبُون في تاريخ تونس الاجتماعي” هو كتاب ضمّ عديد الدراسات والبحوث لمجموعة من الباحثين الجامعيّين التونسيّين في اختصاصات مختلفة كالتاريخ وعلم الاجتماع والفنون وغيرها بتنسيق من الدكتور الهادي التيمومي، وقد أثار هذا الكتاب من جديد اهتمام القرّاء والنقّاد في سياق الثورة التونسيّة وتمّ عرضه هذه الأيّام في بهو “بيت الحكمة” بمناسبة تقديم الدكتور محمّد الطالبي لآخر كتبه، إذ أنّ الكثيرين ربطوا الماضي بالحاضر ورأوا أنّ الثورة التونسيّة، وهي ثورة كرامة وحريّة، يمكن القول إنّها ايضا ثورة “المغيّبين” من آلاف الشباب المعطّلين عن العمل والفقراء والمهمّشين.
واعتباراً لتكامل مختلف العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في بحثها عن الحقيقة، فقد انكبّ ثلّة من الأكاديميّين على بعض جوانب تاريخ تونس، لكن بطريقة مغايرة لما دأب عليه المؤرّخون إلى حدّ الآن من تحقيب لتاريخ البلاد يعتمد إمّا المعيار السياسي (تسلسل العائلات المالكة أو الأحداث السياسيّة المشهودة) أو المعيار الحضاري بكلّ ما لكلمة حضارة من مضمون فضفاض وغائم (تعاقب الحضارات البربريّة، والقرطاجيّة، والرومانيّة، والإسلاميّة وغيرها على تونس)، وقد تمثّلت هذه المقاربة الجديدة في قراءة هذا التاريخ من زاوية ما قامت به مختلف الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعيّة من أدوار مختلفة.
وقد اختار أعضاء الفريق المؤلّف لهذا الكتاب الاهتمام، لا بِنُخَب المال والدين والسلطة السياسيّة، وإنّما بالعناصر الاجتماعيّة التي رزحت تحت سيطرة تلك النّخب، وهي العناصر التي احتلّت دائماً المواقع السفلى والوسطى في مختلف التشكيلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تعاقبت على البلاد التونسيّة منذ أقدم العصور. والمعروف، وفق ما جاء في تقديم الكتاب، عن مصادر التاريخ التونسي المتوفّرة اليوم جدبها الكبير وشحّها الشديد فيما يتعلّق بهذه العناصر الاجتماعيّة المسحوقة، وغنيّ عن الذكر أنّ هذه المصادر لا تركّز في تأريخها للعصور والأحداث إلاّ على الجوانب العسكريّة والسياسيّة والدينيّة، ولا يظفر منها القارئ إلاّ بأخبار الملوك والعلماء والأدباء ورجال الدين.
وإنّ “عيب” ممثّلي الشرائح الاجتماعيّة غير المالكة للثّروة والسلطة في تونس أنّهم فاعلون اجتماعيّون “صامتون”، ولم يدر بخلدهم أبداً ان يدوّنوا تاريخهم بأنفسهم، ولم يكونوا قادرين على ذلك حتّى ولو أرادوا نظرا إلى ما كانوا عليه من أمّية دامسة خلافا لما كان يفعله علية القوم ـ وأغلبهم من الحضريّين والمتعلّمين ـ الذين اهتمّوا بالتّأريخ لأنفسهم.
مظلمة التعتيم
إنّ المعرفة لبعض جوانب تاريخ الشرائح الاجتماعيّة المهيمن عليها في تونس ـ كما هو واضح في ثنايا هذه الدراسات ـ لا يمكن أن تتمّ إلاّ عبر غربلة نقديّة شاقّة ومريرة ـ كما يؤكّد ذلك د. التيمومي المشرف على الكتاب ـ لما تركته الشرائح الاجتماعيّة المهيمنة من تراث يتّصل بتاريخها هي دون سواها.
وممّا لاشكّ فيه أنّ ما وجده الباحثون في هذا التراث عن الشرائح الشعبيّة والوسطى مجانب في أغلبه للصّواب، ذلك أنّ نُخب السلطة والثروة والدين ناصبت هذه الشرائح الاجتماعيّة العداء، إن قليلا أو كثيراً ، واعتبروهم أُناساً جهلة، بل عاطفيّين متهمّجين، بل سفهاء يلبّون كلّ صوت داعٍ “للفتنة” وللفساد.
ولعلّ من الأمور التي تستوقف المتمعّن في الكتابات التاريخيّة التونسيّة إلى حدّ اليوم هو قلّة الاهتمام بالفلاّحين مثلاً رغم أنّهم مثّلوا المنتجين المباشرين الذين صنعوا الخيرات المادّية للبلاد على امتداد آلاف السنين. وإذا كان عيب هؤلاء الفلاّحين أنّهم صامتون لا يدوّنون تاريخهم، فإنّ المؤلّفين لهذا الكتاب رأوا أنّه آن الأوان، وقد تقدّمت عمليّة تحرير تاريخ تونس من الاستعمار أشواطاً، أن ترفع عنهم مظلمة التعتيم التي رزحوا تحتها عصورا طويلة.
وفي هذا السياق، تعرّضت إحدى دراسات هذا التأليف الجماعي إلى معرفة الخلفيّات الكامنة وراء صدور جملة من التشريعات تتعلّق بشريحة معيّنة من هؤلاء الفلاّحين، هي شريحة “الخمّاسة” (العمّال الفلاحيّون الذين كانوا يتقاضون أجراً يتمثّل في خُمْس المحصول الزراعي) في ستّينات القرن الماضي، لا فقط لأهميّة الموضوع في حدّ ذاته، بل لأنّه يرتبط كذلك وثيق الارتباط بمسألة لا يمكن تفاديها وهي طبيعة نمط الإنتاج الرئيسي السائد في صلب التشكيلة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التونسيّة قبل سقوطها تحت السيطرة الرأسماليّة المباشرة عام 1881.
وتضمّن الكتاب دراسات مختلفة من بينها: “ملامح بعض الفئات الاجتماعية بإفريقية في العهد البيزنطي (522 – 709 م)” و”التجّار والحرفيون بإفريقية بين القرنين السادس والتاسع الهجري (12/15م)”، وأيضا مهنة “الخمّاسة في تونس بين التشريع والواقع (1861 – 1875 م)”، و”المشايخ بالبلاد التونسيّة في العصر الحديث بين التأثّل والارتزاق”. كما تضمّن الكتاب دراسة طريفة وعميقة موضوعها: “خبز الأغنياء وخبز الفقراء بالبلاد التونسية خلال العصر الحديث”، و”الفقراء والزوايا بوسط إفريقيّة من أواسط القرن السادس هجري إلى نهاية القرن الثامن هجري”. ومن الدراسات التي تضمّنها الجزء الثاني: “الأوضاع الاجتماعية للعبيد السُّود بالبلاد التونسيّة في النصف الثاني من القرن 19”، ودراسة عن ”صغار الكسبة في البلاد التونسية: الحرفيّون والتجّار (عشرينات ـ ستّينات القرن العشرين)” و”العمّال الفلاحيّون والموسميّون بشمال تونس خلال النصف الأوّل من القرن العشرين” و”الفقر والفقراء في تونس (1945 -1948 م) ” و”الجنوب الغربي التونسي خلال فترة (1856 - 1919 م) قراءة في التاريخ الاجتماعي من خلال الأدب الشعبي.
التوظيف السياسي
تمّ في الكتاب تخصيص دراسة عن الفقر والفقراء في تونس (1945 - 1948) وتحليل صلابة هذه النّواة بالنّظر خاصّة إلى بعض العوامل الجديدة التي صارت تجمع فيما بين عناصرها، وأظهرت الدراسة أنّ الفقر غرس في ذوات هذه المجموعات المعوزة نَفَساً نضاليّاً قويّاً من أجل تغيير أوضاعها الخاصّة ولم لا السعي إلى تغيير أوضاع كلّ سكان البلاد، بل ربّما أقرّت بعض جموع هؤلاء الفقراء ممّن كان لها حسّ سياسي بأنّ تغيير أوضاعها الخاصّة يمرّ حتماً عبر تحرير البلاد اقتصاديّاً وسياسيّاً.
إنّ بعض المعطيات التي عدّدتها الدراسة تدعم القول بأنّ ظاهرة الفقر والفقراء، قد تجاوزت بالبلاد التونسيّة منذ بعيد الحرب العالمية الثانية، وقبل ذلك أيضاـ المسألة العدديّة، وصارت تهمّ شرائح بأكملها عرفت العوز والإملاق. فالمجتمع بتونس صار يعيش بفعل الاستغلال الاستعماري المتوازي مع الاستغلال الطبقي الداخلي هذا التفقّر الجماعي المؤدّي إلى خلخلة المجتمع ككلّ، فخرجت بذلك الظاهرة من فرديّتها الضيّقة لكي تصبح دلالة جماعيّة على واقع شرائح بأكملها بل لم تعد الظاهرة وصمة تَسِمُ الأشخاص فُرادى لكي تصير سمة تطبع تاريخ مجتمعات صارت ترزخ تحت نير التخلّف ساهم الاستعمار المباشر وغير المباشر في إثباته بل وتأبيده.
ولعلّ وجود مثل هذا الحجم المفزع من المعوزين والمحتاجين والذي طبع تاريخ تونس الاقتصادي والاجتماعي إثر الحرب العالميّة الثانية هو الذي سيطبع أيضا تاريخها السياسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فلقد انتاب السلطات الاستعماريّة قلق غير خفيّ من هول هذه الجموع، وقد تأتّى هذا القلق عبر مستويات عدّة. فكيف السبيل إلى إعالة هذا العدد المهول من الجياع؟ وكيف السبيل إلى الحدّ من عددهم؟ وهل تكفي سياسة إقامة “الحظائر” وتوزيع المعاش على البعض من المحتاجين لإزاحة هذا الخطر؟ إنّ تضافر جهود السلطة المركزيّة والسلط المحليّة لم تمكّن البتّة من خنق الظاهرة في المهد، كما أنّ التغيير السياسي في هرم السلط الفرنسيّة بتونس أثناء تلك الفترة لم يحلّ أبداً أيّ جزء من المشكلة.
                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق