الأربعاء، 1 أغسطس 2012

حسنا، بدأت الثورة ساعية في طلب الحرية، ولكن إلى أين انتهت، أو تنتهي الآن ؟ لا خلاف على البداية، ولكن لماذا لا نزال ندور في فلك النظام القديم ؟ أين ذهب الثوار ؟ ولماذا لا نقابل في كل مكان سوى جماعات من "الورثة" يختصمون على أنصبتهم التي تركها لهم أب يحتضر، وكأن الوطن بأكمله، مجرد "تركة" ؟ منذ أن بدأت هجرة المصريين في سبعينات القرن 20 إلى بلدان النفط، لم يعد الولاء للوطن، بل لكسب العيش. ولأن الولاء لكسب العيش هو موقف سوقي ومبتذل، لا يقوى صاحبه على المجاهرة به، حتى بينه وبين نفسه، راح المصريون يبحثون عن أصباغ وألوان يجملون بها موقفهم. وقد وجدوا في الدين بغيتهم. فالدين بما يتمتع به من مهابة وقدسية، يستطيع أن ينقذ موقفهم من الابتذال الذي يعاني منه، وفي نفس الوقت، يخلع عليه كل معاني النبل والاحترام التي يفتقد إليها. وهكذا، ومن دون الاضطرار إلى خوض تجارب مكلفة من الناحية النفسية، أو الوقوع في براثن مشاعر سلبية مرهقة كالشعور بالذنب وتأنيب الضمير، نعمل على إلغاء الوطن ونتعامل معه وكأنه غير موجود، ثم وبقفزة واحدة نحول الدين إلى وطن. ألم يصرح أحدهم، وبأعلى صوت: "طز في مصر". ولكن تجاوز الوطن إلى الدين هو مجرد حيلة نفسية فقط. ولاء للدين في الظاهر، وفي الباطن، ولاء لكسب العيش. فالدين يستخدمه الناس كقشرة تجميلية فقط. قشرة مقدسة صحيح ولكنه يبقى مجرد "قشرة". ولذلك لا نجد للدين بالمعنى العميق الروحي والأخلاقي، أي وجود في حياة الناس اليومية. والشىء الخطير أن هذا الغياب الحاد لجوهر الدين، لا يستثير أي قلق أو حتى يسترعي مجرد انتباه. وكأن انفصال الدين عن الأخلاق هو مسألة طبيعية، أما الشاذ وغير الطبيعي فهو ارتباط الدين بالأخلاق والمجتمع. الدين خروج عن الأين والمكان، والوقت والزمان. والوطن عكس ذلك تماما؛ أرض وتاريخ وتعين زماني ومكاني. وتجاوز الوطن أو إلغاؤه بحجة الولاء للدين، ليس في مصلحة الدين ولا الوطن. ولذلك رأينا الوطن ينحط ويتدهور من جراء هذا التجاوز. ورأينا الدين يتم اختزاله في مظاهر وطقوس شكلية بحتة. ولا استعادة للفاعلية وللقوة المحركة للتاريخ، إلا بالنزول من السماء إلى الأرض، ومن الدين إلى الوطن. فالأعلى ليس هو التجريدي المتعالي ولكنه العيني الإنساني. وليست السماء هي مسرح نضال الإنسان وكدحه، بل التاريخ والأرض. وبدلا من هجرة الأوطان والتنازل عنها للحكام في الداخل، والسادة في الخارج، كان ينبغي الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها. وليس الاعتراض هنا على "كسب العيش"، ولكن على "سوء النية". الاعتراض هو على إسقاط الأوطان من الحساب بحجة أن الدين أبقى وأولى، مع أن القلوب هي مع "كسب العيش" وليست مع "الدين". ويتحول "سوء النية" إلى سجن أبدي أين منه المفر. ومن أجل "كسب العيش" يتم التفريط حتى في الدين ومبادئه الأخلاقية. نصف الشعب المصري مهاجر ونصفه الآخر يفكر في الهجرة، فمن سيكد ويكدح ويكافح في الداخل ؟ من سيبني الأوطان ؟ المجتمع الإنساني مدنية تقوم على أسس موضوعية؛ قانون أو دستور بلغة اليوم، وليس على تدبيرات إلهية. لذا لم أستطع أن أفهم أبدا كيف يمكن لشعب قفز بأكمله قفزة مجهولة في الفراغ، من الوطن إلى الدين، أن يقوم بثورة ؟ كيف لشعب يدير في خطوة، ظهره للوطن وفي الخطوة التالية مباشرة يتخذ من الدين وطنا، أن يجترح ثورة ؟ وعندما نحاول أن نختبر سلامة موقف الشعب، نتبين أنه يتخذ من الدين مجرد قشرة خارجية، وينظر إلى "كسب العيش" على أنه دينه الحقيقي. أي في الواقع ما يؤدي إلى ضياع الدين والوطن معا. إن موقفا كهذا ينطوي على "سوء نية" مبيت عنما يتمخض عن ثورة، يصبح مدعاة لكثير من العجب. ذلك أن الثورة هي على العكس من ذلك، فعل مشروط بحسن النية وجدية الانعقاد على العزم والجهد والعمل للمستقبل.

قد لا يكون لهذا التصدير صلة مباشرة بكتاب "ألوان أخرى"، ولكن الصلة بينهما معقودة مع ذلك، على الأقل، على مستوى العنوان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق