لم يكن نور الدين الزاهي ليقبل يوما بتوصيف العلوم الاجتماعية على أنها ترف
فكري أو معرفة عادية و اعتيادية، إنها بالنسبة إليه أشبه ما تكون بصناعة
معرفية ثقيلة، تستلزم نفسا عميقا و قويا يفيد في بلوغ قمة الجبل، و كذا في
الرجوع منها إلى القاع الاجتماعي، حيث تكمن الحقيقة، و ينكتب الواقع. خصوصا
إذا كان لهذا الصعود و النزول انفتاح ما على تجربة جامعية غنية، يتعلم
منها المرء أولى دروس الانتماء إلى هذي الصناعة الثقيلة لا الخفيفة.
لما كان طالبا بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، كان منشغلا أكثر بتحصين ال
"أوطم" الذي كان قرار الانتهاء من شغبه، يطبخ على نار غير هادئة، حينها كان
يستثمر حيلة الحضور، عبر توقيع تدخل دال ينغرس عميقا، و يسعف أكثر في
المواد الشفاهية، في ظل هذه الحيلة المبررة بالغرق في النضال، كان درس
الجبل مع أستاذه عبد الجليل حليم تحديدا، فقد تدخل الزاهي معتبرا أن
التنمية لا تتحقق إلا بفعل الثورة، فما كان من حليم إلا أن أجابه باقتضاب
"ما عليك إذن إلا أن تصعد الجبل". و بتعبير دارج دال "طلع للجبل".
درس الجبل سيظل منغرسا في الرأس و الخافق، و ستتأكد أهميته مع تواتر
القراءات التي قادته يوما إلى الاعتراف بأن من يستلذ البقاء في الأعلى يرى
الناس صغارا، لكنه، و هذا هو الأهم، يبدو لهم أيضا صغيرا، فالمعرفة لا تخضع
لمقاربة خطية نمطية، و إنما هي، و في باب الصناعة الثقيلة تحديدا، تتطلب
حركة ذهاب و إياب، و دونما انتصار أعمى لسبات دوغمائي.
بعد قصة الصعود إلى الجبل و النزول منه بعدا، سيلتحق الزاهي بالدرس الفلسفي
مدرسا بالثانوي، بسيدي قاسم، أو سهل أزغار بتوصيفات الإخباريين، برفقة
صديقه محمد زرنين، الذي اختار الانشغال بالاستئراض فيما هو واصل الاهتمام
بالمقدس، و من مداخل فلسفية. الانتماء إلى هذا الدرس سيتواصل مع انتماء
مهني/ علمي إلى الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، ليطلق فيها مع عزيز لزرق و
آخرين "دفاعا" مشروعا عن الفلسفة، من خلال جملة من الفعاليات التي صنعت
الحدث ذات زمن تسعيني.
الدرس الفلسفي سيستغرقه في مركز تكوين المفتشين بالرباط مرة أخرى، برفقة
الفيلسوف أحمد السطاتي الذي قدم لكتابه "الفلسفة و اليومي"، و الذي يعد في
الأصل بحث تخرجه من ذات المركز، و هو الكتاب الذي حاور فيه الزاهي مقتربات
جديدة لا تنفصل عن دفاعه عن السؤال الفلسفي ضد كل خطاب يعلن موت "محبة
الحكمة" و لا جدواها في أزمنة القطيع و الاستهلاك و قتل الأنا المفكرة/
السائلة، التي لا تمل من إنتاج الأسئلة الكبرى و الصعبة.
"الفلسفة و اليومي" سيظل من أقرب الكتب إليه، فهل لكونه يحمل "دهشة
البداية"؟ أم لأنه يعلن الانتماء الأصلي لمهاجر صوب العلوم الاجتماعية،
بقدر عال من النضال و الاجتهاد؟ أم لأنه و كما يقول الزاهي" تمرين و تقديم
للأعمال الأخرى التي تلته، الشيء الذي يجعل منه كتابا ذا قيمة و مقام خاص
لديه"؟
و على طول هذا الانتماء الفلسفي و السوسيولوجي، سيظل الزاهي مندلقا مع
اليسار النبيل، مستحضرا لذلك المثل الصيني الذي يقول بكل إشراق "إن الأسماك
الميتة هي التي تسبح مع التيار"، لكن الإنسان الشقي و المشاغب لم يمت فيه،
لهذا استمر سباحة ضد التيار مهما تعالت إمكانات التهميش و التبخيس.
و سيظل و هذا الأهم منتجا للشقي من الأفكار و الجريء منها، و ممارسا للمهمة
الفعلية للسوسيولوجيا، و هي النقد الموضوعي، الذي لا يتهيب حدودا ملونة و
لا مصالح مجزلة، وبنفس المنسوب من هذي الجرأة سيعلن أن "أوراق" عبد الله
العروي و "لعبة النسيان" لمحمد برادة، "غير صالحتين لتدرس في المدرسة على
اعتبار أن الناقد يجد صعوبة في تحليلهما، فما بالك بتلميذ يفتح عينيه على
عمل روائي بهذا الشكل!! لابد أنه ستتشكل لديه نظرة سلبية عن شيء اسمه
"رواية" وكما قال عبد الفتاح كيليطو: إذا أردت أن تقتل كتابا فادخله باب
المؤسسة المدرسية".
الانتماء إلى الفلسفة لم يسرقه من العلوم الاجتماعية، فبعد تحقيق الانتماء
إلى مهنة التدريس سيعود الزاهي إلى أستاذه حليم مقترحا عليه مشروع رسالة
لنيل دبلوم الدراسات العليا في موضوع "من الزاوية إلى الحزب"، كما سيواصل
معه ذات الرحلة الممتعة في مستوى أطروحة نيل الدكتوراه في موضوع "المقدس
والمجتمع المغربي الحالي"، و هما (الرسالة و الأطروحة)، العملان اللذان
سيبلور من خلالهما الزاهي مشروعه الفكري المشتغل على المقدس و انفتاحات
السياسي، و الذي يعتمد فيه بدرجة أعلى على خلاصات الدرس الأنثروبولوجي و
التاريخي.
التفكير في مدارات المقدس و امتدادات السياسي، بما يعنيه هذا التفكير من
مساءلة دائبة للطقوس و الممارسات و المؤسسات، هو ما اختاره الزاهي أفقا
لانشغالاته المعرفية منذ أول خطوه السسوسيولوجي و الأنثروبولوجي. فهذه
المدارات و الامتدادات يتوجب اعتبارها برأيه ك"علامات أساسية لفهم و تفهم
المجتمع المغربي بمؤسساته القديمة أو المعاصرة، و لتفهم الآثار التي تخلفها
هاته المؤسسات على المجتمع".
في "الفلسفة و اليومي" و "الزاوية و الحزب" و "المقدس الإسلامي" و "بركة
السلطان"، فضلا عن عدد من المساهمات المتميزة في كتب جماعية و دوريات
متخصصة، نقرأ أيضا المنهج التحليلي الذي يطمئن إليه الزاهي في دراساته، و
هو منهج يتأسس على الحفر الأركيولوجي و تفجير السؤال النقدي بالرجوع إلى
المتن التاريخي، لاستلهام عناصر البدء و الامتداد، و تخمين جدل القطيعة و
الاستمرار في بناء الفعل السياسي المغربي، فبحثا عن ذلك المنطق السوسيولوجي
الأعمق الذي يتحكم في شروط إنتاج و إعادة إنتاج "السياسي" و المجتمعي
عموما، يستمر الزاهي في تفكيك العلب السوداء للمقدس الإسلامي و الفعل
السياسي."فأن يؤسس الصلاح لمؤسسة الزاوية، و أن يؤسس الإصلاحيون السلفيون
المغاربة لمؤسسة الحزب، شيء لا يمكن أن يخضع للصدفة، و لا يمكن أن يفسر
بوقائع حديثة و تاريخية فقط، بل لا بد له من منطق سوسيولوجي أعمق يتحكم
فيه".
البحث عن هذا المنطق العميق سيتطلب منه النزول من الجبل إلى الميدان، حيث
تكمن الحقيقة النسبية طبعا، و سيستوجب منه قراءة عميقة لمتون من قارات
معرفية متعددة، و مصاحبة لحالات و وقائع اجتماعية لا يقدر على التقاط
تفاصيلها سوسيولوجيو المكاتب المكيفة، هنا بالضبط سنكتشف الزاهي قارئا
للموسم و الجذبة و الليلة الكناوية "فداخل فضاءات الموسم أو الليلة
الكناوية الممتلئة بالمعنى إلى حدود اللامعنى على المرء أن يفتح جميع عيونه
الجسدية لرؤية السطح العميق لنشوة الحركة، ووجد الصمت وسيلان النفس".
على درب السؤال العميق يواصل نور الدين الزاهي محاورة المسكوت عنه في
المشهد المجتمعي، وبذات النفس العلمي، الذي أهدانا بواسطته قبلا "الفلسفة
واليومي" و"الزاوية والحزب" وثلة من المقالات والدراسات الرصينة، على الدرب
إياه، يستمر الزاهي في الاشتغال على الملتهب من الأسئلة والقضايا. مؤكدا
من خلالها انشغاله الأنثروبولوجي الجاد بالرمز والطقس وما إلى ذلك من
التيمات التي يؤسسها المقدس ويتأسس عليها.
محليا ثقافة المحو هي السائدة، و الاعتراف يكون ممهورا بتوقيع الآخر في
مطلق الأحيان، لهذا لم يكن غريبا أن تعترف المصلحة الثقافية التابعة لسفارة
فرنسا بالرباط بأصالة كتابه "الزاوية و الحزب"، لتمنحه سنة 2002 جائزة
الأطلس الكبير التي ضمت في عضوية لجنة تحكيمها كلا من محمد أركون و رشيدة
ديماس وحليمة فرحات و كاظم جهاد وجميلة حسون وجاك لانغاد ونادية صلاح.
غير ما مرة ردد غارسيا ماركيز بأن "الجميع يريد أن يعيش فوق قمة الجبل، دون
أن يدرك أن السعادة تكمن في تسلقه"، أو لربما في النزول منه لتعلم معنى
الأشياء من موطنها الأصلي، من شرط انبنائها الأولي، ألهذا كان يلح أستاذه
عبد الجليل حليم على درس الجبل؟ ألهذا كان الزاهي نفسه يلح على اعتماد حركة
ذهاب و إياب بين القمة و السفح، بين المعرفة في نخبويتها و طليعيتها، و
الميدان كعيادة اختبار و تمحيص لذات المعرفة.
نور الدين الزاهي، شقيق فريد الزاهي المولع أيضا بمدارات الدرس
الأنثروبولوجي، يقدم من خلال اجتهاداته، الدليل تلو الدليل، على أن العلوم
الاجتماعية، هنا و الآن، تعد بالكثير من العطاء، بالرغم من تواتر عمليات
التهميش و الإقصاء، و بالرغم من كل حالات المحو و اللا اعتراف فإن ثمة جيل
قادم يوقع حضوره بثبات، و الزاهي بالطبع من أبرز ممثلي الجيل الجديد
للصناعة المعرفية الثقيلة.
نسخة معدلة
http://www.mediafire.com/download.php?ibfbgys5zv0btc0
فكري أو معرفة عادية و اعتيادية، إنها بالنسبة إليه أشبه ما تكون بصناعة
معرفية ثقيلة، تستلزم نفسا عميقا و قويا يفيد في بلوغ قمة الجبل، و كذا في
الرجوع منها إلى القاع الاجتماعي، حيث تكمن الحقيقة، و ينكتب الواقع. خصوصا
إذا كان لهذا الصعود و النزول انفتاح ما على تجربة جامعية غنية، يتعلم
منها المرء أولى دروس الانتماء إلى هذي الصناعة الثقيلة لا الخفيفة.
لما كان طالبا بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، كان منشغلا أكثر بتحصين ال
"أوطم" الذي كان قرار الانتهاء من شغبه، يطبخ على نار غير هادئة، حينها كان
يستثمر حيلة الحضور، عبر توقيع تدخل دال ينغرس عميقا، و يسعف أكثر في
المواد الشفاهية، في ظل هذه الحيلة المبررة بالغرق في النضال، كان درس
الجبل مع أستاذه عبد الجليل حليم تحديدا، فقد تدخل الزاهي معتبرا أن
التنمية لا تتحقق إلا بفعل الثورة، فما كان من حليم إلا أن أجابه باقتضاب
"ما عليك إذن إلا أن تصعد الجبل". و بتعبير دارج دال "طلع للجبل".
درس الجبل سيظل منغرسا في الرأس و الخافق، و ستتأكد أهميته مع تواتر
القراءات التي قادته يوما إلى الاعتراف بأن من يستلذ البقاء في الأعلى يرى
الناس صغارا، لكنه، و هذا هو الأهم، يبدو لهم أيضا صغيرا، فالمعرفة لا تخضع
لمقاربة خطية نمطية، و إنما هي، و في باب الصناعة الثقيلة تحديدا، تتطلب
حركة ذهاب و إياب، و دونما انتصار أعمى لسبات دوغمائي.
بعد قصة الصعود إلى الجبل و النزول منه بعدا، سيلتحق الزاهي بالدرس الفلسفي
مدرسا بالثانوي، بسيدي قاسم، أو سهل أزغار بتوصيفات الإخباريين، برفقة
صديقه محمد زرنين، الذي اختار الانشغال بالاستئراض فيما هو واصل الاهتمام
بالمقدس، و من مداخل فلسفية. الانتماء إلى هذا الدرس سيتواصل مع انتماء
مهني/ علمي إلى الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، ليطلق فيها مع عزيز لزرق و
آخرين "دفاعا" مشروعا عن الفلسفة، من خلال جملة من الفعاليات التي صنعت
الحدث ذات زمن تسعيني.
الدرس الفلسفي سيستغرقه في مركز تكوين المفتشين بالرباط مرة أخرى، برفقة
الفيلسوف أحمد السطاتي الذي قدم لكتابه "الفلسفة و اليومي"، و الذي يعد في
الأصل بحث تخرجه من ذات المركز، و هو الكتاب الذي حاور فيه الزاهي مقتربات
جديدة لا تنفصل عن دفاعه عن السؤال الفلسفي ضد كل خطاب يعلن موت "محبة
الحكمة" و لا جدواها في أزمنة القطيع و الاستهلاك و قتل الأنا المفكرة/
السائلة، التي لا تمل من إنتاج الأسئلة الكبرى و الصعبة.
"الفلسفة و اليومي" سيظل من أقرب الكتب إليه، فهل لكونه يحمل "دهشة
البداية"؟ أم لأنه يعلن الانتماء الأصلي لمهاجر صوب العلوم الاجتماعية،
بقدر عال من النضال و الاجتهاد؟ أم لأنه و كما يقول الزاهي" تمرين و تقديم
للأعمال الأخرى التي تلته، الشيء الذي يجعل منه كتابا ذا قيمة و مقام خاص
لديه"؟
و على طول هذا الانتماء الفلسفي و السوسيولوجي، سيظل الزاهي مندلقا مع
اليسار النبيل، مستحضرا لذلك المثل الصيني الذي يقول بكل إشراق "إن الأسماك
الميتة هي التي تسبح مع التيار"، لكن الإنسان الشقي و المشاغب لم يمت فيه،
لهذا استمر سباحة ضد التيار مهما تعالت إمكانات التهميش و التبخيس.
و سيظل و هذا الأهم منتجا للشقي من الأفكار و الجريء منها، و ممارسا للمهمة
الفعلية للسوسيولوجيا، و هي النقد الموضوعي، الذي لا يتهيب حدودا ملونة و
لا مصالح مجزلة، وبنفس المنسوب من هذي الجرأة سيعلن أن "أوراق" عبد الله
العروي و "لعبة النسيان" لمحمد برادة، "غير صالحتين لتدرس في المدرسة على
اعتبار أن الناقد يجد صعوبة في تحليلهما، فما بالك بتلميذ يفتح عينيه على
عمل روائي بهذا الشكل!! لابد أنه ستتشكل لديه نظرة سلبية عن شيء اسمه
"رواية" وكما قال عبد الفتاح كيليطو: إذا أردت أن تقتل كتابا فادخله باب
المؤسسة المدرسية".
الانتماء إلى الفلسفة لم يسرقه من العلوم الاجتماعية، فبعد تحقيق الانتماء
إلى مهنة التدريس سيعود الزاهي إلى أستاذه حليم مقترحا عليه مشروع رسالة
لنيل دبلوم الدراسات العليا في موضوع "من الزاوية إلى الحزب"، كما سيواصل
معه ذات الرحلة الممتعة في مستوى أطروحة نيل الدكتوراه في موضوع "المقدس
والمجتمع المغربي الحالي"، و هما (الرسالة و الأطروحة)، العملان اللذان
سيبلور من خلالهما الزاهي مشروعه الفكري المشتغل على المقدس و انفتاحات
السياسي، و الذي يعتمد فيه بدرجة أعلى على خلاصات الدرس الأنثروبولوجي و
التاريخي.
التفكير في مدارات المقدس و امتدادات السياسي، بما يعنيه هذا التفكير من
مساءلة دائبة للطقوس و الممارسات و المؤسسات، هو ما اختاره الزاهي أفقا
لانشغالاته المعرفية منذ أول خطوه السسوسيولوجي و الأنثروبولوجي. فهذه
المدارات و الامتدادات يتوجب اعتبارها برأيه ك"علامات أساسية لفهم و تفهم
المجتمع المغربي بمؤسساته القديمة أو المعاصرة، و لتفهم الآثار التي تخلفها
هاته المؤسسات على المجتمع".
في "الفلسفة و اليومي" و "الزاوية و الحزب" و "المقدس الإسلامي" و "بركة
السلطان"، فضلا عن عدد من المساهمات المتميزة في كتب جماعية و دوريات
متخصصة، نقرأ أيضا المنهج التحليلي الذي يطمئن إليه الزاهي في دراساته، و
هو منهج يتأسس على الحفر الأركيولوجي و تفجير السؤال النقدي بالرجوع إلى
المتن التاريخي، لاستلهام عناصر البدء و الامتداد، و تخمين جدل القطيعة و
الاستمرار في بناء الفعل السياسي المغربي، فبحثا عن ذلك المنطق السوسيولوجي
الأعمق الذي يتحكم في شروط إنتاج و إعادة إنتاج "السياسي" و المجتمعي
عموما، يستمر الزاهي في تفكيك العلب السوداء للمقدس الإسلامي و الفعل
السياسي."فأن يؤسس الصلاح لمؤسسة الزاوية، و أن يؤسس الإصلاحيون السلفيون
المغاربة لمؤسسة الحزب، شيء لا يمكن أن يخضع للصدفة، و لا يمكن أن يفسر
بوقائع حديثة و تاريخية فقط، بل لا بد له من منطق سوسيولوجي أعمق يتحكم
فيه".
البحث عن هذا المنطق العميق سيتطلب منه النزول من الجبل إلى الميدان، حيث
تكمن الحقيقة النسبية طبعا، و سيستوجب منه قراءة عميقة لمتون من قارات
معرفية متعددة، و مصاحبة لحالات و وقائع اجتماعية لا يقدر على التقاط
تفاصيلها سوسيولوجيو المكاتب المكيفة، هنا بالضبط سنكتشف الزاهي قارئا
للموسم و الجذبة و الليلة الكناوية "فداخل فضاءات الموسم أو الليلة
الكناوية الممتلئة بالمعنى إلى حدود اللامعنى على المرء أن يفتح جميع عيونه
الجسدية لرؤية السطح العميق لنشوة الحركة، ووجد الصمت وسيلان النفس".
على درب السؤال العميق يواصل نور الدين الزاهي محاورة المسكوت عنه في
المشهد المجتمعي، وبذات النفس العلمي، الذي أهدانا بواسطته قبلا "الفلسفة
واليومي" و"الزاوية والحزب" وثلة من المقالات والدراسات الرصينة، على الدرب
إياه، يستمر الزاهي في الاشتغال على الملتهب من الأسئلة والقضايا. مؤكدا
من خلالها انشغاله الأنثروبولوجي الجاد بالرمز والطقس وما إلى ذلك من
التيمات التي يؤسسها المقدس ويتأسس عليها.
محليا ثقافة المحو هي السائدة، و الاعتراف يكون ممهورا بتوقيع الآخر في
مطلق الأحيان، لهذا لم يكن غريبا أن تعترف المصلحة الثقافية التابعة لسفارة
فرنسا بالرباط بأصالة كتابه "الزاوية و الحزب"، لتمنحه سنة 2002 جائزة
الأطلس الكبير التي ضمت في عضوية لجنة تحكيمها كلا من محمد أركون و رشيدة
ديماس وحليمة فرحات و كاظم جهاد وجميلة حسون وجاك لانغاد ونادية صلاح.
غير ما مرة ردد غارسيا ماركيز بأن "الجميع يريد أن يعيش فوق قمة الجبل، دون
أن يدرك أن السعادة تكمن في تسلقه"، أو لربما في النزول منه لتعلم معنى
الأشياء من موطنها الأصلي، من شرط انبنائها الأولي، ألهذا كان يلح أستاذه
عبد الجليل حليم على درس الجبل؟ ألهذا كان الزاهي نفسه يلح على اعتماد حركة
ذهاب و إياب بين القمة و السفح، بين المعرفة في نخبويتها و طليعيتها، و
الميدان كعيادة اختبار و تمحيص لذات المعرفة.
نور الدين الزاهي، شقيق فريد الزاهي المولع أيضا بمدارات الدرس
الأنثروبولوجي، يقدم من خلال اجتهاداته، الدليل تلو الدليل، على أن العلوم
الاجتماعية، هنا و الآن، تعد بالكثير من العطاء، بالرغم من تواتر عمليات
التهميش و الإقصاء، و بالرغم من كل حالات المحو و اللا اعتراف فإن ثمة جيل
قادم يوقع حضوره بثبات، و الزاهي بالطبع من أبرز ممثلي الجيل الجديد
للصناعة المعرفية الثقيلة.
نسخة معدلة
http://www.mediafire.com/download.php?ibfbgys5zv0btc0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق