-الانتربولوجي كاتبا:
يدشن الباحث عبد الله حمودي بكتابه موسم بمكة انتقاله من الاشتغال
بالآليات والخطوات المدرسية المشتركة لعلم الانتربولوجيا (إعلان الاختيار
المنهجي فالوصف الميداني، فالتحليل فالاستخلاصات) إلى تصور آخر للبحث
الانتربولوجي تتخلخل فيه كل المعطيات البحثية الكلاسيكية، بدءا من لغة
وأسلوب البحث مرورا بالمعنى الابستيمولوجي للميدان ولنوعية العلاقة بين
الباحث والمبحوث، ووصوله إلى كيفية إعادة بناء المعطيات الميدانية في شكل
نص مكتوب.
ضمن هذا التصور المغاير، تحضر متغيرات من نوع آخر لتأثيث الكتابة
الانتربولوجية، مثل الذاكرة والطفولة والحكي والاستعارة والتجربة الوجودية
للباحث، والمراجعة الضمنية والعلنية لتاريخ الباحث، لدرجة يصعب فيها على
القارئ تبين الفوارق بين لغة البحث والبحث في اللغة، أو بين الواصف
والموصوف، بين الذات والموضوع، بين المعطى الميداني والمتخيل، بين التجربة
الميدانية ومذكرة البحث، بين الكتابة الأدبية وإعادة البناء
الانتربولوجية.
وليس من باب الصدفة أن يستهل الباحث عبد الله حمودي كتابه هذا باستحضار
أحد مؤسسي هذا التصور، بعمله المعروفمدارات حزينة فالسفر ليس وحده المعطى
المشترك بين ك. ليفي ستراوس والباحث ع. حمودي، بل أيضا تخفيف، إن لم نقل،
فك علاقة الزواج الكاثوليكية التي ظلت قائمة بين مفهوم العلمية والصرامة
المنهجية، ومن ثم إعادة توزيع العلمية والحقيقة على باقي أشكال الوصف
والحكي والتذكر والبوح الذاتي ... الخ.
يجد كتاب موسم بمكة موقعه ضمن تقليد انتربولوجي جديد، يكرسه الآن في
الحقل الانتربولوجي باحثون/ كتاب من مثل كليفورد كيرتز (الانتربولوجي
كاتبا، سنة 1996) و جورج بلانديي (الصرف Conjugaison سنة 1997). ومارك
أوجي (حرب الأحلامسنة 1997 والسفر المستحيل سنة 1997) وآخرون.
إنه تقليد يطرح على المجال الانتربولوجي سؤال الكتابة. لا بمعنى
الصياغة، ولكن بمعنى ما سماه ج. بلاندنيي "أثر الكتابة" على النص والباحث
والخطاب الانتربولوجي، أو ما حدده بدقة ك. ليفي ستراوس في مدارات حزينة،
أو في صيغة "العمل الانتربولوجي بوصفه نصا".
2-الحكاية وتجربة الحج:
"السفر إلى مكة ليس سفرا، بل أداء لفريضة. وهو يبدأ قبل فعل السفر مثله
في ذلك مثل جميع الأسفار، لكن مع فارق كون مثيراته ومحفزاته يطبعها
القلق" (ص12). هذا القلق الذي يميز رحلة الانتربولوجي إلى مكة هو ما يصفه
الكتاب طيلة عشرة فصول.
فانطلاقا من الفصل الأول وإلى حدود الفصل العاشر. لن يجد القارئ تحليلات
نظرية، بل سردا مرتويا هنا وهناك بتأملات يقظة، لبداية التهيئ والاستعداد
للحج سواء على المستوى الإداري أو الديني– الشعائري.
فطيلة تهييئ الملف الإداري، يعيش الباحث محنته الصغيرة الأولى ببلده.
فالذهاب إلى الحج كما يخبره لحسن، صديق ومخبر الباحث، يخضع قانونيا
للكوطا، حسب المناطق والعمالات (ص26). إنها بداية الاحتكاك بالإدارة وأولى
الخطوات المهيئة إلى السفر لمكة بوصفه تجربة لا سفرا عاديا. يقول ع.
حمودي في ظل ذلك "أصبح الحج داخل شكي وألمي حجي أنا" (ص23).
وإذا ما كان الملف الإداري قد اختلطت أوراقه وتعطرت برائحة الرشوة
الصغيرة، فإن بداية التهييئ الديني لأداء هاته الشعيرة سيضع الباحث
الأنتربولوجي في وضعية المبتدئ المتعلم: تعلم كيفيات أداء الفريضة بكل
تفاصيلها وتعاليمها وغاياتها. لذلك يعلن الباحث بل يتيقن بأن السفر هاته
المرة لا يشبه كل أسفاره السابقة. إنه يخلخل الأدوات المعرفية، ويعيد
النظر في موقع الذات وصلاتها بالمنتهى: منتهى السفر، منتهى الحياة، منتهى
البحث...
داخل الكتاب لا نحس محنة المعايشة الميدانية، بل محنة الحكي عن مسار-سفر
المعايشة- أداء فريضة قدسية يحضر في كل منعرجاتها ومحطاتها ما ينهك
الجسد، وما يتعب الرابطة الذاتية بالإسلام والمسلمين، ويكشف علاقة الدين
والمقدس بالتجارة والسياسة. يقول الباحث: "في مسار البحث جاء الحج في لحظة
غير عابرة. لقد قادتني أبحاثي السابقة إلى تفكير الدين. ولأنني تجاوزت
الخمسين من عمري أجدني متسامحا أكثر مع المحافظين الذين يزدادون انتشارا.
دفعني بحثي الأكاديمي لمساءلة هويتي. نعم لقد تعاملت مع الحج كمشروع بحث،
لكن أيضا تحت ظل رهانات وجودية لم يكن بإمكاني تجاهلها" (ص186)
3-الطقس والنص:
لم يكتف عبد الله حمودي بالوصف على الطريقة الكلاسيكية لشعيرة الحج، بل
لون كل التفاصيل المحكية والمعيشة، بلون السارد المعتمد على مخزونات الوعي
الذاتي، ولون الباحث الانتربولوجي المجرب.
وإذا ما كان المسار البحثي للباحث قد دفعه لولوج عوالم مشروعه الجديد
بسؤال المعرفة والوجود، فإن الحج سيصبح إثر ذلك تجربة ذاتية وموضوعا
انتربولوجيا.
إنه موضوع انتربولوجي من حيث كونه شعيرة قدسية ممتلئة بالرموز والسير
الذاتية، بالمتخيل والديني، وفي نفس الوقت موطن لتأكيد المسلمين لهويتهم
الموحدة واختلافهم عن غيرهم (ص260). ومجال لتشابك الديني بالتجاري
والايديولوجي، ومحطة لتبادل اللغات والثقافات والمعاني والنظم الرمزية
(ص.290)
وإذا ما كان كلود ليفي ستراوس قد اعتبر أن المرء لا يمكنه أن يكون
انتربولوجي قبيلته فإن إقدام عبد الله حمودي على هاته التجربة، سينجرف
بممارسته الانتربولوجية وكذا بعلاقته بموضوعه نحو مسار آخر. يقول بهذا
الخصوص "لقد قادني الحج إلى مفترق طرق مغاير. فبينما كنت أظن أنني سأقوده
إلى عالم الانتربولوجيا، فقد تلقيته كحدث غير متوقع سيطبع حياتي" (ص265).
وبسبب ذلك سيعتبر الباحث أن الحصيلة التدوينية لتجربته الميدانية لن تكون
في النهاية غير حكاية Récit، سيجمع ضمنها دور السارد ودور البطل (ص295).
داخل تجربة الحج هاته، من حيث هي تجربة الوعي الانتربولوجي وهو يعايش
طقسه، سيصادف القارئ إلى جانب المتعة والقوة النظرية، ثلاث أنوية تمثلها
لحظة الإحرام، ولحظة رجم الشيطان وأخيرا لحظة نحر أو ذبح الأضحية، وعلى
طول وصفها والحكي عنها يصعب التمييز بين الباحث والمعايش والكاتب.
بعد وصفه للتعاليم الشرعية الخاصة بلحظة الإحرام، وبعد تعلمه لفعل ذلك
وهو بالمغرب، وأثناء تدوينه لمذكرة البحث التي يتساءل عبد الله حمودي
بكيفية درامية عن قطعة الثوب الأبيض غير المخيطة التي يرتديها الرجال
أثناء طوافهم على الكعبة، وكذا عن الوهن والضعف الذي يصيب الجسد من جراء
تراكم الإجهاد: "ألم أتحول إلى شبح لذاتي تحت قوة وضغط التغيير؟" (ص63). في
لحظة الإحرام يغاير الجسد ذاته، فهو هنا وهناك. على الأرض وفي السماء
وبحكم طبيعة رداء الإحرام يتضاعف الإحساس بالنظير Le double. إنه نفس
الإحساس الذي سجله الباحث بخصوص الاسم أوالنعت الجديد (الحاج) الذي أصبح
يغلف الاسم الشخصي الأصلي (ص267).
مع شعيرة رجم الشيطان سيثير الباحث تجذر العنف في الطقس، وتجذر هذا
الأخير في الاستعارة (ص246). ففعل الرجم يطلق العنان للعنف والذي ليس غير
عنف محاك لعنف أصلي (ص 254)، مع فارق هو أن الذهاب والإياب بين العنفين
ملموس وحسي هاته المرة. (ص254). يحاكي الفاعل الطقوسي أثناء عملية الرجم
فعل سيدنا إسماعيل، لكن الحجارة هاته المرة لا تنزل على الشيطان مباشرة،
بل على سارية. إن تحيين فعل إسماعيل، وكذا الفعل مثله Faire comme هو ما
يجعل هاته الحركات الطقوسية حركات استعارية أساسا.
مع شعيرة الأضحية والتي تتزامن مع العيد الكبير، سيستعيد الباحث تحليلات
كتابهالأضحية وأقنعتها وكذا ذكريات الطفولة والشباب. ففي منى، يشبه حجز
الحيوانات/الاكباش المعدة للنحر، مخيمات الحجز والاعتقال (ص234). وإذا ما
كانت شعيرة الحج تستهدف "انقاذ حياة البشر" وتطهيرها، فإنها في الآن نفسه
تجيز وتبيح قتل الحيوانات (ص234). فعملية نحر الأضحية تضع حسب الباحث، حدا
لحياة متفردة مثلها في ذلك مثل حيواتنا الإنسانية. لذا يخلص الباحث إلى
كون ذلك الفعل، فعل عنف أو بشكل أصح فعل قتل. (ص235).
نسخة راقية من الكبير علي فله الشكر العظيم
http://www.mediafire.com/?t3009n9bqk355g7
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق