ارنولد توينبي
قبل أن نتحدث عن مسيرة
الحياة الشخصية لأرنولد توينبي، لا بد لنا من أطلاله سريعة على المشهد الثقافي
البريطاني الذي يشكل الخلفية الضرورية لنمو وتبلور فلسفة التاريخ والحضارة عند
توينبي.
إذ كانت بريطانيا
الفيكتورية قد بلغت مرحلتها الإمبراطورية قبل أن يولد توينبي بعقود، فغدت
الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبحلول عام 1890، كانت تشمل ربع مساحة
الكرة الأرضية، المساحة الصالحة للسكن تقريباً([1])
وقد اشرنا في نهاية
الفصل الأول إلى بروز نزعتين قويتين في الدوائر الثقافية والأكاديمية الأوروبية
هما نزعتا، التشاؤمية الثقافية، والتشاؤمية التاريخية، وإذا كانت ألمانيا في نهاية
القرن التاسع عشر البيئة الخصبة لشيوع نزعة التشاؤمية الثقافية عند شوبنهاور
ونيتشه وشبنجلر، فأن بريطانيا الإمبراطورية هي المرتع الخصب لانتشار التشاؤمية
التاريخية إذ ظهرت الحافة السوداء القاطعة لتلك النظرة التشاؤمية أول ما ظهرت في بريطانيا
عام 1869م عندما نشر الأديب الإنجليزي ماثيو ارنولد Mathew Arnold 1822-1888م، كتابه
"الثقافة والفوضى" وعلى الرغم من أن ارنولد هذا يعد نتاج الثقافة
الفيكتورية في انشط وأقوى صورها، لكنه في نظر الكثير من الدارسين أعمق ناقد
لليبرالية الإنجليزية في عصره، فقد صوب سهام نقده لحياة الطبقة الوسطى ونزعتها
الفردية، ونظام السوق الحرة، وأدان بشدة نمط التعليم الليبرالي الذي يعزز روح
اللامساواة الاجتماعية التي أفضت إلى تقسيم المجتمع على طبقات متصارعة إذ كتب
يقول: "من اليسير أن نرى أن نقاط الضعف في حضارتنا أنما ترجع إلى عدم
المساواة بيننا... أن عدم المساواة الشاسع من حيث الطبقات والملكية، الذي جاء إلينا
من العصور الوسطى، والذي نحافظ على بقائه لان لدينا دين عدم المساواة، قد أفضى إلى
النتيجة الطبيعية والضرورية، ففي ظل الشروط الراهنة، نحن نضفي طابعاً مادياً على
الطبقة العليا وطابع الابتذال على الطبقة الوسطى، وطابع الوحشية على الطبقة
الدنيا، وهذا كله يعني أخفاق حضارتنا"([2]).
ويدعو ماثيو ارنولد إلى
ضرورة إصلاح شامل في نظام التعليم ونظام السوق والتوزيع العادل للثروة، وان تتحمل
الدولة مسؤوليتها تجاه جميع طبقات الشعب. لقد كان الخوف من التدهور والانحلال
والتفكك الاجتماعي، الخوف بان يفقد المجتمع الصناعي الغني روح (الطاعة والاحترام)
للقانون والحياة الراقية، هو الحافز الذي دفع القوى الجديدة إلى أن تغرق القارب
الذي لم تعد ليبرالية (دعه يعمل) عند (ادم سميث) Adam Smith وجون
ستيوارت مل Johnstewat Mill قادرة
على توجيهه، وقد حذر "إذا لم تحاول الطبقة الوسطى الارتفاع بمستواها، وإذا
استمرت في تضخيم الروح الفردية"([3])... فان بريطانيا ستنهار بسبب فقرهم الثقافي وأفكارهم
المنحطة، هذه التشاؤمية التاريخية كانت شيئاً جديداً بالنسبة للعقل الإنجليزي الليبرالي،
الذي ظل عامر الثقة بالتاريخ والتقدم المتواصل وبحلول عام 1870، كانت
الدوائر القومية النشطة من المثقفين الليبراليين في لندن وأكسفورد وكمبردج تتصدع
وتتفكك، وبدأت الثقة بالنفس تتحول إلى شك وخوف. المتحدثون الرسميون الرئيسون باسم
الليبرالية الإنجليزية الكلاسيكية، كانوا قد بدأوا يموتون واحداً اثر الأخر، دون
أن يبرز احد ليحل محل أي منهم، فالمؤرخ توماس ماكولي مات عام 1859، والمصلح
البرلماني فرانسيس برومان مات عام 1968، وفي عام 1873، يموت فيلسوف الحرية الفردية
العجوز جون ستيوارت ميل، بينما مات "تشارلز كنجسلى Charles
Kingsley المناضل العنيد من اجل التفاؤل الليبرالي
والمسيحية القوية في عام 1875([4]).
وهذا
ما أفسح المجال لبروز الجيل الجديد من نقاد التقدم والتفاؤل والليبرالية، أمثال
والتر باجيون وتوماس هنري باكل، وكان تشارلز دارون في عمله المهم الأخير
"تحدر الإنسان" قد حدد بالفعل الاتجاه المستقبلي لليبرالية العلمية...
جماعات كثيرة متباعدة كانت تحرك العمل البريطاني خطوة خطوة بعيداً عن الليبرالية
الفردية، وباتجاه المبادى الجماعية وظهور الاشتراكية ساعد أيضا على تتشظي
الليبرالية القديمة، ومن هذه الجماعات حركة الوثيقية Chartism جمعية لندن للرجال العاملين (تأسست عام 1866م) ، مجلس اتحادات
العمال 1869، حزب العمال المستقل 1893م، وأخيرا حزب العمال البريطاني 1906، بعض
الليبراليين أنفسهم تحولوا إلى الاشتراكية وكونوا ما يعرف بـ "الجمعية الفابية"
وهي مؤسسة التفكير غير الرسمية لحزب العمال, والصوت الرئيس في الدوائر الفكرية
التي نشأ "ارنولد توينبي" وترعرع فيها. كما إن الاضمحلال في العقيدة
الدينية، الذي انتشر في الجامعات البريطانية البارزة كان يضعف مصادر الثقة في
المستقبل، وفي العام نفسه الذي ظهر فيه كتاب "الثقافة والفوضى" ظهر
مصطلح "اللاادري" وفي عام 1871 ألغت كل من "أكسفورد" وكمبردج،
مادة الدين من امتحانات القبول، كما سمح لأصحاب الفكر الحر والملحدين بشغل المناصب
الأكاديمية.
وفي
الحياة الاجتماعية انتشرت ظاهرة الفقر المديني الصناعي، إذ كانت المدن الصناعية
مثل "ليفربول ولندن ومانشتسر تفرز الأحياء الحقيرة والأماكن القذرة عند
تجمعات العمال، المقززة لمراقبى الطبقة الوسطى بمن فيهم الشاب فردريك انجلز.
وفي
نظر النقاد الغاضبين، كان ذلك الفقر نتيجة للتحول المفاجئ والمربك في الحياة
الاقتصادية البريطانية من الزراعة إلى الصناعة وكان واحد من أولئك النقاد هو
ارنولد توينبي الاكبر، عم ارنولد توينبي المؤرخ كان توينبي الاكبر هو الذي سك
مصطلح (الثورة الصناعية)، معلماً في كلية "باليول" كان قد اخترع بالفعل
ميدان التاريخ الاقتصادي البريطاني، وكان يرى إن الثورة الصناعية كانت مرحلة
رهيبة، حافلة بالكوارث، وقد ظلت فكرته عن الثورة الصناعية استغلالاً منظماًَ
للرجال والنساء والأطفال على ايدى الطبقة البرجوازية المالكة للمصانع جزءاً
كلاسيكياً من الليبرالية التشاؤمية.
هذه
الحالة من الاكتئاب والقنوط بخصوص المستقبل سوف تستقطب المثقفين الإنجليز من مختلف
الأطياف، لتنفذ إلى أعمدة المؤسسة الفكتورية الأساس بما فيها شاعرها الرسمي (الفرد
لورد تنسون) الذي كتب عام 1842 "إلى الأمام إلى الأمام دعنا نتقدم، دع العالم
العظيم يدور إلى الأبد على حواف التغيير وبعد أربعين عاماً عاد إلى الفكرة ذاتها
ولكن بمزاج مختلف: هنا وسط الأزقة الكئيبة يقف التقدم على أقدام مشلولة.. الجريمة
والجوع يصرعان نساءنا في الشوارع بالألوف.. إلى الأمام إلى الأمام نعم.. والى
الخلف.. والى الأسفل أيضا.. إلى الهاوية"([5])
وفي
ذلك العام نفسه كتب ارنولد توينبي الأكبر "الأحوال مضطربة، وكل المعتقدات
السياسية القديمة اهتزت"، ومع بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر، اقر
البرلمان الإنجليزي سلسلة من الإجراءات الاقتصادية التي بدأت تصد المبدأ الكلاسيكي
القديم "دعه يعمل" "دعه يمر".
في
تلك الأثناء كان يزدهر في الوسط الثقافي الإنجليزي الاتجاه المثالي الذي استلهم أفلاطون
وهيجل وتشبعت أكسفورد بروح المثالية كما يقول كولنجوود سواء المثالية اليونانية
عند أفلاطون وأرسطو أو المثالية الألمانية المتحدرة من كانط وهيجل، وبفضل الجهود
الرائعة التي بذلها توماس هل جرين (1836-18882) وبرادلي (1846-1924) وادوارد كيرد
(1835-1908) وبوزانكويت (1848-1923م) وغيرهم من المثاليين، اكتسحت موجة المثالية
الظافرة كل ما صادفها وتركت طابعها من التعاليم الفلسفية التي تدرس في الجامعات فأحدثت
تغييراً أو توجيهاً جديداً في تاريخ الفكر الإنجليزي بأسره، إذ لم يبلغ التأثير
الروحي للمثالية ذلك الحد من القوة الذي بلغه في انجلترا في الثلث الأخير من القرن
التاسع عشر([6]).
كان
المثاليون البريطانيون ينظرون خلفهم بحنين شديد إلى عصر أثينا البيريكليسية،
وكانوا يعتقدون بأن بريطانيا يمكنها أن تحقق ما حققته أثينا، في الجمع بين الحكم
الذاتي والإنجازات العظيمة في الفن والأدب والدراما والتقريب بين الأغنياء
والفقراء من خلال خدمات الدولة البيروقراطية بمفهوم "هيجل" أو ما سوف يطلق
عليه فيما بعد "دولة الرفاه"(*).
كتب
"جرين" الحرية الفردية ذات قيمة فقط اذا ما كانت وسيلة لتحقيق غاية الرفاه
وكان ينادي بأنموذج أخلاقي يختار الشخص فيه أهدافه بالمشاركة مع الآخرين، كانت
المواطنة مصطلحاً مهما لدى "جرين" أو الليبراليين الجدد المتأخرين وهو ما
عبر عنه احد التابعين "قوة الدولة الصالحة تقوى المواطن، وقوة المواطن الصالح
تقوى الدولة"([8]).
لقد
كان الحلم بمجتمع متجانس منسجم آمن مزدهر هو الذي الهب خيال المثاليين الإنجليزي
كتب احدهم "تخيل لو إن جميع البشر كانوا كلهم يشعرون دائما ببعضهم الأخر كما
يفعلون أحيانا بالنسبة لمن يحبون فلا شك إن النتيجة ستكون "مجتمعاً ليس فيه أفراد
بالمرة، سيكون هناك كائن عام في الآخرين ومن اجلهم.. شعور مشترك", وباختصار
كان الليبراليون الجدد يحلمون بإقامة إمبراطورية حديثة وعامة، ديمقراطية
واجتماعية، أو ما يسميه "جراهام والأس" Graham
Wallas من مدرسة لندن الاقتصادية بـ "المجتمع
العظيم" القائم على الحب والرفقة وليس على الاستحواذ والمنافسة([9]) .
ومن
بين جميع الليبراليين المتحمسين، لتلك الأفكار كان "ارنولد توينبي الأكبر"
هو أكثر تلاميذ "جرين" حماسةً وتوقداً، بل إن بحثه التاريخي للثورة
الصناعية ساعد عليه على نحو كبير، حماسةً أخلاقية شديدة، وجرعة قوية مما يمكن إن
نطلق عليه "الذنب أو الجريرة الليبرالية"، هذا الإحساس بالذنب وتأنيب
الضمير هو الذي جعل توينبي الأكبر عام 1883، يعترف باكياً أمام جمهور من الطبقة
العاملة في (لندن) "نحن الطبقة الوسطى.. قد أهملناكم، ولكنني اعتقد إننا
تغيرنا، إذا صدقتم ذلك ووثقتم بنا، اعتقد إن كثيرين منا سيقضون حياتهم في خدمتكم.
عليكم إن تسامحونا لأننا أسانا إليكم واخطأنا في حقكم كثيراً" وفي طريق عودته
إلى المنزل، أصيب بانهيار عصبي شديد ومات بعد اقل من أسبوعين([10]).
موت
"توينبي" المشهدي هذا جعل الليبراليين الجدد يشتهرون, إما الصرخة الأخيرة
التي أطلقها "هربرت سبنسر" من اجل المثال الفردي القديم في كتابه "الإنسان
ضد الدولة" الصادر عام 1884، الذي يحذر فيه من الافتراضات الدولانية
الليبرالية الجديدة التي ستجرف كل شي في طريقها.
هذا
النداء الأخير لليبرالية القديمة لم يعد يجد من يصغي إليه، إذ كانت الليبرالية
الجديدة قد ترسخت وغدت أكثر من مجرد عقيدة سياسية، كانت "ديناً جديداً"
كما وصفتها "أكسفورد ماجازين" وعدت البروفيسور "جرين" مؤسسه و
"ارنولد توينبي" شهيده، وكان ابرز المتحدثين الرسمين باسم هذا الدين
الجديد "ال-تي هوبهاوس L.t.Hobhouse" أول أستاذ لعلم الاجتماع في جامعة
لندن، والقوة الرئيسة في مجلس تحرير "مانشستر جارديان" الصحيفة الداخلية
لليبرالية الجديدة التي كان شعارها "لكل الأهداف السامية رفع الروح المعنوية
للمسحوقين في كل مكان" في تلك الأثناء كان يزدهر الجناح الأخر من أجنحة
الليبرالية الجديدة وهم الاشتراكيون الفابيون الذين كانوا يتنبئوون بان خدمات دولة
الرفاه البيروقراطية سوف تحل محل النظام الرأسمالي في النهاية.
وكانت
الاشتراكية كما شرحها )سيدني ويب( Sidney Webb احد مؤسسي
"الجمعية الفابية" اكبر من مجرد فلسفة اقتصادية وسياسية . "أنها
تعبر عن الاعتراف الحقيقي بالإخاء، وتقف في تناقض تام مع "مجتمع الكسب والاستحواذ
القاسي والبارد، مجتمع رجال الأعمال الذين يضحون بالصالح العام من اجل المكاسب
الفردية"([11]).
ومع
منعطف القرن كانت الأحزاب العمالية والليبرالية الجديدة تتبادل الاتهامات بسرقة
البرامج بعضها من بعض, وعام 1910 كتب )هوبهاوس( في كتابه )ما هي الليبرالية( )اليوم
كلنا اشتراكيون(.
وفيما
بعد سوف يتنافس الفابيون الاشتراكيون، والليبراليون الجديد في مدحهم المسرف
للاتحاد السوفيتي، ولكن قضية واحدة هي التي شقتهم بشدة الإمبراطورية البريطانية
العام الذي ظهر فيه كتاب "الثقافة والفوضى، 1869 شهد كذلك افتتاح قناة السويس
واتساع السيادة البريطانية الإمبراطورية في مرحلة جديدة غير مسبوقة.
وفيما
كان الموقف الليبرالي القديم يناصر الاستعمار ويرى في الإمبراطورية التوسعية نظاماً
يشبه النموذج الروماني الذي تندمج فيه الأديان والأجناس المتنوعة، الغنية
والفقيرة، والمتحضرة والبدائية تحت سيادة عالمية واحدة، وهذا ما عبر عنه
"جيمس برايس" بقوله "البشرية كلها تتحرك بسرعة لكي تكون شعباً
واحداً"([12]).
كان
موقف الليبرالية الجديدة مضطراً للاختيار بين الرسالة الإمبراطورية لبريطانيا
ورسالتها التحضيرية، إذ برزت هناك صورتان ليبراليتان متعارضتان للإمبراطورية
البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
الصورة
الأولى سلبية جداً وهي الصورة التي رسمها احد الخصوم الألداء للحرب والاستعمار،
وهو صحفي في "مانشستر جارديان" "ج. أ. هوبسون" في مقالة مثيرة
في عام 1902 بعنوان (الاستعمار) أكد فيها أن الجوهر الاقتصادي للإمبراطورية
البريطانية هو الجشع الصريح، كان البريطانيون وغيرهم من الرأسماليين يبحثون عن
منفذ لراس المال الفائض، رأس المال الناتج عن الفقر المدقع ونقص الاستهلاك في
الدخل([13]).
والنتيجة
أن مؤامرة بين رجال المال والصناعيين قد ألهبت المشاعر الوطنية لإقامة إمبراطورية
وراء البحار، تكون ثروتهم فيها آمنة ومضمونة، وكان يسمى ذلك "كارثة انهيار
الحضارة الغربية"، كتاب Hobson "الاستعمار" غير الصورة عن
الإمبراطورية على نحو حاسم بين المثقفين التقدمين في أنحاء العالم، وهو الذي الهم
لينين كتابه "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" منذ ذلك الحين أصبح
"الاستعمار" والنزعة الاستعمارية مصطلحين كريهين في قاموس التقدم.
على
هذا النحو كانت الصورة السلبية عن الإمبراطورية التوسعية التي رسمها هوبسون،
الاستعمار شر، ونظام متفسخ يقوم على الاستغلال الرأسمالي للسكان الأصليين في
الخارج، ونشر الفقر وصناعة السلاح في الداخل، ومن ثم فهو محكوم عليه بتدمير نفسه
عاجلاً أم أجلا.
إما
الصورة الثانية التي رسمتها الليبرالية الجديدة للإمبراطورية التوسعية، فقد كانت أكثر
ايجابية وهي التي لخصها "جون بوشان" John Buchan" في مذاكرته بقوله:-
"حلمت
بأخوة عريضة باتساع العالم، خلفيتها جنس وعقيدة مشتركة مكرسة لخدمة السلام،
بريطانيا تثرى الآخرين بثقافتها وتقاليدها، وبروح الأقطار التابعة، مثل ريح قوية
تجدد وتنقي الهواء الفاسد من الأراضي القديمة... عقيدتنا لم تكن مؤسسة على العداء لأي
شعب أخر. كانت إنسانية وعامة، وكنا نؤمن بأننا نضع أساس فيدرالية عالمية"([14]).
على
هذا النحو كانت بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر تعيش موجة واسعة من التحولات
الداخلية والخارجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والسيكولوجية، وكان
الإحساس بالخوف من المستقبل في عالم مضطرب، هو الشعور الطاغي في الدوائر الثقافية
البريطانية، كان هناك شعور عام إن الحضارة الغربية والإمبراطورية البريطانية والليبرالية
الفيكتورية قد دخلت في أزمة عامة طالت كل البناء والأنساق المدنية والحضارية
والثقافية. وفي خضم تلك الأحداث سوف يولد ويترعرع ارنولد توينبي.
توينبي المولد والنشأة: المرحلة الأولى من حياة
توينبي
في
فجر يوم 14 ابريل من عام 1889 كان بيت أسرة توينبي يستعد للقاء القادم الجديد،
وكان جوزيف توينبي البروتستاتني يتضرع إلى الله بان يرزقه بمولود ذكر، ليكون
بحاراً مثل جده الأكبر توينبي، الذي كان رباناً في احدى السفن الشراعية القديمة
التي كانت تبحر لحساب شركة الهند الشرقية من لندن إلى كلكتا والعكس، "لقد كان
بحاراً جسوراً أسهم في مجد الإمبراطورية البريطانية، وكان هذا البحار له ولد اسمه
ارنولد ولكنه توفي عندما كان أبوه ينقل القوات البريطانية إلى الهند عام 1857"([15]).
في
فجر ذلك اليوم ولد ارنولد جوزيف توينبي Arnold Joseph Toynbee في لندن عاصمة الإمبراطورية المنتصرة من أبوين مسيحيين، كان والده
يعمل موظفاً بشركة الشاي، وكانت والدته حاصلة على درجة البكالوريوس في التاريخ
ومعلمة لمادة التاريخ في احدى الثانويات.
إما
جده لأبيه فقد كان أول طبيب في لندن يتخصص في الإذن والحنجرة وأول طبيب يأخذ
جنيهين للاستشارة الطبية بدلاً من جنية واحد([16]), وكان جده الأخر بحاراً كما أسلفنا، إما جده لامه
فقد كان مخترعاً في مجال السكك الحديدية، وكان عمه ارنولد توينبي الأكبر معلماً وأمينا
لصندوق في كلية بالليول([17]) Bolliol في جامعة أكسفورد التي التحق بها توينبي عام
1907، إذ كانت مركز الليبرالية الجديدة تعنى بتنشئة نخبة "ذات موهبة
استقراطية" يمكن أن تنفذ جدول إعمال ما بعد الليبرالية، وكانت هي النموذج
المناظر لهارفادر الأمريكية، اذ كان خريجوها يتسلمون المناصب العليا في الدولة
والمجتمع، في هذا الوسط الأرستقراطي المعتدل وفي كنف أسرة من الطبقة الوسطى، وفي
بيئة ثقافية ليبرالية جديدة نشأ الطفل ارنولد نشأة سعيدة في أسرة مستقرة تنعم
بالدعة والهدوء والرفاه المعتدل، وكانت أمه معلمة التاريخ الاسكتلندي قد أسهمت في
توجيه اهتمام ابنها إلى دراسة التاريخ، فقد أشار فيما بعد إلى أن صحبته لامه كانت
صحبة فكرية نادرة، وفي جوابه على سؤال كيف صرت مؤرخاً؟ قال توينبي "إنني مؤرخ
لان أمي كانت من قبلي مؤرخة ولم يحدث يوماً إن شككت في أنني سأكون مؤرخاً"([18]).
وكانت
أم توينبي قد الفت كتاباً مدرسياً في التاريخ يشتمل على قصص حقيقية من تاريخ اسكتلندا،
كما كان تأثير عمه هاري فيه قوياً بآرائه المتحررة وشخصيته القوية، التحق توينبي
في مدرسة داخلية في (وتون كورت، وقضى فيها ثلاث سنوات، ثم التحق بكلية ونشستر)، وأمضى
فيها خمس سنوات (1902-1907) وفاز في نهاية دراسته بمنحة دراسية مكنته من مواصلة
دراسته الجامعية في جامعة أكسفورد كلية بالليول من عام 1907-1911، إذ درس التاريخ
القديم، وحصل على مرتبة الشرف وعين في تلك الكلية وأرسلته جامعة أكسفورد للدراسة
في المدرسة البريطانية للآثار في أثينا مدة عام واحد 1912م، ورجع بعد ذلك إلى
جامعته ويتذكر توينبي تلك المدة الباكرة من بداية حياته الجامعية في كتابه (تجارب)
عام 1969م، اذ عدها تكملة لثقافته الكلاسيكية اليونانية الرومانية، التي درسها على
يد جلبرت موري (1874-1936) ابرز الأساتذة الكلاسيكيين في عصره، الذي تزوج توينبي
بنته فيما بعد، وقد درس توينبي اللغة اللاتينية وهو في السابعة من العمر ولمدة
خمسة عشر عاماً، ودرس اليونانية القديمة وهو في العاشرة لمدة اثني عشر عاماً، وقد أتقن
هاتين اللغتين اتقاناً تاماً، حتى انه نظم فيها قصائد أوردها في القسم الثالث من
كتابه (تجارب) وقد استطاع أن يتعلم في المدرسة وفي الجامعة اللغات الفرنسية والألمانية
والإيطالية واليونانية الحديثة، وان يلم بالتركية وبالعربية فيما بعد([19]).
وقد
كان اثر الثقافة الكلاسيكية في حياة توينبي الفكرية اثراً حاسماً كما سنرى فيما
بعد.
يتضح
من هذه الفرشة العريضة، أن نشأة توينبي وتربيته قد كونت الاتجاهات المستقبلية لحياته
كلها، وهذه هي المرحلة الأولى من تكوين توينبي، إذ بد أن مستقبل توينبي مثل مستقبل
بريطانيا مضمون، كتب توينبي فيما بعد في وصف السنوات الأولى من حياته قائلاً: "الإنجليزي
من الطبقة المتوسطة الذي ولد سنة 1889 كان يظن "من السن التي أصبح يعي فيها
العالم المحيط به حتى سنة 1914" إن الجنة الأرضية في متناول يده... كانت الأمور
تبدو سنة 1897 وهي السنة التي احتفل بها البريطانيون باليوبيل الماسي للملكة
فكتوريا التي تولت العرش سنة 1837، وكان العالم الذي ولد فيه قد تخطى التاريخ، إذ إن
التاريخ كان معناه بمنتهى السذاجة. صفحة سابقة من الظلم والقسوة والألم التي
تركتها الأمم "المتمدنة" خلفها إلى غير رجعة، كانت المدنية الغربية
مدنية، وكانت فريدة. وكان قيامها وسيطرتها على العالم بمثابة مكافأتين حتميتين
لخصائصها، والمدنية جاءت لتبقى ولذلك أصبح التاريخ ألان امراً عقيماً"([20]), هذه الثقة الهشة عند توينبي وجيله مزقها مقدم
الحرب العالمية الأولى 1914.
في
الواقع كان توينبي ينتمي إلى جيل من المثقفين المتحررين من الوهم... وكان التفاؤل
الليبرالي للفيكتوريين الأوائل قد بدا يتبدد قبل أن يولد توينبي بوقت طويل وكان
ذلك يرجع كما لاحظنا في مقدمة الفصل إلى الخوف من التدهور، الذي ألقى بشك خطير على
مستقبل المجتمع المدني في العصر الصناعي، بل مستقبل الحضارة الغربية برمتها، وإذا
كان الخوف من التدهور والانحلال قد دفع الليبرالية الإنجليزية للتقهقر، فان صدمة
الحرب هي التي أكملت الطريق وكان عنوان قصيدة (ت. س. اليوت الشهيرة (الأرض الخراب)
عام 1922م في نظر المفكرين الإنجليز خير معبر عن دولتهم وعن الحضارة الغربية التي
دمرتها الحرب([21]), إذ بلغ ضحايا الحرب العالمية الأولى في بريطانيا
نحو (702.410) كانت خسائر بريطانيا في النخبة من المجتمع على نحو غير متكافئ, ثلث
طلبة "أكسفورد" في عام 1913م ماتوا في الحرب، كما أن موت كثيرين من شباب
"بالليول" ألقى بظلال كئيبة على المؤسسة البريطانية([22]) من هذه الصدمة الشديدة والشعور بالفقد والفجيعة،
ستخرج أسطورة "الجيل الضائع" التي سكنت الثقافة الفكرية البريطانية
وصنعت السياسة على مدى العقدين التاليين.
كانت
الحرب العالمية الأولى لدى بريطانيا مثل ما ستكونه حرب "فيتنام" لدى الأمريكيين
اذ كسرت معنويات النخبة السياسية، وعلى حد تعبير إحدى شخصيات رواية "الدوس
هكسلي 1894-1963م" ( لقد تحطم قاع كل شي) كان توينبي احد الذين تحطموا كتب
بعد ذلك "الوهم الذي كان لدي بأنني المواطن المتميز في عالم مستقر قد
تبدد" بعد ذلك سوف تتغير نظرة توينبي إلى مجتمعه والى الحضارة الغربية كلها.
كان
موقف توينبي من الحرب قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى هو الموقف التقليدي الذي
يقوم على التسليم بضرورة الحرب من أجل الحضارة وان كان تسليمه يشوبه عدم الرضا
ويغلب عليه الشعور بالذنب، لكنه بعد عام 1914 وبعد أن طحنت الحرب أكثر من نصف
زملائه في الدراسة في بونشستر وأكسفورد اقتنع إن "الحرب ليست مؤسسة تستحق
الاحترام ولا خطيئة عابرة بل هي جريمة"([23]).
لقد
كان توينبي واحداً من أولئك المفكرين الذين يمزقهم القلق على مصير الحضارة
الغربية، وكان السؤال الحارق الذي يلح عليه إذا كانت الإمبراطوريات القديمة قد
اختفت، فان الإمبراطورية البريطانية لا يمكن إن تكون خالدة ؟ فما السبيل لكي ننجو؟
ورغم
أن توينبي استطاع إن ينجو بنفسه من الحرب ويخرج منها دون أذى، وذلك بتشجيع أمه
ومساعدة أصدقاء الأسرة من المتنفذين، تمكن من أن يتفادى الخدمة العسكرية بإعفاء
طبي مزور، وبينما كان رفاق الجامعة يقاتلون ويموتون في جبهات القتال، كان توينبي آمنا
في بالليول يتكلم عن التاريخ "الهلينستي" مع طلابه حول أكواب الشاي
والجعة، ويكتب كراسة ينادي فيها بسلام يتم التفاوض من اجله، لدرجة انه، أصبح
سلامياً ملتزماً، يكره كل ماله صله بالشجاعة القتالية أو البطولة الوطنية، أو أيً
من تلك المفاهيم القديمة ذات الصلة بالماضي الفكيتوري قبل الحرب، إما بقاء زوجته
وفيةٌ لذكرى واحد من أبطال الحرب، وهو عشيقها السابق "روبرت بروك" الذي
دق إسفينا دائما بينهما فربما كان يعزز نفوره من الحرب وإبطالها.
وفي
شهر يناير من عام 1918 كان توينبي واحداً من جماعة "بلومزبري" Bloomsbury
Group، أسسها وولف واصدقاؤهما وكان من بينهم برتراند
رسل، ارسوا أسلوبا جديداً لحياة الطبقة البريطانية المثقفة بوهيميا من الناحية
الاجتماعية إباحيا من الناحية الجنسية، راديكالياً من الناحية السياسية وسلامياً
لدرجة كبيرة، وكان أنصار هذه الجماعة يحتجون ضد الحرب وقد سجن رسل بسبب ذلك([24]).
وعلى
الرغم من أن توينبي لم يكن في أي وقت من الأوقات عضواً عاملاً في "جماعة بلومزبري"
شارك في كثير من الأفكار التي تحمسوا لها بما في ذلك حماسهم للاشتراكية، كما حماستهم
لفكرة الدولية Internationalism
الجديدة التي انتشرت بين مثقفي أوروبا الليبراليين بعد الحرب، وفي عام 1919 حضر
توينبي مؤتمر الصلح في فرنسا وأصبح مؤيداً شديداً لعصبة الأمم كما التحق في العام
نفسه بدائرة الاستخبارات السياسية في وزارة الخارجية البريطانية، وهذا ما مكنه كما
يقول من رؤية خلفية القرارات السياسية([25]).
على
هذا النحو يمكن القول إن المرحلة الأولى من حياة توينبي قد انتهت بنهاية الحرب
العالمية الأولى، باختفاء الرسالة الانجلوساكسونية العرقية بعد عام 1918م، وبعد إن
ذوت فكرة الأيمان بالسيادة الإمبراطورية، لتحل محلها رؤية الإمبراطورية الليبرالية
عن مجتمع دولي واحد.
المرحلة الثانية في حياة توينبي
تبدأ هذه المرحلة في عام 1921م حين تم تعيين "توينبي"
مديراً "للمعهد الملكي للشؤون الدولية" ومقره "تشانام هاوس" Chatham
House في لندن، وعلى مدى العشرين سنة التالية،
سيكرس "توينبي" جهده لتحرير ونشر مسح سنوي ضخم للشؤون العالمية إلى جانب
كتاباته التاريخية الخاصة، فضلاً عن عمله أستاذا في جامعة لندن للغة البيزنطية
واليونانية الحديثة وادابهما وتاريخهما، منذ عام 1919م حتى عام 1924م، ومن ثم أستاذاً
للبحث العلمي في التاريخ العالمي في الجامعة نفسها من عام 1925م حتى 1955م([26]).
ويرى
بعضهم أن توينبي ظل يعمل في "دارتشاتام" ثلاثة وثلاثين عاماً وكانت
تساعده على تحرير "المسح السنوي للشؤون الدولية السيدة (فيرونيكابولتر) التي
تزوجها عام 1946م بعد إن طلق زوجته الأولى (روزلند) ابنة أستاذه جلبرت موري([27]) التي أنجب منها ولده الناقد
الأدبي فيليب، وابنه توفي الذي انتحر عام 1939م([28]).
وفي
عام 1921م قام توينبي بزيارة كريت في مهمة لحساب عصبة الأمم، ورأى مباشرة النتائج
المروعة للقتال اليوناني التركي على الجزيرة. وقد ساعد ذلك على تقوية نزعته
السلامية، كما زرع فيه رعباً من القومية لم يتركه أبدا، وقد كتب توينبي عما شاهده
من جرائم مروعة ارتكبها اليونانيون ضد الأتراك، في جريدة (المانشستر جارديان) منتقداُ
التعصب المسيحي الذي ظل ضد المسلمين حيا في عقول كثيرين ممن نبذوا المسيحية نفسها([29]).
وفي
عام 1922م نشر توينبي كتاب "المسالة الغربية في اليونان وتركيا"، أدان
فيه الدبلوماسية الغربية والتسوية السلمية، واتخذ موقفاً محايداً من تركيا ومن
اليونان، ولكن هذا الموقف لم يرق لليونانيين المقيمين في لندن الذين يسهمون في
تمويل الكرسي الذي يحتله في تدريس الأدب اليوناني، فاضطروه إلى الاستقالة([30]).
في
الواقع يصعب التوفيق بين رأي صدقي عبد الله حطاب في موقف "توينبي" من
الحرب اليونانية التركية، ورأي محمود زايد، الذي أكد أن توينبي كان يقول "بان
عواطفة كلها كانت عام 1921م مع شعوب اليونان وبلغاريا والصرب والجبل الأسود في
حروبها ضد تركيا للتخلص من سيطرتها([31]).
في
هذه المرحلة من تطور حياة توينبي بدأ التفكير بمشروعه الفكري الفلسفي التاريخي
القادم، المشروع الذي اقترن، بالمسح السنوي للشؤون الدولية، وهو (دراسة التاريخ)،
وبينما كان الأول بحثا عن الحاضر، كان الثاني بحثاً عن الماضي، وقد افاد العملان
من بعضهما بعضاً، ويروى لنا توينبي فكره كتابه "دراسة التاريخ" التي استلهمها
كما يقول من تعليق على الجوقة الثانية في مسرحية "انتيجونه" لسوفوكليس([32]), إذ كتب في إثناء سفره بالقطار من استانبول إلى
لندن في 17 أيلول 1921 على نصف ورقة قائمة تضم نحو اثني عشر عنواناً، وقد ظلت هذه
العنوانات، مع تغيير طفيف جداً، عنوانات الأقسام الثلاثة عشر في كتابه([33]) وبدأ يكسو هذه الدراسة لحماً في عام 1927م، غير أن
البداية الجدية كانت عام 1930 وفي عام 1934م أصدر المجلدات الثلاثة الأولى من
كتابه، وقبل الحرب العالمية الثانية بأحد وإربعين يوماً أصدر ثلاثة مجلدات أخرى، واستطاع
إن يحتفظ بمذكراته الخاصة بالكتاب في نيويورك في إثناء الحرب التي شغلته فلم يبدأ بإعادة
العمل ألا في عام 1947م وفي عام 1954م أصدر أربعة مجلدات أخرى هي تتمة الكتاب،
وعاد وأصدر في عام 1959م المجلد الحادي عشر بعنوان "أطلس تاريخي ومعجم
جغرافي" وفي عام 1961م أصدر المجلد الثاني عشر تحت عنوان
"مراجعات"، وأصدر سومرﭭيل موجزاً للأجزاء الستة الأولى في عام 1946([34]). وموجزاً للأجزاء الأربعة التالية عام 1957م... وإصدار
توينبي طبعة جديدة مختصرة ومنقحة ومصورة لكتابه، بالتعاون مع جين كابلان في مجلد
واحد عام 1972م([35]).
لقد
كان توينبي ورفاقه متفقين مع نظرائهم الألمان في نقطة واحدة وهي أن الحرب العالمية
الأولى كانت نهاية العالم الأوروبي القديم وبداية فجر نظام جديد، لكن ما هي صورة
هذا القادم الجديد، لا احد لديه جواب عن ذلك السؤال.
لم
تحطم الحرب العالمية الأولى الليبرالية التقليدية في انجلترا فقط، ولكنها وضعت
مهنة التاريخ في حالة من الارتباك كتب المؤرخ الإنجليزي فيشر L. Afisher (1865-1944) في مقدمة كتابه "تاريخ أوروبا" عام 1934م "هناك
رجال أكثر حكمة مني أدركوا أن التاريخ حبكة وإيقاع وأنموذج مقرر سلفاً، ولكن تلك
التوافقات خافية على ما أراه فقط، هو حالة طارئة تتبعها حالة طارئة أخرى مثل موجة
تتبع أخرى، ويعلق ادوار كار أن الإلحاح المتجدد للكتاب البريطانيين على أهمية
المصادفة في التاريخ إنما يعود إلى نمو حالة عدم اليقين والقلق التي سادت مع مطلع
القرن العشرين وأصبحت ملحوظة بعد عام 1914م، وعبارة فيشر التي استشهدنا بها، والتي
يستشهد بها توينبي، كانت تُظهر خيبة أمله تجاه فشل الأحلام الليبرالية بعد الحرب
العالمية الأولى"([36]).
في
ذلك العام ظهر الجزء الأول من كتاب توينبي الشهير "دراسة التاريخ" ليقدم
ما كان فيشر أو غيره قد افتقدوه في التاريخ، الشعور بخطة وهدف للتاريخ، لكن هذه
الخطة التي كان يحلم بها توينبي لسير التاريخ سرعان ما تبددت في إعقاب فشل عصبة الأمم
في كبح جماح "موسوليني" و "هتلر" مع حلول سياسية التهدئة، كان
توينبي شديد الحماسة لتهدئه الوضع مع هتلر الذي دعا إلى لقائه في مناسبة خاصة في
عام 1936م مدة ساعتين ونصف الساعة، وألقى عليه هتلر محاضرة في السياسية، وذلك لان
هتلر كان يدرك قيمة العمل الذي يقوم به توينبي، في مسح الشؤون الدولية([37]).
خرج
توينبي بانطباع جيد، قال لمستمعيه بعد عودته إلى انجلترا انه اقتنع بإخلاص
"هتلر" في رغبته بالسلام في أوروبا والصداقة الوثيقة بانجلترا، ومثل
كثير من الليبراليين الإنجليز الآخرين، كان على توينبي أن ينتظر حتى، اتفاقية
"ميونج" لكي يدرك أن عدوان "هتلر" لم يكن نتيجة ضغط كبير من
الغرب ضده، بل لان الضغط لم يكن كافياً"([38]).
عشية
غزو "بولندا" اقتنع توينبي بان فشل الغرب في التعامل على نحو مؤثر مع
"هتلر" لم يكن له علاقة بنزعة السلام أو التهدئة، بل بطبيعة الغرب
الحديث نفسه.
لقد
تصادف وقع الحرب العالمية الثانية التي بددت كل أمل السلام لدى ارنولد توينبي مع
مأساة شخصية أصابت توينبي باليأس الساحق، في شهر فبراير من عام 1939، ماتت أمه،
وبعد شهر ينتحر ابنه "توني" وقررت زوجته روزلند عام 1942م أن تتركه بعد إن
اتهمته بالجبن، وما كان لذلك من وقع شديد الألم على نفسه، كل تلك المآسي الشخصية
الخاصة ومأساة الحرب العامة كانت تكمل طريق خيبات الأمل والشعور التعس باليأس
الكوني الواسع.
كان
توينبي يرقب أحداث الحرب العالمية الثانية مكتئباً منسحباً داخل ذاته الممزقة،
بمشاعر اليأس والقلق والضياع والفجيعة في تلك الأفاق الحالكة الملبدة بالموت
والرعب والحزن والخيبات لم يعد إمام توينبي من أمل غير التوجه الروحاني نحو الله الرحيم
إذ بدأ إن توينبي الشاب الذي كان قد تحول بين عامي (01907-1911م) إلى "لا
ادري" استنتج من تحوله هذا أن الدين ذاته ليس ألا وهما عديم الأهمية([39]). بيد ان توينبي الكهل أعاد عام 1940م اكتشاف سلوى
الأيمان بآله متعال- فوق الوجود المادي، وفكر في ذلك الوقت أن يتحول إلى
الكاثوليكية وفي عام 1940 ألقى محاضرة عامة في "أكسفورد" نشرها فيما بعد
بعنوان "المسيحية والحضارة" عام 1957م كشف فيها النقاب عن أيمانه الجديد،
وأكد أن التقدم "الديني" هو الذي يعطي للتاريخ معنى، أكثر من التقدم
المادي المدني، وقد استخدم في محاضرته استعارة حية مذهلة، جديرة بالقديس أوغسطين إذ
قال: "إذا كان الدين مركبة، يبدو إن الشيء الذي يحملها نحو السماء، هو سقطات
الحضارة الدورية على الأرض، وتبدو حركة الحضارات دورية ومتكررة، بينما حركة الدين
ماضية في خط واحد... صاعد.. ومستمر"([40]).
وكانت
النتيجة التي توصل إليها توينبي هي: إذا اختفت حضارتنا الغربية العلمانية، فمن
المتوقع للمسيحية أن تبقى ليس هذا فقط، بل إنها سوف تزداد حكمة ومنزلة نتيجة
لتجربة جديدة مع كارثة علمانية.
هكذا
هو الحال دائما تروج النظريات القدرية، والعرضية التي تشدد على دور الحتمية أو
المصادفة في التاريخ، حينما تكون الشعوب والأفراد في حضيض الأوضاع وليس في ذروتها
كما يقول ادوار كار([41]).
بل
إن المشاعر المضطربة المتناقضة التي أصابت توينبي ورغبته الشخصية بالسلام والهدوء
وقلقه على مصير بريطانيا والحضارة الغربية، وتوقه الفكري للوحدة العالمية، كانت قد
جعلته ينطق بكلمات غريبة في خضم اشتداد أوار الحرب، إذ بلغ به الأمر أن يقترح على
نحو غير معلن "أن الاستسلام لـ هتلر قد يكون أفضل من التمادي في الحقد والكراهية
وأعمال العنف" وان العالم في حاجة ماسة لوحدة سياسية، وان ذلك يستحق أن ندفع
ثمن السقوط تحت اشد استبداد ممكن"([42]).
هكذا
كان توينبي يعيش حالة من التذبذب والتخبط في المواقف إذ أنه كان يبدل أفكاره ومواقفه
على وفق التقارير الواردة من جبهات القتال, ففي الوقت الذي كان يرى الحرب من اجل
الحضارة في بداية شبابه، يصبح ألان عدواً للحرب والحضارة معا كتب يقول: "اشعر
ببغض للحضارة الغربية وكنت دائما حاول أن اعرف سبب ذلك... في جزء منه... هو الشعور
بان العالم القديم هو المسكن الطبيعي لروح والإنسانية وان ما جاء بعده شي مؤسف"([43]) وفي الوقت الذي نادى بالليبرالية الجديدة، لم
يتورع عن التفكير بالاستسلام لأبشع نظام استبدادي عرقي مقابل السلام، وفي الوقت
الذي كان يرى فيه الدين وهما من الأوهام، عاد هنا لاكتشاف سلوى الأيمان، كتب عام
1939م, "يجب حتما أن نصلي، لان المهلة التي انعم الله بها على مجتمعنا مرة،
لن يضن علينا بها إذا نحن طلبناها مرة أخرى بروح خاشعة وقلب نادم"([44]).
هكذا
كان توينبي يتأرجح مع رياح الإحداث، فحينما كان القتال يشتد على بريطانيا كان
توينبي يفقد الأمل بالحضارة ومستقلبها، ويتضرع لله كي لا يقع ما يخشاه، وعندما أصبحت
الإحداث أكثر مواتا، ودخلت روسيا وأمريكا الحرب، عاد إلى توينبي شعوره بالثقة في
المستقبل، ألا أن رؤيته الدينية لنهاية الغرب بقيت بعد الحرب متزامنة مع تفجر
شهرته على نطاق واسع بعد عام 1945، وبنهاية الحرب، كان ملايين القراء قد التهموا
الطبعة المختصرة من "دراسة التاريخ" التي أعدها (دي. سي سومرفيل"
بما جاء فيها من تركيز على نظرية "التحدي والاستجابة" والدعوة للقيام
الحتمي لدولة عالمية، علمانية مسيحية إنسانية.
المرحلة الثالثة من حياة توينبي
بعد أن وضعت الحرب أوزارها
واطمأن توينبي على مستقبل الحضارة الغربية، كان السؤال الذي يشغله هو ما العمل لكي
لا تتكرر الكارثة، وكان يستبعد قيام حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها الأسلحة النووية
والبكتريولوجية واستخلص أن المجتمع الغربي هو المجتمع الوحيد الذي كان في السنوات
(1927-1950) لا يزال في مرحلة الارتقاء، وان توسع المجتمع الغربي وإشعاع الثقافة
الغربية، قد وضع جميع الحضارات الأخرى الباقية، في نطاق إطار عالمي شامل، يصاغ
بالصيغة الغربية، والحقيقة الثالثة التي استخلصها توينبي هي أن جميع مصائر الجنس
البشري بأسره قد جمعت لأول مرة في تاريخه في موضع نفيس لكنه غير مستقر، كما لو انه
بيض جمع في سلة واحدة"([45]).
تلك
هي الوقائع التي دفعت توينبي إلى أن يسجل وهوكاره عام 1950م، النتيجة التي وصل إليها
وهوكاره عام 1929م كما يقول نتيجة قوامها إن بحثاً في مصائر الحضارة الغربية، هو
جزء ضروري من دراسة تاريخية شاملة للتاريخ البشري تكتب في القرن العشرين"([46]).
في
هذه المرحلة من حياة توينبي تفجرت شهرته على نطاق واسع، في أمريكا واليابان والشرق
الأوسط، وكتب معظم أعماله الفكرية، فضلاً عن عمله الكبير "دراسة
التاريخ" الذي استمر على تأليفه من عام 1921 إلى 1961 وهذا ما سنعرضه لاحقاً.
بقي
أن نشير هنا ونحن نختم حديثنا عن حياة توينبي إلى تلك الصفة التي لازمته طوال
حياته، وهي حبه للسفر والترحال إذ كان يرى أن السفر يجب أن يسبق كل شي عند من يدرس
الشؤون الإنسانية، إذ أن الناس والمجتمعات الإنسانية لا يمكن فهمها بمعزل عن
بيئاتها، ولا يمكن فهم بيئاتها الجغرافية بطريقة غير مباشرة، وهو يرى أن أمتع
وسيلة للسفر ابطؤها أي أن الحمار هو خير وسيلة لمن يريد أن يعرف ما حوله من العالم
وأمتع الدروب اوعرها، ولقد قال احدهم عن توينبي انه رحاله دربه المفضل شعاب الجبال
التي تسلكها الماعز وقد ألف توينبي عددا من الكتب يصف فيها إسفاره، وهي من أمتع أدب
الرحلات([47]) ومن الزيارات الكثيرة التي قام بها توينبي يمكن أن
نذكر زياراته المتكررة لليونان وتركيا التي بدأت منذ عام 1912 واستمرت حتى عام
1921 وعام 1923، وعام 1929 و1948 و1956 و1957([48]) وزياراته المتكررة إلى
الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1939 وعام 1948، وزياراته المتكررة لليابان لأعوام
1950-1956م، إما زياراته للوطن العربي وأفريقيا، ومصر والسودان وفلسطين والعراق
وليبيا والمغرب، والأردن والسعودية وإثيوبيا، ونيجيريا بين الأعوام 1961م حتى
1965م، فقد عرضها توينبي في كتابه (الوحدة العربية آتية: من النيجر إلى النيل)
1967 وربما كان هناك الكثير من الإحداث والتفاصيل والزيارات في حياة توينبي لا
يتسع المجال لذكرها هنا.
لعل
من شان هذه الصورة الإجمالية لمسيرة حياة توينبي الزاخرة بالإحداث والمواقف
والغنية بالإعمال والإنجازات في سياق الظروف التاريخية لمجتمعه وعصره، أن تمهد السبيل
للإطلالة على النتاج الفكري الفلسفي والتاريخي الذي أبدعه المؤرخ الفيلسوف في حقل
فلسفة التاريخ الغربي المعاصر.
هكذا
كما هو واضح لقد عاش توينبي حياة مفعمة بالنشاط والحيوية في لحظة حاسمة من تحول
الحضارة الغربية، من مرحلة إلى أخرى، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، من
الليبرالية التقليدية إلى الليبرالية الجديدة، ...الخ.
وإذا
ما كان علينا إن نلخص تطور حياة توينبي في تلك المراحل الثلاث فيمكننا استخلاص ذلك
على النحو آلاتي:-
1- في المرحلة الأولى من حياة توينبي الشاب منذ أن
وعى العالم حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914م، سادت النظرة التفاؤلية الساذجة
لسيرة التاريخ وتطور حركته نحو غاياته المنشودة([49]).
2- في المرحلة الثانية مرحلة بين الحربين حتى عام
1945م انخرط توينبي في مجال النشاط السياسي، وكانت نظرته للتاريخ والحضارة نظرة
تشاؤمية تاريخية، إذ فقد الأيمان بالبشر والتطور الإنساني، واتجه للبحث عن منقذ
الهي للحضارة الغربية "لا شي غير الله ينقذنا"([50]).
3- في المرحلة الثالثة من حياة توينبي الكهل التي بدأت
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وفاته، أعاد توينبي النظر في دراسته للتاريخ
وعدل الكثير من المفاهيم، وخفف من حدة النظرة التشاؤمية، وأكد على أهمية دور الدين
وتنبأ بقيام حضارة كونية جديدة بديلاً حتمياً لتجنب كارثة نووية([51]).
المؤثرات الفكرية في توينبي
لقد
عاش توينبي في عصر يعج بالتيارات الفكرية الفلسفية والعلمية، وفي بيئة ثقافية أكاديمية
ليبرالية فهو سليل تراث الليبرالية الإنجليزية منذ فرانسيس بيكون ولوك وهيوم وهوبس
وبنتام حتى أواخر القرن لتاسع عشر.
من
الناحية الفلسفية شهد توينبي ذلك الصراع الحاد بين التيارات الفلسفية المثالية
والتجريبية الواقعية، في بريطانيا اذ بلغت المثالية قمتها قرب نهاية القرن التاسع
عشر لاسيما بعد اختفاء الأعداء القدامى، كالمذهب الترابطي، ومذهب الموقف الطبيعي،
ومذهب المنفعة، والمذهب الحسي، واللاادرية والدارونية، وهي المذاهب التي زادت
المثالية قوة خلال صراعها معها كما يقول كولنجوود، والتي كانت هزيمتها واحدة من إعمالها
الرائعة"([52]).
وقد
لاحظنا في الفصل السابق اثر الاتجاهات الفكرية في فلسفات التاريخ المعاصرة،
التقليدية الشمولية ممثله في الماركسية، والحيوية النيتشوية، وكذا فلسفات التاريخ
النقدية، الوضعية والتأملية، والبراجمانية، أثرها سلباً أم إيجابا في توينبي
وتكوين أفكاره.
ولا
تفوتنا هنا الإشارة إلى اثر تخصص توينبي في التاريخ اليوناني والروماني والثقافة
الكلاسيكية بعامة، ففي هذا الفضاء الروحي المشبع بالروح الكلاسيكية والحنين إلى أثينا
البيربكليسية(*)
واهتزاز الثقة بالإمبراطورية البريطانية والتفاؤلية الفيكتورية عاش وفكر وكتب
توينبي.
ويتحدث
توينبي عن اثر الثقافة الكلاسيكية في تكوينه الفكري بقوله "منحتني موقفا
عقليا خارج نطاق الزمان والمكان الذي صدف أن ولدت فيهما، وقد أنقذني هذا من الإفراط
في تقدير أهمية الحضارة الغربية الحديثة. كما اكتسبت من هذه التربية الكلاسيكية أيمانا
دائما بان الشؤون الإنسانية لا تصبح مفهومة ألا إذا نظر إليها وحدة مترابطة، ومن
ثم كرست حياتي كلها للوصول إلى رؤية شاملة للشؤون الإنسانية .. وبفضل تأثير هذا
التعليم الكلاسيكي في صار مذهب القرن التاسع عشر في التخصص لا يعني لي شيئاً.. وقد
علمتني أن أرى الحضارة اليونانية والرومانية وحدة، وقد حاولت إن ادخل ضمن رؤيتي
وضمن عملي جميع المجتمعات الأخرى. بما فيها من ديانات وفلسفات"([53]).
وفي
مكان أخر يعترف توينبي بأثر الثقافة اليونانية بقوله: "وقعت حرب عام 1914 وأنا
أقوم بتدريس ثيوكيديدس لطلبة كلية بالليول (بأكسفورد)... وفجأة غمر النور فهمي
لمجريات الأمور، وعرفت إن التجربة التي كنا نمر بها عندئذ هي ذات التجربة التي مر
بها ثيوكيديدس... وبذلك اثبت عالمانا أنهما متعاصران فلسفياً"([54]).
في
الواقع أن المؤثرات التي تؤثر في دارس التاريخ العالمي هي ابعد مدى وأوسع اثراً من
تلك المؤثرات التي تؤثر في أي باحث أخر، ذلك لان الباحث في التاريخ الشامل للعالم
مثل توينبي لا ريب انه يتأثر بكثير من الأفكار والتصورات التي يصدفها في سياق قراءته
تراث الماضي البعيد والتراث الحديث والفكر المعاصر، ومن ثم يكون من الصعب حصر كل
المصادر الفكرية التي أثرت في تكوين توينبي، فمن المؤكد أن التراث الفلسفي التاريخي
السابق منذ بواكير الفكر الشرقي القديم والأدب اليوناني والفكر العربي الإسلامي
وتراث النهضة والتنوير والفكر الحديث التجريبي والعقلي، كل ذلك قد كان له تأثير في
توينبي بهذا القدر أو ذاك, يقول توينبي: "نظرتي إلى التاريخ ليست هي نفسها
سوى جزء يسير منه... ذلك لان العمل الذي يؤديه الباحث في حياته إنما يقوم على إضافة
دلو من الماء إلى نهر المعرفة العظيم المتزايد- ذلك النهر الذي يرفد مالا عدله من
الادلا المماثلة، ولا يكتفي توينبي بهذا التعميم، ولكنه يثبت في المجلد الأخير من
موسوعته أسماء عدد كبير من إعلام الفكر الذين كانوا له بما أضافوا إلى التراث الإنساني
من نتاج عقولهم الخلاقة، ينابيع الهام وهداية"([55]).
فهو
يذكر فضل الكتاب المقدس، ويعترف بالجميل للقديس أوغسطين الذي بصره بطبيعة العلاقة
بين العالمين الأرضي والسماوي، ولأفلاطون الذي علمه كيف يستخدم عقله وخياله معا،
ويتفق مع أرسطو فيما يتصل بالتفريق بين التاريخ والعلم (الفلسفة والدراما)([56]).
كما
يعترف باستلهامه فكرة التحدي والاستجابة من الفكر الصيني القديم، وقد وجد في الأدب
والأساطير المختلفة في مصر وبلاد الرافدين مرتكزات أساسية لتسويق فكره في التاريخ
والحضارة والفلسفة والسياسية, ويقر توينبي بفضل ابن خلدون عليه حينما عده في مقدمته
للتاريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه([57]), ويعترف توينبي بالأثر العميق الذي تركه في نفسه
مفهوم "غوته" عن القيم الفاوستية، ويجدر بنا أن نلاحظ إن نظرية
"يونج" عن (النماذج السايكولوجية) قد أثرت في توينبي تأثيراً شديداً،
ذلك أن نماذج يونج السيكولوجية حسب كولن ويلسون، تشير إلى النماذج الثلاثة من اللامنتمي،
الجسدي والعاطفي والعقلي([58]) وقد
طبق توينبي تلك النماذج السيكولوجية على الحضارات والأديان([59]).
ويقر
توينبي بأثر ميكافللي فيه([60]). ويرى آرثر هيرمان (أن توينبي استعار مفهوم
(الوثبة الحيوية) من الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون")([61]) وهذا ما أكده توينبي بنفسه
في كتابه دراسة التاريخ([62]) .
هناك
حشد كبير من الأسماء التي يوردها توينبي في دراسته، الرسل والأنبياء والقديسين
والفلاسفة والعلماء والسياسيين والأسطوريين والأدباء والفنانين... الخ ومع ذلك
يصعب الاتفاق مع أولئك الذين يعتقدون بان أفكار أفلاطون أوغسطين أو ابن خلدون
وهيجل قد مارست تأثيراً مباشراً في حياة توينبي الفكرية، ذلك بمجرد إن يجدوا بعض
الشبهة بين هذا الأخير، وفلسفات السابقين فالتأثير الحقيقي للأفكار على الناس لا
يكمن في الأفكار ذاتها بل فيما تمتلكه تلك الأفكار من طاقة كامنة وقوة حيوية في
الواقع المعاش وإحداثه ومشكلاته، فليس الفكرة تصوراً نظرياً، بل تحتوي في ذاتها
على قوة ديناميكية لتحريك الأفراد والأمم في اتجاه الغايات والمؤسسات التي تتضمنها
في سياق حياتهم الحاضرة.
على
هذا يصعب حساب المؤثرات الفكرية التي أثرت بالفعل في تكوين توينبي وفلسفته في
التاريخ، بمجرد الرجوع إلى تاريخ الأفكار، بل لا بد من أن نتفحص ذلك النسيج الحي
الذي دفع توينبي للتفكير على هذا النحو، وليس على نحو أخر لقد كان الحافز الذي دفع
توينبي للتفكير في التاريخ ودراسة الحضارات حافزاً نابعاً من ذلك التحدي الذي أحسه
به في وجه الكارثة يقول: "في أكثر الحالات تكون كوارث التاريخ الكبرى بتحديها
نزعة التفاؤل الطبيعية في الإنسان هي التي تستدعي من المؤرخ أبداع جهوده في الكشف
عن معنى الإحداث التاريخية التي يعيشها"([63]).
على
هذا النحو نرى أن في الوسط الثقافي الاجتماعي الذي عاش فيه توينبي-عاملين لا يتصل
أي منهما بشخصه وحده، وكان لهما اثر حاسم في دراسته للتاريخ هما:-
العامل
الأول:- التاريخ الحاضر لعالمه الغربي, والإمبراطورية البريطانية تحديداً.
العامل
الثاني:- ثقافته الهلينية الكلاسيكية وتخصصه بالتاريخ.
وقد
تأثر توينبي عدداً من المؤرخين وفلاسفة التاريخ أمثال المؤرخ الإنجليزي ادوار جيبون
وكتابه "اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية" كما تأثر كتاب الكونت
الفرنسي "كونستانتين دو فولني" (الإطلال) الصادر عام 1787([64]) وتأثر بكتاب توماس بأكل
"تاريخ الحضارة في انجلترا" عام 1857 كما تأثر بكتاب الأمريكي
"بروكس ادمز" "قانون الحضارة والانحلال" عام 1893م([65]).
إما
اهتمامه بالأسلوب المقارن في دراسة الحضارات القديمة فقد استوحاه من كتاب
"تاريخ العصور القديمة" لـ "ادوارد ماير" عام (1884-1902م)
وهو الذي دفعه لطرح سؤال بسيط (ماذا لو طبقنا أسلوبه المقارن هذا على تاريخ
الغرب؟"([66]).
ويرى
بعضهم أن توينبي قد تأثر "المفكر الأمريكي "ف. ج. تيجارت" في إلحاحه
على ضرورة التوسع في دراسة حياة الشعوب وعاداتها وأنماط سلوكها وأسلوبها وثقافاتها
لكي نفهم تاريخ الحضارة ونهتدي إلى روحها ولبابها"([67]).
وقد
اشرنا سابقا إلى تأثر توينبي المؤرخين الإنجليز أمثال ويلز وفيشر، وكولنجوود
وغيرهم.
ويذهب
بعض الدراسيين إلى تأثر توينبي المؤرخ الروسي "نيقولاى دانيلفسكي"
(1812-1885) الذي حاول تحديد الشخصية السلافية ببناء نظرية كاملة في التاريخ تقوم
على أساس من مورفولوجية التاريخ، وهدف إلى بيان أهمية الحضارة الروسية السلافية في
المستقبل([68]).
هذا
ويذهب لمعي المطيعي، إلى أن توينبي قد تأثر نيقولاي دانيلفسكي، الذي كان موظفاً
نابها في الحكومة الروسية واعد عام 1869م دراسات حول موضوعات متشعبة ونشر في مجلة
"زاريا" سلسلة من المقالات بعنوان "روسيا وأوروبا" "وهو أول
من أكد إن الحضارة هي الوحدة الحقيقية للدراسات التاريخية، وقد اخذ توينبي هذه
الفكرة ليجعلها مرتكز دراسته للتاريخ العالمي, إذ أكد دانيلفسكي أن الحضارة
الغربية، ليست الحضارة العالمية بأي وجه من الوجوه... بل هناك حضارات كثيرة خارج أوروبا
كالحضارة الروسية المستقلة عن أوروبا الغربية فهي ليست جزءاً ولا فرعاً من الحضارة
الأوروبية، وأكد أن تدهور الحضارة الأوروبية الغربية قد بدا فعلاً مع بداية القرن
التاسع عشر، وان الصدام بين الحضارة السلافية (الروسية) والحضارة الأوروبية
الغربية، واقع لا محالة، وسوف تخرج الحضارة السلافية منتصرة على الحضارة الأوروبية
من هذا الصدام القادم"([69]).
ومع
أننا في دراستنا توينبي لم نجد إشارة لهذا المؤرخ الروسي، ربما كان لمعي الميطعي
على حق فيما قاله, ولاسيما أن طرح دانيلفسكي لا يخلو من الصحة.
شبنجلر وتوينبي
حين
نتحدث عن ابرز فلاسفة التاريخ المعاصرين الذين كانوا لهم اثر واضح في فلسفة
توينبي، لا نعني بذلك الأثر الايجابي فحسب، بل الأثر السلبي كذلك، وقد كان للفيلسوف
الألماني شبنجلر الذي عرضنا له في الفصل السابق، شديد الأثر في تحفيز توينبي على
التفكير بمصير الحضارة الغربية، ومن ثم دراسة التاريخ الحضاري العالمي كله.
ولقد
كان ارنولد توينبي المؤرخ الشاب في جامعة لندن من الأوائل الذين حصلوا على نسخة من
كتاب "شبنجلر" "أفول الغرب" عام 1920م، وجد الكتاب مثيراً
ومفزعاً في الوقت نفسه. كانت كل صفحة فيه حافلة "بومضات نارية" تدل على
تبصر تاريخي بالمشكلة ذاتها التي كان توينبي يخطط لتناولها بالدراسة، وهي قيام
وسقوط الحضارات، كما كتب مطولا فيما بعد، "في البداية تساءلت، ما إذا كان شبنجلر
قد أجاب عن جميع الأسئلة قبل أن تتشكل في ذهني... ناهيك عن الأجوبة"([70]).
كان
كتاب شبنجلر فضلاً عن عوامل أخرى حافزاً على العمل في ذلك الصيف، وضع
"توينبي" أطارا لما سيصبح بعد ذلك "دراسة التاريخ" وهو وصف
لتاريخ البشرية من سومر إلى أمريكا في 12 جزءاً من الحجم الكبير، وفي النهاية
سيتفوق على "أفول الغرب" بكونه أشهر تقييم لمكانة الحضارة
الغربية في تاريخ العالم
الحديث والمعاصر.
كان "توينبي" نتاج تراث ثقافي مختلف تماما عن
تراث "شبنجلر" بل لعله كان التراث الذي يحتقره "شبنجلر" تراث
الليبرالية الإنجليزية في أواخر القرن التاسع عشر لكن
ذلك لم يمنع توينبي من مشاركة شبنجلر بعض ألافتراضات والأفكار من ذلك:
1.
اتخذ كل من شبنجلر وتوينبي، الإمبراطورية البريطانية
رمزا" للغرب الحديث .
2.
يتفق توينبي مع شبنجلر في أن الحضارة الغربية في القرن العشرين كانت في أزمة.
3. كانت النزعة التشاؤمية
مشتركة عند الجانبين، وتختلف في الاتجاه ففي حين كانت تشاؤمية شبنجلر، هي تشاؤمية
ثقافية، تتطلع نحو الحيوية والنزعة العسكرية لتجديد الغرب، كانت تشاؤمية توينبي،
تاريخية تتطلع إلى عكس ذلك تماما".
4. ومثل كتاب
"شبنجلر" ـ أفول الغرب ـ كان كتاب "توينبي" دراسة التاريخ ـ
يقدم الصورة نفسها: وهي أن دور بريطانيا العظمى في ذلك التاريخ كان يقترب من
نهايته. وفي إثناء جولة له في "كريت "في عام 1912. وجد "توينبي
" نفسه . أمام قصر باروكي ضخم بناه أمير تاجر من "ڤينيسيا " قبل
اجتياح الأتراك الجزيرة، وعندما وقف محدقاً في ذلك الهيكل الخرب جاءته الفكرة كما
كتب فيما بعد: " إ ذ ا كانت الإمبراطورية الفينسية قد اختفت، فان
الإمبراطورية البريطانية لايمكن أن تكون خالدة" هذه النظرة البعيدة، سوف تظل ملازمة
له طوال حياته: هشاشة الآمال والتطلعات الإنسانية، بما فيها آماله وتوقعاته، في
وجه القوى الأعظم للتاريخ والزمن والكون والفساد.
5. تأثر توينبي بمنهج
شبنجلر في نقده التأريخ الأوربي التقليدي الذي يضع الحضارة الغربية المسيحية في
مركز التاريخ العالمي ويتجاهل الحضارات الأخرى، وقد عد توينبي "أن هذه الفكرة
الخاطئة القائلة أن
الغرب هو الحضارة وان جميع ماعدها إما روافد لها أو ضائعة في رمال الصحراء ناجمة
عن ثلاثة أوهام هي: وهم حب الذات ووهم الشرق الراكد، ووهم التقدم حركةً تلتزم خطاً
مستقيما"([71])
6. الفكرة السادسة التي
تأثرها توينبي هي فكرة المصير، تلك الفكرة التي كانت أهم الأفكار في نسق شبنجلر
الفلسفي، إذ أعلن توينبي أن جميع الحضارات الكبرى في التاريخ تحركت بلا وعى نحو
هدف أعلى، كان يسميه "تقرير المصير" ومعناه إن حضـــارة ما، تحقق هوية
فريدة واعية بذاتها، تتمفصل بين أعضائها الذين يحققون شعورهم الكامل بالهوية
والهدف، مشاركين واعين بالكيان الكلي([72]). على أن تقرير المصير هذا كان نتاج "وثوب"
روحي يحرك كل حضارة من "التحدي، وعبر الاستجابة إلى تحد ابعد" وهكذا
دواليك
7. إما الأثر المنهجي
الأخر الذي تلقفه توينبي من شبنجلر، فهو الدراسة المقارنة للحضارات، والفرق بينها
يكمن فقط في عدد الحضارات التي تمت المقارنة بينها، ففي حين أشتمل مصنف شبنجلر على
ثماني حضارات قابلة للمقارنة، وسع توينبي مصنفه إلى أكثر من عشرين حضارة، لكن
شبنجلر نظر إلى الحضارات من حيث هي كيانات عضوية مغلقة لكل منها دورة حياة مكتملة
من الميلاد حتى الموت، أما توينبي فقد تحدث عن تعاقب أجيال الحضارات التي تأثر
وتتأثر بعضها ببعضاً.
8. ربما كانت الفكرة الأساس التي استلهمها توينبي
من "أفول الغرب" هي فكرة التعاقب الدوري للحضارات وعلى الرغم من أن
توينبي ينتقد فكرة التعاقب الحيوي الحتمي للحضارات عند شبنجلر، "لان الحضارة
هي كيان من نوع لا يخضع لقوانين البيولوجيا"
كما يقول([73]) ألا إن توينبي ينزلق من حيث لا يدري إلى المنحدر
البيولوجي الذي سار عليه شبنجلر، إذ شبه الحضارات بـ"البذور التي تبذر ينفصل
بعضها عن بعضها الأخر، ولكل بذرة مصيرها الخاص، وان كانت تشترك جميعها في النوع،
كما يتولى بذرها باذر واحد يأمل جني محصول واحد"([74]).
ولا نعتقد بأن هناك فرقاً بين تشبيه شبنجلر للحضارات باليرقات التي
تولد وتنمو وتزدهر وتموت، وبين تشبيه توينبي للحضارات بالبذور التي تبذر في الأرض
وتنبت وتثمر وتموت، ففي الواقع هناك نقاط كثيرة يتفق بها توينبي مع شبنجلر وان كان
لا يقر بذلك، إذ كان شبنجلر يرى أن الحضارة الغربية قد اجتازت مرحلة الخلق والإبداع إلى
مرحلة المدنية الآلية إذ سكنت السورة الحيوية التي كانت تشحنها بالطاقة الخلاقة،
لقد أصبح كل شي خاضعاً لمنطق العلة والمعلول واستحال الكيف إلى كم، وسادت الآلية
البحتة والاتجاهات اللادينية، ولا نعتقد بأن توينبي قد قال غير ذلك في تفسيره تأريخ الحضارة الغربية في الواقع لقد كان شبنجلر أعمق
فلسفياً من توينبي لكن الصورة التي رسمها توينبي للتاريخ كانت أكثر رحابة واقل
تشاؤماً، اذ رأى أن المستقبل مفتوح وان التاريخ الماضي لا ينبىء بصفة قطعية بما
سوف يكون عليه الغد.
لقد كان "شبنجلر" يمثل "الحانوتي"
الذي جاء يتلو مراسيم تابين الحضارة الغربية، وهي في الطريق إلى القبر بينما
توينبي كان بمثابة الطبيب الذي يبذل قصارى جهده لعلاج المريض الذي يرقد على فراش
الموت.
وخلاصة الفرق بين شبنجلر وتوينبي يكمن في أن شبنجلر وأقرانه اتجهوا إلى حيوية عرقية عسكرية
نازية لا عقلانية في علاج أزمة الغرب، في حين أن توينبي وكثيرين من أبناء جيله
اتجهوا نحو بديل آخر، كان قد انبثق من الليبرالية الجديدة([75]). وافتراضاتها ما بعد الليبرالية، وبدلا من هدم الغرب،
فإنهم سيقومون بعملية تجديد له ويغدو مجتمع القيم المشترك، أو ما كان يطلق عليه
بلغة التنوير القيم "المهذبة" التسامح والتعاطف والاهتمام الإنساني
والحلول الوسط المعقولة ستكون كلها من معالم تلك الحضارة الغربية الجديدة،
الإمبراطورية البريطانية وأوروبا وأمريكا امتداداً لها، ستتقبل أفولها السياسي إذ هبت الدول غير الأوروبية بملاينيها الملونة في الأفق.
إن الغرب المتحضر الأكثر طيبة ولطفاً، سوف يشيد بالفعل
إمبراطورية كونية جديدة للسلام والوئام، بقيمه الإنسانية أساساً لحكومة عالمية
ووحدة بين الشعوب في كل مكان.
هذه الرؤية الجديدة الهادئة للغرب الحديث هي التي زودها
ارنولد توينبي بصيغة جديدة للتاريخ الكوني تسمى "تاريخ العالم" يمكن إن
تستخدمها لتسويغ مزاعمها في التسامح الروحي وقبولها الضمني لاضمحلال الغرب
الاستعماري الإمبراطوري.
وقد أتضح أن هذه الرؤية الليبرالية الجديدة كانت مؤثرة
ليس في بريطانيا وحدها، ولكن في الغرب كله عدا أمريكا، إذ أصبح رفض العنف والقوة أمراً أخلاقيا جوهريا لدى ورثة
النزعة الإنسانية الليبرالية تماًماً كما كان الاحتفاء بالقوة والعنف قد أصبح
امراً أساسيا عند خصومهم النازيين وما كان
يبدو عند توينبي واقرانة السلاميين تعبيراً عن تحفظ أخلاقي، كان يبدو لأعدائهم
دليلاً ابعد على التفسخ والعجز والانحلال والجبن, ومن التهدئة... وعصبة الأمم، إلى
لجنة نزع الأسلحة النووية والاحتجاجات على الغزو الأمريكي لفيتنام والتنديد
بالاستعمار وإدانة المذابح الصهيونية في فلسطين والاحتجاج على الصورايخ الأوروبية
في الثمانينات، إلى الاحتجاجات الأخلاقية ضد الغزو الأمريكي للعراق... أثبتت
لبيرالية القرن العشرين أنها أكثر خبرة ومهارة في تشجيع أعدائها، عنها في حماية
أولئك الذي كانت تدعي تمثيلهم، مواطني المجتمع العالمي الجديد.
دراسة "توينبي عن التاريخ" التي بناها على مدى
أربعة عقود، تقف معلماً بارزاً في هذه الليبرالية الحديثة فهي تعبر عن ميزاتها، وعن
فشلها، وعن التشاؤم التاريخي الكامن خلفها([76]).
مؤلفات توينبي
أنتج توينبي جملة واسعة من الأعمال التخصصية والعامة،
التي تنحو في معظمها منحى البحث التاريخي والسياسي والإيديولوجي، إذ لم نجد بين
مؤلفاته العديدة كتاباً واحداً يحمل عنواناً فلسفياً وهذا ما يتضح لنا من العرض
الأتي:-
المسألة
الغربية في اليونان وتركيا عام 1922، الحرب والحضارة عام 1925، الفكر التاريخي عند
اليونان عام 1950، أمريكا والثورة العالمية عام 1952، العالم والغرب عام 1953،
الثورة الصناعية عام 1955، المسيحية بين الأديان عام 1957، معالجة مؤرخ الدين عام
1956، تجارب عام 1969، ومعارف عام 1967، المدن في التاريخ 1973, والبقاء في
المستقبل عام 1971، والوحدة العربية آتية من النيجر إلى النيل عام 1967، تاريخ
البشرية جزأين
عام 1972-1973م، وتحدى زماننا عام 1970، والبشرية وأمنا الأرض عام 1976، وقلق
الموت عند الإنسان عام 1974، والتحديات الكبرى عام 1976م، وفلسطين جريمة ودفاع عام
1966، وأهمية الثورة الروسية عام 1971، واقتصاد النصف الغربي عام 1962، والتقدم
التقني وأخلاقيات القوة والسلطة عام 1971، ومن الغرب إلى الشرق عام 1956م، والجحيم
عام 1959م. وكتابه الشهير "دراسة التاريخ" في 12 جزءاً شرع في تأليفه من
عام 1921حتى عام 1961، وقد اختصره دي. سي. سوموڤيل في أربعة أجزاء، وترجمة إلى
العربية فؤاد محمد شبل عام 1960 وترجم طه باقر الجزء الأول منه بعنوان بحث في التاريخ
وغير ذلك من الكتب والدراسات المقالات والمقابلات الأخرى.
توينبي بين التاريخ والفلسفة
واجهتنا هذه المشكلة حينما اكتشفنا أن كل كتابات توينبي
تخلو من أي عنوان فلسفي، فقد لاحظنا من جرد مؤلفاته أنه ليس بينها كتاب فلسفي
بالمعنى المحض للفلسفة ولما كانت أطروحتنا تقوم على أساس الافتراض بان توينبي هو
احد فلاسفة التاريخ المعاصرين، فلا بد لنا من معالجة هذا الإشكال المنهجي.
ومع أن معظم الدراسات المنشورة في فلسفة التاريخ المعاصر، لم
تقفل الإشارة إلى ارنولد توينبي من حيث هو احد فلاسفة التاريخ والحضارة، لكن
اختلاف وجهات نظر الدراسين في ما إذا كان توينبي مؤرخاً محترفاً أم فيلسوفاً
للتاريخ ما تزال تثير حالة من الإرباك والغموض، فإذا كان بعض الدراسين يرون أن
توينبي مؤرخ أكثر منه فيلسوفاً تاريخ، يذهب بعضهم الأخر إلى تأكيد العكس، كما
لاحظنا في بداية الفصل.
ومن دراستنا فكر توينبي وما كتب عنه، لم نجد تفسيراً
واضحاً لهذه المشكلة، فكل الكتابات التي وقعت بين أيدينا أبقت هذا السؤال من غير
إجابة.
ونحن هنا سوف نسلط الضوء على هذه الإشكال لعلنا نعثر على
إجابة مقنعة لذلك.
فقد ذهب كولنجوود إلى "أن توينبي يمثل انتقال التفكير التاريخي من مرحلة أسلوب
البحث الوضعي إلى مرحلة التأمل المثالي ولكنه لم يفصح الرأي فيما إذا كان توينبي
مؤرخاً أم فيلسوفاً، بل انه في الأغلب عده مؤرخاً أكثر منه فيلسوفا"([77]), وفي هذا السياق يرى احمد محمود صبحي "أن توينبي
حرص على أن يكون مؤرخاً أكثر منه فيلسوفاً"([78]), في حين يذهب عفت الشرقاوي إلى "أن توينبي يقدم تصوراً فلسفياً للدراسات الحضارية، مؤسساً
على نظرية تاريخية موثقة بالشواهد والأسانيد"([79]).
ويرى مصطفى النشار في كتابه "فلاسفة أيقظوا العالم"
"بان توينبي أهم فلاسفة التاريخ في عصرنا الحالي"([81]), أما كولن ويلسون فيرى "أن توينبي مثله مثل شبنجلر
ينتمي إلى الاتجاه الوجودي، وهو يمثل احتجاجاً ضد أولئك المؤرخين الذين يكتبون
وكأنهم يقفون خارج التاريخ"([82]), ويرى مصطفى محمد طه, في توبيني "أبرز مفسري التاريخ
تفسيراً حضارياً إذ كان يعد نفسه مؤرخاً سعيد الحظ لأنه قد اتيحت له الحياة في مدة
مليئة بالإحداث الجسام"([83])
, وجاء في كتاب أفاق الفكر المعاصر، "إن فلسفة التاريخ عند توينبي تعطي
الإرادة مكاناً واسعاً من شبنجلر، وتأثير توينبي بعد الحرب العالمية الثانية، هو
مماثل لتأثير شبنجلر عقب الحرب العالمية الأولى"([84]).
ويتناقض حسين مؤنس في وصف توينبي بأشهر المؤرخين
المعاصرين وأبعدهم أثرا في الفكر الفلسفي التاريخي ثم يعود ليقول انه تمكن من
المصالحة بين علمي الاجتماع والتاريخ على أحسن صورة ممكنة، فهو في الواقع مؤرخ
وعالم اجتماع([85]).
وجهات النظر المختلفة هذه وغيرها كثيراً أوقعتنا في حيرة
من أمرنا في وصف توينبي.
بيد أن ما يبعث على الدهشة والتساؤل أن توينبي نفسه كان يفضل أن يعرف نفسه بالمؤرخ، ويتجنب متعمداً اسم الفيلسوف فما
السبب في ذلك؟
لقد عثرنا في كتاب المفكر الإنجليزي وولش "مدخل
لفلسفة التاريخ" ما ينير بعض زوايا المشكلة، إذ يكشف عن الأسباب التاريخية
والثقافية التي جعلت المثقفين الإنجليز يعزفون عن الفلسفة التاملية والميتافيزيقا
عامةً وفلسفة التاريخ خاصةً، وهو في نقد لتوينبي. أكد "أن توينبي يصر على
تقديم نفسه للجمهور مؤرخاً، دارساً بسيطاً للماضي، ينظر إلى ما حدث ويكتب وقائع
واضحة، وهذا غير صحيح، فتوينبي لم يكن مؤرخ بداية مؤلفه دراسة التاريخ، بل فيلسوف
تأملي للتاريخ"([86]).
ربما كان موقف توينبي من الفلسفة والتاريخ، لا يفسر
بالاختيار والتفضيل الشخصي، بل يعود إلى تقليد ثقافي تاريخي إنجليزي راسخ في
المزاج والخبرة والتراث التجريبي الذي يعود إلى فرانسيس بيكون وجون لوك وهيوم،
وادم سمث وجريمي بنتام (1748-1832)، وجيمس مل (1773-1836) وغيرهم من أعمدة
التقاليد التجريبية النفعية الوضعية الواقعية, وهذا ما يعترف به وولش بقوله
"إن الكاتب عن فلسفة التاريخ في بريطانيا يجب عليه إن يبدأ أولاً بالتماس المسوغات
لوجود موضوعه... إذ رغم ازدهار الدراسات التاريخية ببريطانيا زهاء قرنين أو أكثر،
فان فلسفة التاريخ لم يكن لها وجود في الواقع حتى سنوات قريبة، بل ظل التعصب ضد
فلسفة التاريخ علامة ثابتة للثقافة البريطانية"([87]).
وهذا ما أكده على نحو واضح فيلسوف التاريخ الإنجليزي
كولنجوود إذ أشار إلى "إن الذين اشتغلوا في البحوث التاريخية في أواخر القرن
التاسع عشر، قلما اهتموا بالجانب النظري لهذه البحوث، لقد نهج هؤلاء المؤرخون في
بحوثهم هذه نهج الفلسفة الوضعية، إذ دأبوا على تحقير الفلسفة عامةً، وفلسفة
التاريخ خاصةً, تحقيراً يتفاوت من حيث مبلغه من الصراحة، لكنه تحقير سرى من الوجهة
المهنية مسرى الاصطلاح المتعارف عليه"([88]).
وربما كان ادوارد كار أفضل من فسر هذا الموقف من زاوية
نظر نقدية تحليلية عميقة حينما أشار إلى " إن المؤرخين البريطانيين رفضوا أن
يجعلوا التاريخ موضوعاً استنتاجياً- يقصد موضوعاً فلسفياً" ليس لانهم اعتقدوا
بان التاريخ بلا معنى فحسب، ولكن لأنهم اعتقدوا بان معناه كان ظاهراً وواضحاً
بذاته، وان صلة النظرة الليبرالية بالتاريخ التي سادت في القرن التاسع عشر بالمذهب
الاقتصادي الحر صلة وثيقة، وهذه أيضا حصيلة النظرة الصافية الواثقة من نفسها
للعالم لينصرف كل فرد إلى عمله الخاص فاليد الخفية سوف تعنى بالتآلف العالمي،
وحقائق التاريخ نفسها إثبات للحقيقة الأسمى نحو الأشياء السامية، كان ذلك عصر
البراءة إذ سار المؤرخون في الجنة دون إن تغطيهم نبذة من الفلسفة، عراة لا يعتريهم
الخجل أمام ألهة التاريخ، لكن بعد ذلك عرفنا "الخطيئة" وتمرسنا
"بالانحراف" إما أولئك المؤرخين الذين يتظاهرون بالاستغناء عن فلسفة
التاريخ، فإنما يحاولون عبثاً وعن وعي ذاتي، مثل أعضاء مستعمرة ألعراة أن يعيدوا
خلق الجنة في حديقة الضاحية التي يقطنونها واليوم لا مناص من الإجابة عن السؤال
المحرج"([89])- يقصد ادوار كار- بالسؤال المحرج، ما هو التاريخ؟ والإجابة
بالتأكيد ستكون من اختصاص فلسفة التاريخ.
لقد حرصنا على أيراد
تلك المعطيات بهدف تعرف الأسباب التاريخية التي جعلت من طالب التاريخ في جامعة
أكسفورد وأستاذ التاريخ الكلاسيكي في جامعة لندن، والمؤرخ غير العادي الذي أنجز أقصى
معالجة للتاريخ قام بها إنسان حتى اليوم([90]), أي
تعرف الاسباب التي جعلت توينبي يفضل نعت المؤرخ لا الفيلسوف والدوافع التي أفضت
بتوينبي فيما بعد إلى الفلسفة.
أوردنا كل ذلك بغرض تعرف الأسباب التي جعلت توينبي يتسلل
إلى رحاب الفلسفة بغير أرادته أو دون إن يرغب بذلك، والمشكلة لا تكمن فقط في أن توينبي ليس بمؤرخ، حتى ان ادعى ذلك، فان هذه الحقيقة
لصالحه إلى ابعد حد، لان أكثر الانتقادات التي انهالت عليه قد جاءت من نقاد ذوى
عقول تاريخية، لم يتضح لهم تماماً ما الذي كان توينبي يحاول القيام به، فلماذا ظل
توينبي متمسكاً بصفة المؤرخ ولم يتحمس لنعت الفيلسوف؟
ربما أمكن العثور على إجابة عن ذلك السؤال في البيان
الخاص بالخطة التي وضع فيها توينبي تصميم مؤلفة "دراسة التاريخ", ذلك
البيان الذي ظهر في صورة ترجمة ذاتية، في الجزء العاشر من كتابه، إذ لا يتضح منه
إن توينبي كان ينوى القيام بالعمل نفسه الذي قام به، سلفه الإنجليزي ادوراد جيبون
الذي يعد أعظم مؤرخي القرن الثامن عشر، بل كانت نيته في الأصل كتابة تاريخ مقارن
لتدهور الحضارات اليونانية الرومانية والغربية، غير إن إطلاع توينبي على نسخة من
كتاب شبنجلر "أفول الغرب" أثار حفيظته وأفزعه ودفعه إلى إن يعيد النظر
في مشروعه، وجعله واسع الأفق متعدد الرؤى والنظرات بحيث يشتمل لا على تدهور وسقوط
الإمبراطورية الرومانية والغربية فحسب بل نشوء ونمو وازدهار وتحلل كل إمبراطورية
تحت الشمس([91]).
وهو بذلك العمل الموسوعي قد تجاوز وظيفة المؤرخ إلى
مرتبة الفيلسوف، بل أن كل
مؤرخ حتى وان كان مؤرخاً عادياً لا بد له من قاعدة فلسفية ينطلق منها، شاء ذلك أم أبى،
فالمؤرخ لا يستطيع أن
يتجنب فلسفة ما أو دستوراً أخلاقيا أو اتجاهاً عاماً وعلى ذلك فمن الخير له أن يتبنى تلك الفلسفة أو ذلك المعتقد بصراحة فالمؤرخ يجب
عليه إن يعرف هل هو مادي أو مثالي، تقدمي أم محافظ، متشكك أم مؤمن، هل هو مؤمن
بتقدم البشرية أم بعجزها عن بلوغ الكمال، وهل هو مؤمن بالتحليل النفسي أم التحليل
الجسدي، بالتفسير الاقتصادي أم التفسير الإيديولوجي، بالعناية الإلهية أم بفعل
الإنسان هل يؤمن بالحتمية أم المصادفة... والمؤرخ الذي ليست لديه مبادئ فلسفية أو أخلاقية،
ليس لديه أسس يقيس بها التغيير أو الاستمرار، وعلى ذلك فليس في مقدوره أن يحكم على
التطور أو النمو أو السقوط، أو الركود أو الانحلال أو الخصب أو العقم، ودون هذه الأحكام
لا يمكن أن يكون للكتابة التاريخية ذلك السرد القصصي أو الوصف الجيد الذي هو جوهر
التاريخ([92]).
وبالنظر
إلى تلك المقاييس، يمكن القول أن توينبي، كان يمتلك رؤية فلسفية غير متسقة بل هي
مزيج من الليبرالية الجديدة والإنسانية المسيحية والمثالية التأملية، والوضعية
الاستقرائية خليط غير متجانس من الرؤى والأفكار الفلسفية، فهو رجل غريب يتمتع
بخيال قوي وتسيطر عليه أصداء الرؤى([93]).
لقد
كان توينبي على عكس الفيلسوف الألماني هيجل،
فقد كان هيجل يمتلك فيضاً دافقاً من الافكار الفلسفية المجردة، وقليلاً من
المعطيات التاريخية، وكان توينبي يمتلك مادة عظيمة من الوقائع والتفاصيل والمعطيات
التاريخية بحكم تخصصه أولا وعمله في مسح الشؤون الدولية الإنسانية. لكنه لم يعمد
إلى تحليل فلسفي للطريقة التي حصل بها على معرفته التاريخية، ولم يُجد تركيبها في
نسق فلسفي واضح ومنسجم، إن لديه المقادير الضخمة من المعرفة لكنه يعالجها كما لو
كانت شيئاً عثر عليه في مكتبه معداً أعداداً كاملاً، والمشكلة التي كانت تشغله هي
مشكلة تصنيف المادة بعد جمعها في خانات([94]).
في
ضوء ما تقدم يمكن التماس العذر لتوينبي في كونه لم يجد توظيف المعرفة التاريخية في
تركيب فلسفي منهجي واضح القسمات ومحدد المعالم، وذلك إذا ما عرفنا انه لم ينشأ نشأة
فلسفية، ولم تكن المدة الأولى من حياته السعيدة الآمنة في وسط ثقافي ليبرالي مطمئن،
لم تكن تلك الحياة تستدعي التفكير الفلسفي، بل أن القلق المعرفي الذي حفز توينبي
على التفكير ألتأملي بالتاريخ والحضارة والتحدي والاستجابة، لم يأت ألا فيما بعد،
بعد الحرب العالمية الأولى تحديداً.
وهذا
ما يفصح عنه توينبي بنفسه، وذلك حينما يسوغ الدوافع التي حملته للبحث في التاريخ
من وجهة نظر كلية إذ نقلته من وظيفة المؤرخ المهني في جمع الوقائع وتصنيفها ووصفها
إلى نشاط الفيلسوف في التفكير بالعلل والأسباب المبادئ والكيفيات والنتائج
والغايات، أي البحث في معنى التاريخ ومعنى سيره واتجاهه ومصيره, بقوله: "يعد
التفكير بالنسبة للإنسان نشاطاً شاقاً وبعيداً عن النهج الطبيعي، وهو في هذا
كالسير على قدمين بالنسبة للقرود، ونادراً ما نسرف فيه أكثر مما نحن في حاجة إليه،
ويتعاظم عدم ميلنا إلى التفكير بصفة عامة في الأوقات التي نحس فيها أكبر قدر من
الراحة والأمان والاستقرار... أما عندما يحين الوقت ليأتي علينا التاريخ بدورنا،
وهو أمر لا بدمن حدوثه أن أجلا أو عاجلا، فتجاربنا غير المرغوب فيها، تحدو بنا إلى
التفكير ثانية في تاريخ الإنسان ومصيره، وقد أخذت عقولنا في مجتمعنا الغربي الحديث
تعود إلى الوراء في هذا الاتجاه منذ عام 1914م"([95]).
وهكذا
هو الحال دائما في أكثر الحالات تكون كوارث التاريخ الكبرى، بتحديها نزعة التفاؤل
الطبيعي في الإنسان، هي التي تستدعي من المؤرخ التفكير بالأسئلة الفلسفية، أو
التفكير بالتاريخ على نحو فلسفي.
فحينما
اجتاحت جيوش القوط روما عام 410م برزت الحاجة إلى نظرة كلية إلى التاريخ لتفسير ما
حدث، وكان أوغسطين في كتابه (مدينة الله) هو الذي اشبع هذا السؤال، وحينما انهارت
الحضارة العربية الإسلامية في القرن الثاني عشر والثالث عشر، جاء ابن خلدون ليجيب
عن السؤال، كيف حدث هذا ولماذا؟ وكان كتابه المقدمة هو الجواب، وحينما اجتاحت جيوش
نابليون ألمانيا، وكان هيجل يراقب تلك الكارثة التي حلت بوطنه، أبدع فلسفته في
التاريخ، وقال عبارته الشهير: (أن بومة مينرڤا لا تطلق جناحيها للريح ألامع مقدم الأصيل)،
يقصد أن الفلسفة لا تحضر ألا بعد اكتمال الظاهرة، في نهاية النهار أي بعد اكتمال
مسار الإحداث ونضجها.
وقد
كانت عصور النكبات في التاريخ الإنساني دائماً محفزاً قوياً للتفكير في الماضي
والحاضر والمصير، وان مؤرخاً مثل توينبي ولد عام 1889م وكان لا يزال على قيد
الحياة عام 1955 قد شهد حقا، كثيراً من الإحداث الجسام والتحديات الكبرى، وسمع
أصداء هذا السؤال يصرخ كيف حدث هذا ولماذا؟
وقد
كان جواب توينبي على ذلك السؤال هو "دراسة التاريخ الإنساني العالمي"
دراسة فلسفية شاملة وصفوة القول أنه لن يقيض للمرء أن يصبح فيلسوفاً للتاريخ دون
أن تحركه رغبة معرفة الحاضر من خلال الماضي، ومعرفة الماضي من خلال الحاضر، وحب
الاستطلاع كما يقول توينبي "وهو في الأرجح يعني التأمل الفلسفي", يتبلور
دائما عند أي من كبار المؤرخين، في بذل الجهد للرد على طائفة الأسئلة ذات المغزى العملي
لدى جيله وهي أسئلة يمكن صياغتها في عبارات عامة من قبيل كيف حدث هذا ولماذا؟"([96]).
على
كل حال ليست مشكلة ذات أهمية إن كان "توينبي" مؤرخاً أم فيلسوفاً، ففي
حقل الدراسات الفلسفية المعاصرة لم تعد المشكلات الميتافيزيقيا القديمة تشغل
اهتمام احد من الفلاسفة، بل إنهم قد انهمكوا في معالجة المشكلات الواقعية
المتناهية التي تتعلق بالعالم الإنساني، كالمجتمع والتاريخ والحضارة والحرية
والأخلاق والعلم والتقنية وغير ذلك، بحيث بات من المتعذر جداً التمييز بين باحث في
العلوم الإنسانية وباحث في الفلسفة ألا بمشقة، كما لا توجد معايير صارمة محددة
سلفاً لتصنيف الأفكار والمفكرين في حقل الدراسات الإنسانية التاريخية الفلسفية،
كما هو الحال في العلوم الطبيعية التي انحسرت الفلسفة من افقها المعرفي، للتحول
إلى ميتادولوجيا عامة للعلوم، والتاريخ والمجتمع ومشكلات الإنسان السياسية والأخلاقية
والثقافية واللغوية وغيرها باتت اليوم تثير اهتمام الفلاسفة والمؤرخين والمثقفين
على حد سواء، وعليه يصعب علينا سلب توينبي صفة الفيلسوف، فقد حاول الرجل النظر في
الأسئلة والمشكلات الفلسفية الكبرى التي واجهها عصره، وشغل العالم بتصوراته الكلية
عن الإنسان والتاريخ والحضارة، عن المصير والحرب والدين، وعالج مشكلات عامة،
كمشكلة التطور والتدهور، والتحدي والاستجابة والعلم والدين، والأخلاق والسياسية،
والخير والشر، وغير ذلك من القضايا الكلية والأسئلة الفلسفية العامة التي درسها
وفسرها، وهو بذلك قد تقحم دروب الفلسفة، فلسفة التاريخ بالذات في معناها الحديث
والمعاصر.
(*) نسبة إلى عصر
السياسي الإغريقي (بيريكليس) حوالي 49-329ق.م.
أيضا
آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي, ص33.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق