الجريمة
والعقاب عند العرب قبل الإسلام
لؤي العريشي
يقول الماوردي في تعريف الجريمة : " إنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد
او تعزير " والحد والتعزير هو العقوبة المقررة شرعاً والفرق بين الحد
والتعزير ان الحد عقوبة مقدرة بحكم النص الشرعي من كتاب او سنة، وبعض الفقهاء يطلق
كلمة الحد على كل عقوبة مقدرة([1])
واتسع مفهوم الجريمة الى ان أصبح علماً يدرس أسباب تكون الظاهرة الاجرامية في
المجتمع كما يدرس الأسباب الفعالة في مواجهتها([2])
ويعرف أيضاً بأنه علم دراسة الظاهرة الاجرامية او العلم الذي يدرس الانحراف من حيث
اسبابه ومظاهره ووسائله وآثاره))([3])
اما العقاب فإنه يعرف بأنه فرع من علم الاجتماع ، يبحث في مواجهة الظاهرة
الإجرامية عن طريق توقيع الجزاء من الجريمة وأتباع الاسلوب السليم في معاملة
المجرم([4])
وعرفت العقوبة بأنها اذى ينزل بالجاني زجراً له([5])
كما عدت العقوبة جزاء وضعه الشارع للرد عن ارتكاب مانهى عنه وترك ما أمر به فهي
جزاء مادي مفروض سلفاً.. يجعل المكلف يحجم عن ارتكاب الجريمة ، فاذا ارتكبها زجر
بالعقوبة حتى لايعاود الجريمة مرة اخرى كما يكون عبرة لغيره ([6])
.
ان من اهم المجالات
التي تمس الحاجة الى دراستها هي احكام الجريمة والعقاب عند العرب قبل الإسلام،
لغموضها من جهة ولاتصالها بالتشريع الجنائي الإسلامي من جهة اخرى.
ووجدت في كل المجتمعات على اختلاف
درجاتها بدائية كانت او متقدمة عقوبات لردع المجرمين وزجرهم، وتأديبهم، لكيلا
يجرموا بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم ، هي تتلأم بالطبع مع واقع المجتمع والظروف الملمة
به، كما ان الجرائم تكون منبثقة من واقع المحيط الذي يعيش المجرم فيه ([7])
ولم يكن قبل الإسلام عقوبات مقررة ومحددة بقانون مدون تفرض على الجناة وإنما يتحكم
في ذلك الانتقام الفردي الذي يقوم به المجني عليه او أولياؤه يتبعون بذلك رغبتهم
في الانتقام شفاء لغيظ نفوسهم، وكانت العقوبات مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية
والقبلية لكل من الجاني والمجني عليه، وتلك الأوضاع هي التي تحدد طبيعة العقوبات
ومدى الشدة فيها ولم تكن الجريمة فردية تختص بالجاني والمجني عليه، وانما كانت ذات
صفة جماعية يشترك جميع أفراد القبيلة في المسؤولية عنها وكثيراً ما كانت الجرائم
الفردية سبباً في حروب قبلية طويلة المدى، يتعرض خلالها جميع أفراد القبيلتين الى
أقسى أنواع الانتقام من الطرف الآخر، وأحياناً يتم التصالح بين الطرفين على مال
يحدد مقداره طبيعة الجريمة ومكانة الجاني وقوة قبيلتة ([8])
وتعاقب شريعة ماقبل الإسلام كما تعاقب أي شريعة مدنية ودينية المخالف بعقوبات
رادعة تكون متناسبة مع جرمه وعمله وتكون العقوبات بالطبع متناسبة مع مستوى المجتمع
وتفكير رجاله ، والظاهر ان المعاقبين كانوا أحياناً يتعرضون للقسوة في فرض
عقوباتهم فيظلمونهم ويعذبونهم عذاباً لايتناسب مع ماقاموا به من جرم، بدليل ورود
آيات في القرآن الكريم تحث من بيدهم الأمر على الا يعاقبوا عقاباً يتجاوز حدود
المخالفة ، قال I ]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
[
([9])
وقال I: ]
وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ[([10])
وقد ذكر علماء التفسير ان الآية الاولى تأمر ان من ظلم بظلامه فلا يحل له ان ينال
من ظلمه أكثر مما نال الظالم منه([11])
وكانت العرب قبل الإسلام قبائل متفرقة لايملكها
نظام موحد، وتخضع لعادات قديمة تأصلت جذورها في نفوسهم وكان عنصر القوة هو الطابع
الغالب على حياتهم، وحب الثأر هو المبدأ المطبق بينهم، وكان لكل قبيلة رئيس مرهوب
الجانب محترماً يضيق نفوذه ويتسع بنسبة ثراء القبيلة، وعدد أبنائها وقوتهم
وشجاعتهم واقدامهم، وكان أفراد القبيلة جميعاً يذوبون في بوتقة القبيلة ، فاذا
اعتدى أحد على الفرد هبت قبيلته تطالب بالثأر له وقامت قبيلة المعتدي تحميه من
العدوان([12])
.
فالجماعة التي هي (
القبيلة ) تكون مسؤولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به أحد افرادها
لارتباطها بـ ( العصبية ) وعلى كل افرادها تحمل مسؤولية أي فرد من افرادها، وضمان
أداء مايقع عليه من حق في حالة امتناعه او عدم تمكنه هو او ذوو قرابته من تنفيذ
أداء الحق، فالقاتل مثلاً اذا لم يسلم للاقتصاص منه بقتله او لم يتمكن أهل القتيل
من قتله، انتقل حق أهل القتيل الى قتل أقرب الناس اليه ثم الأبعد وهكذا أخذاً بثأر
القتيل، ويؤدي ذلك الى التوسع في القتل في الغالب مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في
البحث عن القاتل لقتله لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل([13])
.
إن الأصل في
المسؤولية وفي الحق هو كل امرئ وعمله الا ان التشريع عند العرب قبل الإسلام اخذ
بمبدأ انتقال المسؤولية من الفاعل الى ذوي قرابته الأدنين، ثم الأبعدين في حالة
عدم التمكن من القصاص ، أي من أخذ الحق من الفاعل وذلك بقانون العصبية([14])
وقد وجدت القبائل العربية انه من اجل المحافظة على وحدتها وتضامن افرادها فانه
يتعين عليها ان تتخذ أحياناً عدداً من القرارات القاسية ضد بعض أبنائها، كأن تضطر
للتبرؤ من أحد أفرادها الذي خرج عليها ولم يحترم قواعد التضامن بين ابنائها([15])
اذ لاتسقط مسؤولية الأهل عن جرائم أبنائهم إلا إنْ سقطت العصبية عنهم، على ان يعلن
عن اسقاطها في الأماكن العامة وبصورة صحيحة وشرعية، ليكون ذلك معروفاً بين الناس
وإلا بقيت المسؤولية قائمة في رقبة من تقع عليهم، وحتى خلع الخليع واشهاد الشهود
على فعله صار أقرباؤه وأهل قبيلته في حل منه، وحتى خلع الانسان سقطت عنه مسؤوليات
عمله عن أهله واقربائه وحصرت به وحده وعليه ان يحمي نفسه بنفسه، وان يدافع عن
حرارئه بيده، ويقال لهذا الانسان ( الخليع ) ، فاذا قتل لا يسأل أي أحد من قومه عن
عمله واذا قُتِل ذهب دمه هدراً، ولهذا كان الخليع يمارس حياة قاسية شديدة تنتهي
بهلاكه في الغالب نتيجة خروجه عن أنظمة قومه وقوانينهم ، اللهم إلا إذا ندم ورجع
عن غيه ووجد من يؤويه ويحميه من أهله أو غيرهم ، واذا وجد الخليع من يكفله وينعم
عليه بحق الجوار، انتقلت مسؤولية عمله الى من مَنَّ عليه بجواره، وعلى المجير
عندئذٍ تحمل كل تبعة تصدر من ذلك الخليع مادام يتحمل حق الدفاع عنه وحمايته([16])
ولكن العرب يطلقون على الشخص الذي تتبرأ منه قبيلته وصف ( الخليع ) ، لأنه خلع من
عضوية قبيلته مما يجعله مضطراً للبحث عن حماية قبيلة اخرى والانتماء اليها بصفته
حليفاً او مولى. أما اذا عجز عن ذلك فإنه قد يشكل مع عدد من المخلوعين من أمثاله
مجموعة مسلحة تتولى قطع الطرقات لتأمين وسائل عيشها بقوة السلاح([17])
.
ومما يتعلق بأنواع
الجرائم وعقوباتها عند العرب، فهي تنقسم الى عقوبات الجرائم التي تمس النفس وتلك
التي تمس المال ، ثم التي تمس العرض فضلاً عن عقوبات الجرائم التي تمس العقل
والمجتمع، فبالنسبة للجرائم التي تمس النفس فهي كثيرة ولكن أهمها جريمة القتل
العمد ، والتي كانت شائعة قبل الإسلام، والدليل كثرة الآيات التي نزلت بتحريم
القتل([18])
وعلى الرغم من أن المجتمع العربي قبل الإسلام قد عرف فكرة تعويض ذوي المقتول بمبلغ
من المال يتناسب مع مكانة القتيل عرف بالدية، إلا أن العرب لم ينظروا بارتياح الى
أخذ الدية على اعتبار أنها تعبر عن حالة الضعف والعجز لمن يأخذها([19])
وكانت العرب تعيب من يأخذ الدية ويرضى بها دون ادراك ثأرة وشفاء غيظه ، إذ انها في
نظرهم تعبر عن الجبن والخوف من القتل([20])
حيث كان مبدأ الثأر او الصلح على حال واجباً مقدساً عند العرب قبل الإسلام لايمكن
التخلي عنه وكانت تتحكم في هذا المبدأ مكانة القبيلتين التي ينتمي اليها كل من
الجاني والمجني عليه دون ان تكون هناك قواعد منظمة تحدد شكلاً واضحاً لحقوق
وواجبات كل من الطرفين المختلفين، وكثيراً ماكان الظلم يلحق بأحد الطرفين نتيجة
ضعف القبيلة التي ينتمي اليها بالإضافة الى
ان القبيلة المعتدى عليها لم تكن تكتفي بالثأر وانما تبحث عن زعيم القبيلة
الاخرى لتنتقم منه، ونخلص من هذا الى ان كلاً من مبدأ للثأر ومبدأ التصالح على مال
لم يكن يخضع قبل الإسلام لأية قاعدة ثابتة انما تتحكم فيه ظروف خارجية اهمها
مكانةالجاني والمجني عليه ومكانة القبيلة التي ينتمي اليها ([21])
وكان الثأر عند العرب قبل الإسلام قدسية تنطق بها اشعارهم وكيف كان الانتقام واسع
النطاق وقد يثمر عن حروب تمتد الى عشرات السنين وتشمل الجاني وغيره([22])
وكان الثأر أكثر
جزاءات القتل شيوعاً ، فلم تكن المجتمعات العربية قبل الإسلام قد بلغت من حيث
ظهورها السياسي مرحلة الدولة لاعلى مستوى القبيلة الواحدة، ولاعلى مستوى القبائل
فيما بينهما، ففي داخل القبيلة الواحدة لم تكن ثمة سلطة عليا قوية يدين لها أفراد
القبيلة بالطاعة، وتملك من القوة ماتستطيع به تنفيذ قراراتها ، فسلطة سيد القبيلة
كانت في الاعم الأغلب سلطه ضعيفه محدوده تعتمد على قوة الإقناع والنفوذ الشخصي،
أكثر منها على الجبر والقهر، فلم يكن سيد القبيلة يملك من الوسائل مايمكنه من
اقرار الأمن او فرض السلام داخل القبيلة ولهذا لم يكن بد من اعتماد الأفراد
والجماعات على قواهم الذاتية في الدفاع عن حقوقهم في الحصول عليها، كذلك لم تكن
ثمة سلطة عليا داخل الجزيرة العربية تدين لها القبائل بالطاعة بل كانت كل قبيلة
مستقلة تماماً عن غيرها من القبائل([23])
وكان العرب يقولون (القتل انفى القتل) أي ان عقوبة القتل العمد هي القصاص من
القاتل على حين كانت عقوبة القتل الخطأ هي الدية ([24])
.
وكان بعض العرب قبل الإسلام يتجاوزون
الحدود في الاقتصاص ، فيقتلون غير القاتل وهو معنى قوله r : (( ان من اعتدى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة، رجل قتل
غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحل* الجاهلية ))
([25])
وأما بالنسبة للجرائم التي تمس المال ، فنجد العرب قبل الإسلام قد فرقوا بين
السرقة والغزوا حيث عدوا السرقة عيباً عندهم، لأنها تكون دون علم صاحب المسروق
وبغفلة، والغفلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة
، أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعد نقصاً عندهم ولاشيناً ولايعد
سرقة، لأن الغزو قد استعمل حق القوة فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب فليس في
عمله جبن ولاغدر ولاخيانة ، ولذلك فرقوا بين لفظة ( سرق ) وبين الالفاظ الاخرى
التي تعني أخذ مال الآخرى ، ولكن من غير تستر ولاتحايل([26]).
فقالوا "السارق عند العرب من جاء مستتراً الى حرز فأخذ مالاً لغيره ، فان
أخذه من ظاهره فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن منع مافي يده فهو غاصب " ([27])
.
ونجد أيضاً العرب قبل
الإسلام لم تعد ( الغارة ) سرقة ولا عملاً مشيناً يلحق الشين والسبة ومن يقوم به،
بل افتخروا بالغارات وعدوا المكثر منها ( مغواراً ) لما فيها من جرأة وشجاعة
واحترام ، وتكون الغارة بالخيل في الغالب ، ولذلك قال علماء اللغة: " اغار
على القوم غاره واغاره، دفع عليهم الخيل " ([28])
وقد عاش قوم على الغارات وكانوا يغيرون على احياء العرب ويأخذون ماتقع أيديهم عليه
ومن هؤلاء (عروة ابن الورد) ، إذ كان يغير بمن معه على احياء العرب فيأخذ مايجره
أمامه ليرزق به نفسه وأصحابه، بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة وضاقت بهم الدنيا
فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سبباً من أسباب المعيشة والرزق، وذكر أهل
الأخبار اسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب مايحملونه معهم
من مال ومتاع([29])
.
من خلال ماتقدم نجد
ان الغزو والغارة يجوزان قبل الإسلام ضد الغرباء وضد من ليس بينهم وبينه حلف او
عهد.. ولكن اذا جاءت ضد الأهل او العشيرة او الحلفاء عدت عيباً او عاراً على
مرتكبها.
وعلى الرغم من أن
العرب قبل الإسلام قد عرفوا جريمة السرقة ووضعوا عقوبة القطع لها الا ان نظامهم
القبلي لم يطبقها الا ضد بعض المستضعفين، كالرقيق والموالي، لأن طبيعة النظام
الاجتماعي والسياسي الذي كان قائماً في مكة لم تكن تسمح باصدار هذه العقوبات
وايقاعها على أبناء العشائر القوية في مكة، مثل بني مخزوم وبني سهم وبني عبد مناف
الذين كانوا يسهمون في حكم مكة وادارتها عن طريق الملأ، فقد كان يشترط في قرارات
الملأ كي تكون قابلة للتطبيق ان تحظى باجماع أو شبه إجماع العشائر المكية فهل يعقل
أن يوافق ممثلو هذه العشائر في الملأ على معاقبة أبناء عشائرهم بقطع أيديهم وهم
الذين يقوم نظامهم الاجتماعي على قاعدة انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً؟!([30])
ودام ذلك الحال الى أن جاء الإسلام .
ومن الجرائم الاخرى
التي عرفها العرب قبل الإسلام والتي تمس العرض جريمة الزنا، حيث كان الزنا عندهم
من أعظم المنكرات وأفظع المعاصي وأشنعها، واعتداءاً على نظام الاسرة وإشاعة
للفاحشة، وهذا يؤدي الى هدم الاسرة ، ثم الى فساد المجتمع وانحلاله([31])لذلك
جعلوا عقوبتها ازهاق الروح والقتل الذي هو أعظم الحدود([32])
.
وفضلاً
عن كل ماتقدم من جرائم وعقوبات كان هناك تحريمهم للخمر ومعاقبتهم على شربه رغم
الانتشار الواسع لعادة شرب الخمر في المجتمع العربي قبل الإسلام، وسنستعرض كل هذه
الجرائم وعقوباتها بالتفصيل في الفصلين الآتيين .
(5) ابو زهرة : محمد ،
الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ( القاهرة : د . ت ) ص 6.
(6) بهنسي : أحمد فتحي
، العقوبة في الفقه الإسلامي( القاهرة : 1961 ) ص 9.
(5) الطبري ، تفسير جـ 14 ص131 ؛ الشوكاني ، المصدر السابق
ص363، علي : جواد ، المرجع السابق ج5 ص 579 ـ 580.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق