تمهيد:
قبل أن يصبح التاريخ "علماً" له نظرياته وأسسه الفلسفية وقوانينه وتحقيقاته وتعليلاته، لدى ابن خلدون ومن جاء بعده، كانت الكتابات التاريخية عند العرب تسير وفق أنماط متصاعدة تتفاوت في عمقها وسرعتها وتأثرها بالاقليم والعصر.
ولا بد لنا من إلمامة بتطور تلك الكتابات التاريخية ورصد اتجاهاتها، وتمحيص ما يتصل بها من سرد حوادث، وتيارات سياسية واجتماعية وشعوبية.
ويمكن أن نتوقف عند القرن الثاني للهجرة، ولدى بعض رواة التاريخ والمغازي والسيرة، من أمثال "وهب بن منبه" (1) المتوفى 411هـ ـ732م. وعروة بن الزبير (ت 94هـ ـ 712م(2) . وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ ـ 740م) وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ ـ 737م).
وقد كانت كتابات هؤلاء في المغازي تمهيداً هيأ الأرضية اللازمة لمن جاء بعدهم كالزهري والواقدي وابن اسحق.
فالزهري (ت 124هـ ـ 741م) هو الذي توسع في جمع الروايات وتمحيصها واستخدام عبارة "السيرة" بدلاً من المغازي. حتى إذا وصلنا إلى ابن اسحق (ت 151هـ ـ 761م) نجده يمضي شوطاً في الجمع بين الروايات التاريخية والأحاديث الشريفة والشعر والقصص الشعبي. وقد وصلتنا السيرة التي كتبها ابن اسحق منقحة على يد ابن هشام (ت 218هـ ـ 813م) ومن أعلام تلك المرحلة "الواقدي" (ت 207هـ ) في كتابه المغازي وكتبه الأخرى.
وتبرز لدينا أسماء مثل أبي مخنف(3) وعوانة بن الحكم(4) ونصر بن مزاحم(5) ، وذلك في سياق رواية الأخبار، ولعل أبرز هؤلاء الإخباريين (المدائني 225هـ)(6)، (وابن الكلبي 204هـ) (7) ، والهيثم بن عدي (206هـ)(8) وأبو عبيدة(9) (211 هـ).
وقبل أن نغادر القرن الثالث للهجرة يقف أمامنا "البلاذري ت 279هـ"(10) صاحب /فتوح البلدان/ و/أنساب الأشراف/. وهو وإن كان يعتمد على أخبار من سلفه، إلا أنه ينتقد تلك الأخبار ويفحصها وينتقي منها. وكذلك يفعل معاصره اليعقوبي(11) (ت 284هـ) في كتاب "البلدان" الذي يعتبر أول كتاب في الجغرافية التاريخية. ثم ابن قتيبة (ت 270هـ) (12) في كتاب "المعارف" والدينوري (ت 288هـ) في كتاب "الأخبار الطوال".
حتى إذا دلفنا إلى بداية القرن الرابع الهجري نجد (الطبري ت 310هـ) الذي تكتمل لديه مرحلة نضوج البدايات والتكوين للكتابة التاريخية. وقد اعتمد الطبري على ثقافته الواسعة ومنهجه كمحدث وفقيه يدقق في السند ويمحص الروايات.
وهكذا نجد تفاوت مدارس الكتابة التاريخية في مراحلها عبر القرون الثلاثة، وعبر الأماكن المختلفة في المدينة والكوفة والبصرة وبقية الأمصار وصولاً إلى القرن الرابع الهجري الذي نتوقف معه عند مسكويه(13) وتطويره للمنهج التاريخي ثم عند ابن الخطيب وابن خلدون والمقريزي كأمثلة لأبرز المؤرخين أصحاب المنهج الواضح في الكتابات التاريخية.
ترك أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب المعروف بمسكويه أكثر من أربعين كتاباً(14). أبرزها كتابه الهام "تجارب الأمم" المطبوع في طهران بتحقيق وتقديم أبي القاسم إمامي. وقد عاش مسكويه قرناً كاملاً (320-421هـ) واعتمد على الطبري بصورة واسعة، كما اعتمد على مشاهداته وتجاربه في حياته الطويلة، واطلاعه على علوم العصر من فلسفة وأديان وحديث ورواية.
ويمثل مسكويه خطوة متقدمة في الكتابة التاريخية الموضوعية، فإنه على الرغم من معاصرة السلاطين والوزراء البويهيين لا نجده يمدحهم أو يتملقهم في كتاباته. ولم يظهر ميلاً إلى تيار أو ملك أو اتجاه، بل حاول أن يرصد عصره ويحلل أحداثه بعقلانية، إلى درجة أنه لقّب بالمعلم الثالث نظراً لتمكنه من الفكر الفلسفي والإفادة منه في الكتابة التاريخية.
ويمكن تلخيص ملامح المنهج التاريخي لدى مسكويه على النحو التالي:
ـ التاريخ أحداث يمكن أن يستفيد منها الإنسان في أمور تتكرر ، أو يمكن أن تحدث مستقبلاً .
ـ أمور الدنيا متشابهة في الإطار العام وعلى الإنسان تجربتها .
ـ مقارنة الماضي بالحاضر للإفادة من خبرات الماضي .
ـ ضرورة غربلة الأخبار من الأساطير والأسمار والمعجزات .
ـ محاولة تفسير أحداث التاريخ وفق منهج علمي تجريبي قائم على الحذر في تلقي الروايات ، والدقة في تحليلها .
ـ استفاد مسكويه من فكره الفلسفي في تفسير التاريخ . فهو بذلك أول من بدأ فلسفة التاريخ .
ـ مسكويه موضوعي لا ينطلق من تصور مسبق . وحيادي في قراءة مصادره والإفادة منها .
ـ يعتبر كتابه : " تجارب الأمم " من أهم المراجع التاريخية لأنه سجل حي لأحداث القرن الرابع الهجري. وقد سجل مسكويه تلك الأحداث من أصحابها وقام بتفسيرها على أساس الاستدلال الفلسفي الواعي، والنظرة العملية، والذهن البنّاء المنظم، والنظرة المحايدة.
ونلمح أثر هذا المنهج بصور مختلفة لدى المؤرخين المسلمين الذين أتوا في العصور اللاحقة مثل رشيد الدين فضل الله (ت 718هـ) وهو صاحب كتاب "جامع التواريخ" وابن خلدون والسخاوي والمقريزي وبعض مؤرخي الأندلس ممن سوف نتوقف عندهم.
وقد اعتمدت نشأة علم التاريخ في الأندلس على تأثيرات مشرقية، وتبرز لدينا في الأندلس أسماء هامة تراكمت لديها خبرات أخذت تتبلور مع الزمن. ومن هذه الأسماء عبد الملك بن حبيب وأبناء الرازي، وابن القوطية وعريب بن سعد. ثم تغدو الكتابة التاريخية أكثر نضوجاً وأرسخ قدماً لدى أبي مروان بن حيان صاحب المقتبس. وابن حزم العلامة الموسوعي صاحب الجمهرة والفصل، ثم ابن صاحب الصلاة، وبني سعيد في كتابيهم الموسوعيين "المُغرب" و"المُشرق"، وسواهم. (15)
وحينما نصل إلى القرن الثامن الهجري" الرابع عشر الميلادي"تكون الكتابة في علم التاريخ قد بلغت أوجها لدى ابن الخطيب العلامة الموسوعي، وابن خلدون صاحب فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
* * *
ونتوقف قليلاً عند المنهج التاريخي لدى لسان ابن الخطيب في كتبه التاريخية المختلفة، وبخاصة الإحاطة في أخبار غرناطة (16) واللمحة البدرية(17) ونفاضة الجراب (18).
وتبدو أبرز عناصر منهجه التاريخي في الملاحظات التالية:
-التاريخ فـنٌ غايته نقل الأخبار.
2-الفن التاريخي مأرب البشر ووسيلة ......... النشر، يعرفون به أنسابهم في ذلك شرعاً وطبعاً ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والرفيه، ويرى العاقل من تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره ويشفيه...." (19)
وهكذا فالتاريخ معرفة الماضي للإفادة منها في رؤية الحاضر.
3-التاريخ لدى ابن الخطيب ليس مجرد نقل للأحداث السياسية وسيَر الملوك والسلاطين، بل هو تصوير للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية بما تشمله هذه الحياة من رقي وازدهار، أو تخلف وتدهور. وهو في ذلك يتابع التفاصيل الدقيقة للموضوع الذي يتحدث عنه.
يتحدث في الرحلة الأندلسية" خطرة الطيف" عن مشهد استقبال السلطان من قبل سكان إحدى المناطق في وادي فرذش، فيقول:
"واستقبلتنا البلدة حرسها الله- نادى بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال برباتها والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها والمنازل بدورها، فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب، وتدافع البدور بالصدور، بيضاً كأسراب الحمام،...."
ثم يقول:" واختلط النساء بالرجال، والتقى أرباب الحجا بربات الجمال..ز فلم نفرق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين البنود حمر الخدود....
ويلاحظ هنا دقة ابن الخطيب، كما يلاحظ وصفه للحياة الاجتماعية التي يظهر فيها النساء والرجال. كما يشير في مكان آخر إلى وجود رعايا مسيحيين في مملكة غرناطة خرجوا لاستقبال السلطان وهم يتمتعون بكامل حقوقهم.
4-يركز ابن الخطيب على الوصف الجغرافي للأماكن التي يتحدث عنها ويجعل هذا الوصف مدخلاً لبحثه التاريخي. وهذا ما فعله في حديثه عن غرناطة في مقدمة كتابه"الإحاطة" وكذلك في كتابه "نفاضة الجراب" حينما يصف الأماكن التي زارها. ومن ذلك حديثه عن مدينة أغمات في كتاب "نفاضة الجراب" حيث يقول:
"ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل موطأ لا نشز فيه، ينال جميعه السقي الرغد، وسورها محمر الترب، مندمل الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذوب الثلج، منيعة البناء، مسجدها عتيق عادي، كبير الساحة، ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض..." (20).
5-يحترم ابن الخطيب التسلسل الزمني بدقة وموضوعية، شان المؤرخين المحترمين، فهو يستعرض الدول ونشوءها وسقوطها استعراضاً تاريخياً دقيقاً، ولا يقرب دولة لشرفها أو مكانتها كالأدارسة مثلاً. وقد فعل سواه ذلك تقرباً لسلاطين عصرهم.
6-يدأب ابن الخطيب على ذكر مصادر معلوماته، ويحرص على ذكر المؤرخين السابقين باحترام. وقد أورد من الأسماء ما يشير إلى سعة إطلاع وعمق معرفته. فهو يذكر في مقدمة الإحاطة الكتب التي اطلع عليها كتواريخ للمدن أراد أن ينافسها في كتابه "الإحاطة" ومن ذلك على سبيل المثال: تاريخ بخارى لأبي عبد الله الفخار، وتاريخ أصبهان لصاحب الحلية، وتاريخ همذان لغنا خسرو الديلمي،.... وتاريخ الرقّة للقشيري، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ الإسكندرية لوجيه الدين الشافعي، وتاريخ مكة للأزرقي... الخ.
إن ذكر هذه الأسماء دليل على سعة المعرفة، وأمانة النقل، واحترام الرأي الآخر.
7-حرص على الاستعانة بالمعلومات من مصادرها القريبة. ومن ذلك طلبه من صديقه سفير قشتالة يوسف بن وقارق معلومات عن تاريخ الممالك النصرانية: قشتالة وأراغون والبرتغال وذلك لتكون معلوماته موثقة ومستندة إلى مراجعها (21).
8-اعتماده على مشاهداته من النقوش والكتابات على العمائر والأضرحة والمنشآت المختلفة، وتوثيق تلك النقوش والكتابات والإفادة منها في مادته التاريخية.
9-أخلاقيته العالية في منهجه التاريخي، وصدقه وموضوعيته ومثال ذلك رسالته التي نصح فيها الملك القشتالي بدرو القاسي، وقد أوردها المستشرقون الأسبان كشاهد على أخلاقية ابن الخطيب. وقد أورد الحادثة المؤرخ الأسباني المعاصر دي إيالا. ووصفها المؤرخ "جاريباي" بأنها قيم أخلاقية جاءت من هذا المسلم ابن الخطيب، وهي تفوق في قيمها ما كتبه سينكا وغيره من فلاسفة الرواقيين الأقدمين(22).
10-مزج ابن الخطيب بين التاريخ والجغرافية والرحلات في إطار من النثر الفني الرشيق والبليغ. بحيث جاءت كتاباته التاريخية يغلب عليها الطابع الأدبي والسجع اللطيف.
هذه الملاحظات العشر هي التي تميز المنهج التاريخي لابن الخطيب ويمكن مقارنتها مع مؤرخين آخرين أحدهما من القرن الرابع الهجري هو مسكويه. والآخر معاصر لابن الخطيب وهو شيخ المؤرخين العرب ابن خلدون.
وتقوم عناصر المنهج التاريخي عند ابن خلدون على الملاحظات الموجزة التالية(23):
1- التاريخ علم
2- محتويات التاريخ والفكرة عنها
3- العناصر التي تجتمع لصنع التاريخ البشري
4- قوانين التاريخ
5- التاريخ علم فلسفي عند ابن خلدون(والفلسفة كل ما ليس له صفة دينية)
6- التاريخ عند ابن خلدون أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها ..
7- ابن خلدون يدحض الأساطير
8- ابن خلدون يضع القواعد اللازمة لمقارنة الحقيقة
9- النقد التاريخي عند ابن خلدون يبدو في:
- تبدل الأحوال بتبدل الأيام.
- وحدة النفسية الاجتماعية
- ظروف الأقاليم الجغرافية
- التاريخ الحضاري البشري
أما منهج البحث التاريخي عند ابن خلدون فيعتمد على :
- ملاحظة ظواهر الاجتماع لدى الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
- تعقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره
- تعقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم يتح الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
- الموازنة بين هذه الظواهر جميعاً.
- التأمل في مختلف الظواهر للوقوف على طبائعها وعناصرها الذاتية وصفاتها العرضية واستخلاص قانون تخضع له هذه الظواهر في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
ويرى ابن خلدون في مقدمته :
1- ان دراسة التاريخ ضرورية لمعرفة أحوال الأمم وتطور هذه الأحوال بفعل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
2- يركز ابن خلدون على موضوع الاستبداد والبطش الذي يقوم به السلطان ضد شعبه وأثر ذلك في الشعب.
3- يشرح ابن خلدون كيف أن بعض السلاطين ينافسون رعيتهم في الكسب والتجارة . ويسخرون القوانين لخدمة مصالحهم الخاصة وتسلطهم على أموال الناس، وإطلاق يد الجند في الأموال العامة مما يرسخ الشعور بالظلم والإحساس بالحقد لدى الشعب .
4- يوضح ابن خلدون أن هذه العوامل الداخلية هي التي تؤدي إلى الخلل في أحوال الدولة أكثر من العوامل الخارجية .لأن المجتمع الذي يعاني من خلل داخلي لا يستطيع مجابهة عدو خارجي.
5- تمكن ابن خلدون من الربط الدقيق بين العوامل الاقتصادية سابقاً بذلك مفكرين أوروبيين بعدة قرون
6- استوعب ابن خلدون الإرهاصات السابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي والماوردي والغزالي وإخوان الصفا والطرطوشي ومسكويه وسواهم. وصاغ من كل ذلك نظريته الناضجة في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
7- يتضح من قراءة مقدمة ابن خلدون فهمه لفلسفة التاريخ من خلال ثلاث نقاط أساسية:
- الأولى : أن التاريخ علم، وليس مجرد سرد أخبار بلا تدقيق ولا تمحيص.
- الثانية : أن هذا العلم ليس منفصلاً عن العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والعمران وعلوم الدين والأدب والفن.
- الثالثة : أن هذا العلم يخضع لقوانين تنتظم بموجبها أحوال الدول من قوة وضعف، ورفعة وانحلال.
وقد طبق ابن خلدون هذه النظرية على كتابه "العبر" في سرده للأحداث والتعليق عليها وتحليل نتائجها.
8- يرى ابن خلدون أن الظلم مؤذن بخراب العمران، ويعدد أشكال هذا الظلم من اعتداء على الناس، وتضييق على حرياتهم، وسلب أموالهم، وإضعاف فرص معاشهم وتحصيل رزقهم. والعمران يفسد بفساد العوامل التي تصنعه، والفساد يؤدي إلى الخراب.
9- إن الفساد يؤدي إلى هرم الدولة وشيخوختها. والهرم من الأمراض المزمنة التي قد تكون طبيعية مع عمر الدول والأفراد.
وقد تكون طارئة بفعل تفاقم الظلم والفساد والعدوان.
10- كان ابن خلدون على قدر كبير من الموضوعية والحياد العلمي في قراءته لأحداث التاريخ وتفسيرها رغم صعوبة الحياد في عصره.
واستمراراً لمنهج ابن خلدون وتطويراً له، ودخولاً في التفاصيل الدقيقة يأتي المقريزي في وقت غدت فيه القاهرة مركز العالم الإسلامي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً أيام حكم المماليك . وفي القاهرة ولد المقريزي لأسرة أصلها من بعلبك. ويذكر أنه كان سعيداً بولادته وعيشه في القاهرة (24) وقد ترك عدداً من الكتابات التاريخية الفائقة الأهمية مثل:
- السلوك لمعرفة دول الملوك
- اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا
- عقد جواهر الأسفاط في تاريخ مدينة الفسطاط.
- المواعظ والاعتبار (المعروف باسم خطط المقريزي).
- إغاثة الأمة بكشف الغمة.
وقد أفاد المقريزي من تجارب حياته العملية كاتباً في ديوان الانشاء وقاضياً وخطيباً . كما أفاد من اطلاعه الواسع على الكتابات التاريخية السابقة وبخاصة ابن خلدون.
ولعل أهم ما يميزه :
1- الموضوعية والأمانة التاريخية في السرد والعرض.(25)
2- وتنبثق عن الموضوعية صفة العفة والأخلاق الرفيعة والترفع عن الإساءة إلى الآخرين.
3- التدقيق والتقصي والتحقيق والتعليل (26)
4- الدخول في التفاصيل الدقيقة : أحوال النيل – الحياة اليومية – الفساد – الرشوة – الغلاء – إغراق الأسواق بالنقود.
5- التركيز على الموضوع وعدم الاستطراد، وعدم الخروج على الموضوع .
6- الحيادية تجاه الحكام وعدم مداهنتهم والتقرب إليهم .
- التنبه إلى ربط حركة التاريخ بالعوامل الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة وانتقال أموال وتوزيع ثروات واقطاعات (27)
- رصد كثير من الظواهر الاجتماعية بدقة : شهادة الزور، الزنا، اللواط، الفسوق، الخمر.
* * *
والآن نخلص إلى بعض الملاحظات العامة والاستنتاجات التي تشمل مراحل تطور الكتابات التاريخية عند العرب:
1- ان الفكر العربي التاريخي اتجه أساساً إلى سرد الوقائع والأحداث من خلال الرصد أو الرواية المسندة، مستفيداً من علم الحديث.
2- إن كلمة "التاريخ" تعني في المعجم الغاية والوقت الذي ينتهي إليه كل شيء. وبذلك يتصل المعنى بحركة الزمن المرصودة وليس بالحكاية الاسطورية التي تشير إليها كلمة History باللغات الأوروبية.
3- الغاية النبيلة من كتابة التاريخ كعلم، ويندرج ذلك في إطار العلوم جميعاً كعمل يتقرب به صاحبه إلى الله وكأنه شكل من أشكال العبادة، وليس عملاً نفعياً يتوخى مصلحة آنية.
4- سرد الروايات القديمة بصورة حيادية وترك التعليق عليها وإلقاء مسؤولية روايتها على من أسندت إليه.
5- الاعتراف بالآخر وعرضه بموضوعية إلى حد بعيد وعدم إلغاء من يخالف الرأي أو الدين أو المذهب أو العرق.
6- يلاحظ في الدراسات التاريخية الحديثة والمعاصرة تأثر المؤرخين العرب بالمدارس القومية أو الماركسية أو العلمانية أو الليبرالية أو البراغماتية . وهم في أغلب الأحيان متأثرون بالعوامل السياسية الضاغطة بصورة أو بأخرى.
7- بروز التخصصات الدقيقة في الدراسات التاريخية :
- قديمة – حديثة
- مشرقية – أندلسية
- حضارات: مصر القديمة، بابل، بلاد الشام، المغرب
- الحركات الإسلامية – الشعوبية
- تاريخ الأدب
- التاريخ الاجتماعي
- علم الآثار
- التراث غير المادي
8- محاولة إظهار جانب العبقرية لدى المؤرخين العرب، وبيان مدى تأثر المؤرخين الغربيين بهم.
9- اللجوء إلى صفحات التاريخ المشرقة هرباً من الإحباط المتلاحق الذي يعيشه العرب اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق