الجمعة، 12 أغسطس 2011

إبراهيم القادري بوتشيش: حول محن المتصوفة المغاربة في العصر المرابطي

شكل التيار الصوفي في معظم مراحل تاريخ المغرب قوة اجتماعية هامة فرضت على المؤسسة الحاكمة اتخاذ حسابات دقيقة في اختيار أساليب التعامل معها ، سواء بالاصطدام معها ومواجهتها بالعنف والبطش ، أو احتوائها ومداراتها وكسب ودها . وقد آثرنا في هذه الورقة الوقوف على الاختيار الأول المعتمد على أساليب المواجهة العنيفة ، وما تمخض عن ذلك من محن عصفت بالمتصوفة ، كان الهدف منها هزم نفوذهم الروحي ، وإبراز سلطة الدولة فوق أي نفوذ ، فكيف كانت علاقة السلطة المرابطية بهم ، وما هي أساليب المواجهة التي نهجتها معهم ؟
1- المتصوفة والسلطة تقارب أم تنافر ؟
إذا كان من الصعب تعميم حكم على ظاهرة تاريخية ، فإن معظم النصوص والروايات الصوفية تنحو نحو إثبات صور النفور والتباعد التي أطرت علاقة السلطة المرابطية بالمتصوفة . في هذا الاتجاه ، يسرد ابن الزيات[1] في ترجمة أحد متصوفة المرحلة مدار الدراسة أنه (( لم يمش بقدمه في مظلمة ولا إلى باب سلطان )) . ومن جهته كان المتصوف أبو عبد الله المجاهد (( مباعدا للملوك ، مع شدة رغبتهم فيه ، منافرا لهم ، لا يقبل منهم قليلا ولا كثيرا )) [2] . وفي نفس السياق ، يخبرنا ابن صعد[3] عن متصوف آخر اشتهر بشدة الزهد ومباعدة الأمراء و المترفين . كما عرف المتصوف ابن العريف أيضا بتحاشيه مجالسة الأمراء وعدم قبول هداياهم ، وحسبنا أنه بعد ثبوت براءته من التهمة التي كالها له بعض الفقهاء ، سعى الأمير المرابطي علي بن يوسف إلى استرضائه (( فسأله عن حوائجه )) ، بيد أنه ترفع عن ذلك ولم يقبل إغراءات الأمير المذكور [4] .
وبلغ من شدة حرص المتصوفة على تجنب تقاربهم مع السلطة ، أن كانوا يوصون تلامذتهم ومريديهم بالابتعاد عن السلطان و التعفف عن تقلد المناصب والخطوط حتى لا يكونوا (( كبائع السلاح من اللصوص )) [5] .
وحتى المتصوفة الذين قبلوا هدايا الأمراء وإنعاماتهم ، لم يستأثروا بها ، بل وهبوها بدورهم صدفة للفقراء وذوي الحاجة[6] .
وإذا كان المؤرخ المنصف لا يمكن أن ينكر أن أسلوب الإحتواء والتقارب ومحاولة كسب المتصوفة لم يكن غائبا في استراتيجية المؤسسة الحاكمة خلال العصر المرابطي ، فإن تحليل ظرفية سياسة التقارب هاته ، يكشف أنها جاءت نتيجة فشلها في هزم النفوذ الروحي للمتصوفة ، ودخولها هي نفسها في مرحلة الهرم والانهيار ، مما جعلها تسارع مكرهة نحو مهادنة المتصوفة والتقارب معهم .
ولعلّ أهم معلم من معالم سياسة التقارب التي تبنتها السلطة المرابطية ، يكمن في نموذج أسرة آل أمغار الصوفية بعين تيط الفطر بـأزمور ، إذ بادرت إلى منح شيوخ هذه الأسرة ظهائر التوقير والاحترام كما يشهد على ذلك الظهير الذي بعثه الأمير علي بن يوسف إلى أبي عبد الله محمد بن الشيخ أمغار سنة 527هـ/1132م ، يلتمس فيه دعاء الشيخ ويتوق للحصول على بركته ورضاه [7] .
والواقع أن سنة 527هـ مليئة بالدلالات ، إذ أنها تشكل بداية دخول الدولة المرابطية مرحلة الانهيار ، وفيها بدأت موارد خزينة الدولة في النضوب ، وخلالها حصدت الدولة أيضا أول هزيمة ضد الموحدين ، لذلك حاول الأمير المذكور استقطاب بعض المتصوفة وضمنهم آل أمغار لكسب ودهم . بيد أن هذا التقارب لا يعني أنهم استطاعوا استقطابهم نهائيا ، أوأن آل أمغار انبطحوا أمام إغراءات السلطة المرابطية . وحسبنا دليلا على ذلك أن هؤلاء عارضوا بشدة إحراق كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، مخالفين في ذلك اتجاه الرياح التي كانت تسير فيها المؤسسة الحاكمة . وانعكست هذه المعارضة في عدم حضور شيخ الطريقة الأمغارية الاجتماع الموسع الذي كان قد دعا إليه الأمير المرابطي علي بن يوسف كافة صلحاء المغرب للاجتماع قصد مناقشة مسألة إحراق كتاب الإمام الغزالي[8] ، وهو اجتماع أشبه " بمؤتمر" كبير ضم عددا من أقطاب التصوف بالمغرب , و شكل في حد ذاته حدثا هاما لم تفصح عنه المصادر أو تعطينا تفاصيل عنه للأسف ، رغم أهميته كمحطة من محطات التصالح والتقارب بين السلطة والمتصوفة ، واكتفت بالقول بأنه (( اجتمع له – علي بن يوسف – في الوقت المعين كل من اشتهر فضله وصلاحه في ذلك العصر )) [9] .
يتضح من حصيلة المعطيات السالفة أن علاقة السلطة بالتيار الصوفي كانت في معظم مراحلها علاقة مشوبة بالحذر ، تميل إلى التباعد والتنافر أكثر من التقارب والمهادنة ، لأن التقارب ارتبط في مخيال المتصوفة " بصك اتهام " قد يفسد صورتهم أمام الرأي العام الذي كان يكنّ لهم كل آيات الاحترام والإجلال والوقار .
وإذا كان من الصعب الغوص في نفسية هؤلاء المتصوفة لاستكشاف خبايا مشاعرهم، والوقوف على جوهر حقيقة موقفهم من السلطة ، فإن المصادر على تنوع مشاربها تجعل الباحث يميل إلى الأخذ بالصورة التي تفرضها المصادر على مخياله، و نقصد بها صورة التباعد والتنافر بين السلطة والمتصوفة ، وهو ما سيعالجه المبحث الثاني من خلال دراسة تطبيقية حول المحن التي تعرض لها هؤلاء ، وأساليب المواجهة التي نهجتها الدولة المرابطية لكسر شوكتهم والحد من نفوذهم الروحي .
2- أساليب مواجهة المتصوفة :
أ‌- المراقبة والمتابعة :
اتبعت السلطة المرابطية سياسة المراقبة الصارمة لكل من اشتبه في أمره من المتصوفة ، باعتبارهم يشكلون معارضة صريحة أو ضمنية لها ، خاصة بعد إحراق كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، فصارت تلتقط أنفاسهم ، وتمنع إرسال الرسائل و الخطابات المتبادلة بينهم . كما كانت تستدعيهم للاختبار والتحقيق معهم ، وحسبنا أن الرسائل المتبادلة بين المتصوف ابن العريف ومريديه كانت من الكثرة ما جعلت السلطة المرابطية تتوجس منها خيفة فتلجأ إلى التضييق على هذه المراسلات ، حتى أن ابن العريف شكا في إحدى رسائله الموجهة لأحد مريديه انقطاع الأخبار عنه بقوله : (( ....واجعل منها معنى كتابي السالف الذي لم يكن عليه جواب ، وكنت في عام تسعة وعشرين (529هـ) لم يصل إلينا في وجهة المشرق مخبور يأنس ولا مخبور بطيبة نفس ...)) [10] ، وهو نص يعكس دور السلطة المرابطية في مراقبة الاتصالات والمراسلات التي كانت تجري بين المتصوفة ، ومحاولة التعتيم على أنشطتهم ، ولو أنها لم تنجح نجاحا كليا في قطع التواصل بينهم كما تشهد على ذلك نفس الرسالة التي تكشف عن تمكن التنظيم الصوفي من اختراق هذا التضييق بواسطة شخص يدعى (( أبو موسى )) [11] .
و الراجح أن عدم تمكن السلطة المرابطية من لجم حركة التواصل بين المتصوفة بواسطة الرسائل والخطابات المتبادلة بينهم ، جعلتها تلجأ إلى أسلوب التحقيق مع زعمائهم ، فالمصادر تجمع على استدعاء الأمير علي بن يوسف لابن العريف إلى مراكش بضغط من قاضي ألمرية ابن الأسود الذي بالغ في تهويل خطوه ، فأرسل مقيدا إلى العاصمة المرابطية ليتم التحقيق معه ، لكن الأمر انتهى بتبرئة ساحته وهو في سبتة [12] ، ولكن تبرئته لم تحل دون اغتياله كما سنبين بعد حين .
وعلى كل حال ، يبدو أن أسلوب المراقبة والمتابعة الذي نهجته السلطة المرابطية لم يكن عفويا ، وإنما كان وليد استراتيجية شاملة وضعت المتصوفة ضمن قوى المعارضة التي شكلت خطرا داهما على السلطة المرابطية ، خاصة بعد ازدياد شعبيتهم نتيجة مناهضتهم لإحراق كتاب الإحياء .
ب - اتهام النص الصوفي بالتأويل والخروج عن السنة :
سعت السلطة المرابطية لإيجاد مبرر شرعي يطلق يدها في البطش بكل من اشتبه في أمره من المتصوفة ، لذلك سعت إلى وضعهم خارج سياج الشرع عن طريق اتهامهم بتأويل النصوص القرآنية والخروج عن السنة . ويحضرنا في هذا السياق التهمة التي كيلت للمتصوف ابن برجان الذي (( سئل عن مسائل عيبت عليه ، فأخرجها على ما تحتمله من التأويل ، فانفصل عمّا ألزمه من النقد )) [13] ، وهو نص يعكس أن مجرد التأويل كان يشكل مطية تركب عليها السلطة المرابطية لإثبات صحة الاتهام ، لولا أن ابن برجان تمكن بذكائه من دفع التهمة عنه بتوضيح ما كان غامضا من تأويلاته .
وفي نفس المنحى حاول فقهاء المرابطين ضرب الاتجاه الصوفي بتوجيه التهمة إلى كتاب الإحياء نفسه بأنه يحتوي على مسائل منافية للسنة ، واقتنعت السلطة المرابطية " بصحة " هذا الادعاء ، فأمرت بإحراق الكتاب في كل من في قرطبة [14] ومراكش [15] ، وتشددت في متابعة كل من يقرأه أو يقوم بنسخه ، على اعتبار أنه يساهم في ترويج الفكرالصوفي ، لذلك لا غرابة أن يقوم المريدون بنسخه سرا .
ورغم كل الجهود التي قامت بها السلطة المرابطية لإلصاق التهمة بالمتصوفة بتأويلهم القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة ، فإنها لم تفلح ، بل كانت النتيجة عكسية ، فانتصر التيار الصوفي الغزالي فوق حدود المتوقع [16] .
ج - الملاحقة والإبعاد :
لم تكتف المؤسسة الحاكمة بالتتبع والمراقبة ، بل لجأت إلى منع بعض المتصوفة من التدريس، تحسبا لأي ترويج لأفكارهم ؛ ولا غرو فقد منع المتصوف أبو الفضل بن النحوي من إلقاء دروسه في أحد مساجد سجلماسة [17] ، بل إنه تعرض بعد ذلك للملاحقة ، فاضطر إلى الاختفاء في جنة كانت في ملكه ، وبقي مختفيا بها (( إلى أن أشرف على الموت من شدة الجوع )) [18] . كما طالت الملاحقة والإبعاد متصوفة آخرين نذكر من بينهم المتصوف الشهير أبو يعزى الذي تم إبعاده عن حومة البليدة بفاس ، تحت ذريعة أن أهل البدع كانوا يشاركون في مجالسه [19] .
وبذلك يتضح أن أسلوب الملاحقة والإبعاد كان يدخل ضمن استراتيجية السلطة المرابطية في اجتثاث التيارات الصوفية التي كانت ترى فيها مسا بأمنها واستقرارها .
د - السجن والتعذيب :
لم يقتصر اضطهاد السلطة المرابطية للمتصوفة على الملاحقة والإبعاد ، بل ذهبت إلى الزج بهم في السجون وتعريضهم للضرب والتعذيب . ومن النماذج التي يمكن أن نسوقها في هذا الصدد المتصوف الشهير أبو الحسن علي بن حرزهم الذي تم سجنه في مدينة فاس[20]، وأبو عبد الله محمد بن عمر الأصم ، وأبو عبد الله الدقاق الذي سجن مع مجموعة من المريدين في فاس أيضا [21] ، فضلا عن متصوف آخر يدعى أحمد بن وشون [22] .
ومن أبرز المتصوفة الذين امتحنوا بالسجن أيضا ابن برجان السالف الذكر وذلك بسبب أفكاره التصوفية وتأويلاته للنصوص القرآنية ، حتى أنه لقي حتفه نتيجة هذا الأسر [23] .
وشملت عمليات الاعتقال كذلك المتصوف الذي عرف في المصادر التاريخية باسم الميورقي . ويورد ابن الأبار خبر اعتقاله وسجنه بقوله " (( وامتحن بالقبض عليه مع أبي الحكم بن برجان وأبي العباس بن العريف ، وتخلص دونهما ، فقصد المشرق ثانية وأقام بمدينة بجاية برهة في هربه من المغرب )) [24] ، مما ينهض دليلا أن الاعتقالات لم تكن فردية أو متعلقة بشخص بعينه ، بقدر ما كانت موجهة ضد تيار اعتبر آنذاك من أخطر التيارات المناوئة للسلطة .
وبالمثل سجلت لنا المصادر لائحة من المتصوفة الذين ألقي بهم في غياهب السجن نذكر من بينهم محمد بن أحمد نمارة الحجري ومحمد بن خلف اللخمي [25] وأبو عبد الله الشبوقي الذي تم إبعاده من الأندلس واعتقل بحضرة مراكش [26] .
ومن غير المستبعد أن يكون هؤلاء السجناء قد تعرضوا أثناء فترة اعتقالهم لشتى أنواع التنكيل والتعذيب . شفيعنا في ذلك ما ورد في إحدى رسائل ابن العريف من أن رجال الأمن المنخرطين في ما كان يعرف بخطة الشرطة ، أمعنوا في تعذيب امرأة لإجبارها على الإخبار عن أسماء بعض المتصوفة ، فلما يئسوا من الحصول بواسطتها على معلومات فقأوا عينها دون رحمة[27]. كما يخبرنا ابن الزيات[28] عما تعرض له متصوف آخر من أصناف الضرب والتنكيل ، لذلك حاول زعماء التنظيمات الصوفية الرفع من معنويات مريديهم الذين زج بهم في السجن ؛ ومن هذا القبيل ، رسالة وجهها ابن العريف لأحد مريديه يهوّن فيها عليه عذاب السجن وأهواله من خلال الإحالة على بعض المرجعيات الدينية ، خاصة بعض الأنبياء الذين تعرضوا للسجن ، فضلا عن سرد بعض أقوال الحكماء ، ومما جاء بها : (( وفي بعض سير الملوك السالفة ، كانوا كلما سجنوا عاقلا قرنوا به جاهلا ، وقالوا إنما السجن للأرواح لا سجن الأشباح ، فلا أدري من أي الفرق أتت فأهنئك أو أعزيك ...فسمّ الله إذا كان سجنا سراحك ، وتكفل لك و للحق أنك تكفل العناية )) [29] .
ويفهم من نص هذه الرسالة أن ابن العريف كان يدرك تماما عذاب السجن وأهواله ، لذلك كان يسعى إلى رفع معنويات مريديه من خلال الإحالة على مجموعة من المرجعيات التي تصور السجن بأنه دليل حق ، وليس وسيلة عقاب ، وأن الصبر واجب لبلوغ هذا الحق ، وتتجلى تلك المرجعيات في :
1- المرجعية النبوية : حيث تتضمن الرسالة بيانات حول سجن بعض الأنبياء وارتفاع معنوياتهم رغم أهوال السجن وظروفه المقيتة .
2- المرجعية الحكمية ، حيث تشير الرسالة إلى منظور بعض حكماء الملوك حول السجن واعتباره ممرا لتبليغ رسالة الحق والوصول إلى طريق الصواب.
3- مرجعية تضاد المفاهيم غير المألوفة في مخيال المجتمع ، حيث أن كاتب الرسالة يعتبر السجن – على عكس ما هو شائع - حرية إذا كان سببه الجهر بالحق .
4- مرجعية التمييز الإيجابي ، إذ تميز الرسالة بين سجن العاقل وسجن الجاهل .
5 ـ مرجعية الصراع بين الأضداد : الحق /الباطل والعقل /الجهل ، إذ تؤكد الرسالة على أن سجن العقلاء هو طريق الوصول إلى الحق .
وتجدر الإشارة أنه رغم ما تعرض له بعض المتصوفة من محن داخل السجون ، فإنهم لم ينقطعوا عن التعبير عن آرائهم وأفكارهم داخل معتقلاتهم ، فألفوا كتبا في هذا المجال نذكر من بينهم محمد بن خلف اللخمي الذي صنّف داخل زنزانته مجموعا في التصوف ، انتهى من تأليفه سنة 529هـ/1139م [30] .
يتضح مما سبق أن وسيلة السجن التي نهجتها السلطة المرابطية لم تفلح رغم قساوتها في إطفاء جمرة الفكر الصوفي ولذلك لجأت إلى وسيلة الاغتيال .
هـ - اغتيال المتصوفة :
وصل حد المواجهة بين المرابطين والمتصوفة إلى حد اغتيال هؤلاء ، وإن كان الفقهاء يتحملون وزر هذه المواجهة التي بلغت هذا الحد الخطير . فإذا كانت العوامل المذهبية تظهر كعامل أساسي في الصراع بين بعض الفقهاء والمتصوفة حيث اختص الفقهاء بالإفتاء والأحكام العامة في العبادات والمعاملات ، في حين تميز المتصوفة بالمجاهدة ومحاسبة النفس والكلام في الأذواق [31] ، فإن ذلك لم يكن سوى غطاء للصراع الاجتماعي بين تيار ثري وآخر يدعو إلى الزهد والتقشف ، لذلك تفننوا في تأليب السلطة المرابطية عليهم ، وتدبير أسباب اغتيالهم . فجلّ المصادر تجمع على حسد القاضي ابن الأسود لابن العريف وتدبير أمر اغتياله [32] . ورغم تبرئته مما نسب إليه ، فقد استأسد القاضي المذكور في نسج مؤامرة اغتياله ، ونجح فيها حيث قتل ابن العريف في مراكش أو سبتة حسب اختلاف الروايات [33] . كما تم اغتيال ابن برجان بعد اعتقاله في مراكش نتيجة آرائه التصوفية ، لا بل أمر الأمير علي بن يوسف أن تلقى حثته على المزبلة ومنع أن تقام عليه صلاة الجنازة [34] .
ولم ينج المتصوف أبو عبد الله الدقاق من موت محقق مع جماعة من مريديه من مدينة سجلماسة، إلا بعد تدخل أحد أشياخ قبيلة فاس الذي تشفع له لدى الأمير المرابطي[35] .
ويبدو أن وصول منحى التوتر بين السلطة المرابطية وأقطاب التصوف إلى هذا الحد من القتل والاغتيال يعكس الخطورة التي أصبح يشكلها الفكر الصوفي عليها ، مما جعلها سلاح الاغتيال إحدى الأساليب التي نهجتها للحدّ من تسرب الفكر الصوفي . بيد أن الأمور كانت قد استفحلت ، وكان التنظيم الصوفي خاصة الباطني منه قد بلغ مرحلة من النضج ، مما هيّأ المناخ لقيام ثورات صوفية كثورة ابن قسي التي قضت مضجع المرابطين .
والخلاصة أن علاقة السلطة المرابطية بالمتصوفة كانت في أغلبها علاقة تنافر وتباعد ومواجهة ، وسلكت المؤسسة الحاكمة في مواجهة التيار الصوفي مجموعة من الأساليب التي تراوحت بين المراقبة والمتابعة وإلصاق تهم الخروج عن السنة ، والملاحقة والإبعاد والاعتقال والسجن والاغتيال، وكلها أسليب تفصح عن مدى خطورة المتصوفة كتيار فكري فرض نفسه في المجتمع المغربي الوسيط ، بيد أنها عجزت عن قطع دابر المتصوفة ، فاضطرت إلى نهج أسلوب جديد معهم يتجلى في أسلوب الاحتواء والمهادنة ، ولكن وضعيتها آنذاك كانت قد بدأت تجنح نحو الانهيار، فهل يمكن اعتبار التيار الصوفي عاملا من عوامل انهيار دولة المرابطين ؟ سؤال نطرحه ونترك الإجابة عنه لأقلام الباحثين .
مكتبة البحث
المصادر :
- ابن الأبار ، المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي ، نشره فرانسيسكو كوديرا وزايدين ، مدريد 1885 .
– ابن الأحمر ، بيوتات فاس الكبرى ، تحقيق عبد الوهاب بن منصور ، دار المنصور للطباعة ، الرباط 1972 .
- ابن بشكوال ، كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم ، نشره وصححه السيد عزت العطار الحسيني ، طبعة بغداد – القاهرة 1955 .
- ابن خلدون ، كتاب المقدمة ، تحقيق عبد الواحد وافي ، مطبعة لجنة البيان العربي ، ج3.
- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، تحقيق إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت ( دون تاريخ ) .
- ابن الزبير ، صلة الصلة ، نشر ليفي بروفنسال ، المطبعة الاقتصادية ، الرباط 1938 .
- ابن الزيات ، كتاب التشوف لرجال التصوف ، تحقيق أحمد التوفيق ، منشورات كلية الآداب بالرباط، الدار البيضاء 1984.
- ابن صعد ، النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب ، مخطوط الخزانة الحسنية رقم 2491 .
- ابن عبد العظيم الأزموري ، بهجة الناظرين وأنس العارفين ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم
ج 377 .
- ابن عبد الملك ، الذيل والتكملة ، السفر 6 ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت 1973. .
– ابن عذاري ، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ، تحقيق ليفي بروفنسال وكولان ، دار الثقافة بيروت 1980 ، ج 3
- ابن العريف، مفتاح السعادة وتحقيق الإرادة ، مخطوط الخزانة الحسنية رقم 1562 .
-ابن القطان ، نظم الجمان ، تحقيق محمود علي مكي ، المطبعة المهدية ، تطوان ( دون تاريخ )
- ابن مريم ، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان ، تحقيق محمد بن أبي شنب ، الجزائر 1908 .
- .ابن المؤقت ، السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية ، فاس1336 هـ .
- التبكتي ، كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ، نشر على هامش كتاب الديباج المذهب لابن فرحون ، دار الكتب العلمية ، بيروت ( دون تاريخ ).
-الجزتاني ، جني زهرة الآس في أخبار مدينة فاس ، المطبعة الملكية ، الرباط 1967.
- مؤلف مجهول ، كتاب في تراجم الأولياء ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم ج 1271 .
الدراسات الحديثة :
- محمد المازوني ، آل أمغار في تيط وتامصلوحت ، بحث قدم لنيل دبلوم الدراسات العليا سنة 1987 ، خزانة كلية الآداب بالرباط رقم ر-ج 9 . 218.
- إبراهيم القادري بوتشيش ، إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والاجتماعي ، دار الطليعة ، بيروت 1998 .
- Lagardere : La Tariqa et la révolte des Muridun en 539 H/ 1144 en Al andalus. Revue de l’Occident Musulman et de la Méditerranée , no 354 1983 .
- الشراط محمد بن طاهر، الروض العاطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط ، رقم د 1264
[1] كتاب التشوف ، تحقيق أحمد التوفيق ،منشورات كلية الآداب بالرباط ، الدار البيضاء 1984 ، ص297 ، ترجمة أبو بكر بن يحي بن محمد .
[2] نفسه ، ص127 .
[3] النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب ، مخطوط الخزانة الحسنية رقم 2491 ، 55-56 .
[4] التبكتي ، كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ، نشر على هامش كتاب الديباج المذهب لابن فرحون ، دار الكتب العلمية ، بيروت ( دون تاريخ ) ، ص58-59 .
[5] ابن الزيات ، م، س، ص92-93 .
[6] نفسه ، 145-146 .
[7] ابن عبد العظيم الأزموري ، بهجة الناظرين ، وأنس العارفين ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم ج 377 ، ص 31 .
[8] بهجة الناظرين ، ورقة 16ب ، أنظر أيضا : المازوني ، آل أمغار في تيط وتامصلوحت ، بحث قدم لنيل دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب بالرباط (مرقون ) ، ص145- 146 .
[9] نفس المصدر والصفحة .
[10] ابن العريف : مفتاح السعادة وتحقيق الإرادة ، مخطوط الخزانة الحسنية ، رقم 1562 ، ص60-61 .
[11] نفس المصدر ، ص 60.
[12] ابن بشكوال ، كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم ، نشره وصححه السيد عزت العطار الحسيني ، طبعة بغداد – القاهرة 1955 ، ج1 ، ص83 – ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، تحقيق إحسان عباس ، دار صادر ، بيروت ( دون تاريخ ) ، ج1 ، ص169 .ابن المؤقت ، السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية ، فاس 1336 هـ ج 2، ص58 .
[13] ابن الزبير ، صلة الصلة ، نشر ليفي بروفنسال ، المطبعة الاقتصادية ، الرباط 1938 ، ص32-33 .
[14] ابن القطان ، نظم الجمان ، تحقيق المطبعة المهدية ، تطوان ( دون تاريخ ) ، ص 14-15 – ابن عذاري ، البيان المغرب في ذكر أخبار الأندلس والمغرب ، تحقيق ليفي بروفنسال ، ج4 ، ص59 – ابن الأحمر ، بيوتات فاس الكبرى ، تحقيق عبد الوهاب بن منصور ، دار المنصور للطباعة ، الرباط 1972 ، ص33-34 .
[15] مؤلف مجهول : كتاب في تراجم الأولياء (مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم ج 1271 ،) ص 206 .
[16] أنظر كتابنا : إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والاجتماعي ، دار الطليعة ، بيروت 1998 ، ص 144 – 145 .
[17] ابن مريم ، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان ، تحقيق محمد بن أبي شنب ، الجزائر 1908 ،ص301 .
[18] ابن الزيات ، م.س ، ص154 .
[19] ابن الأحمر ، م.س ، ص 66 .
[20] ابن الزيات ، م.س ، ص172 .
[21] نفسه ، ص 155 .
[22] الجزتاني ، جني زهرة الآس ،في أخبار مدينة فاس ، المطبعة الملكية ، الرباط 1967 ، ص97 .
[23] ابن الزبير ، م.س ، ص32-33 .
[24] المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي ، نشره فرانسيسكو كوديرا وزايدين ، مدريد 1885 ، ص139 .
[25] ابن عبد الملك ، الذيل والتكملة ، السفر 6 ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت 1973،، ص17 .
[26] نفسه ، ص181 .
[27] ابن العريف ، م.س ، ورقة 25 أ .
[28] كتاب التشوف ، ص232 .
[29] ابن العريف ، م، س، ص158- 161 .
[30] ابن عبد الملك ، م، س،السفر 6 ، ص17 .
[31] المقدمة ، تحقيق عبد الواحد وافي ، مطبعة لجنة البيان العربي ، ج3 ، ص 1065 .
[32] ابن الزيات ، م.س ، ص119 – التبكتي ، م.س ، ص58-59
[33] ابن بشكوال ، م.س ، ج1 ، ص83 يجعل وفاته في مراكش بينما يجعلها ابن الآبار في سبتة ، أنظر المعجم ، ص20
. وانظر أيضا :
Lagandere : La Tariqa et la révolte des Muridun en 539 H/ 1144 en Al andalus. Revue de l’Occident Musulman et de la Méditerranée , no 354 1983 , p 163 .
[34] ابن الزبير ، م.س ،ص32-33 .
[35] الشراط، الروض العاطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس ، مخطوط الخزانة العامة بالرباط ، رقم د 1264، ورقة 161 ب .

محمد الغرايب: التصوف اليهودي بين العقيدة والتاريخ

يعتبر التصوف اليهودي، قبل أن يكون موقفا فكريا، منتوجا تاريخيا عكَس، إلى هذا الحد أو ذاك، حالة نفسية عامة، استدعاها بالضرورة، خلال القرن الثاني الهجري، ذلك التلاقح الحضاري الذي تنوعت مكوناته الثقافية ومهد له الازدهار المادي في العصر العباسي؛ واستنادا إلى كتابات سَعْدِيا ﮔـاوُون فإن النّزَعات الأولى للتصوف اليهودي ربما واكبت انطلاقة حركة التصوف الإسلامي؛ لأن التصوف عامة، وهو ما يبدو، لم يخرج، في جوانبه التنظيمية، عن الإطار الزمني لهذا القرن.
إن ما يهمنا الآن، ليس التأصيل للتصوف اليهودي المغربي وكيفية بدايته بقدر ما يهمنا طريقة تعبيره عن التطور التاريخي، الذي عرفته الطائفة اليهودية المغربية ضمن مجتمع الغرب الإسلامي، وكذلك مساهمة بعض الأحداث بعينها في إعطاء تأويلات قَبّالية لبعض الممارسات الدينية والثقافية التي ميزت المجتمع اليهودي في المغرب الإسلامي.
ولما كان المتصوفة من اليهود المغاربة، كغيرهم من يهود المشرق الإسلامي، لا يملكون من الأدوات التعبيرية إلا ما أنتجه الأدب الصوفي الإسلامي، وهو بالفعل ما اقتبسوه من إخوانهم المسلمين، فإن الضرورة تدعو، وإن باختصار، إلى الإشارة إلى هذه الأدوات من جهة وتبيان حدود مساهمتهم في هذه الممارسة الروحية، وبعض ما تركوه من كتابات كإرث فكري من جهة أخرى.
اقتضت العوامل الطبيعية والاقتصادية، في الغرب الإسلامي عامة وبلاد المغرب خاصة، وجود بنيات اجتماعية وسياسية وفكرية متطابقة، وهو ما أسميناه في دراسات سابقة([1])، بسبب كل هذه العوامل المتميزة بالقلة وعدم الانتظام، بنمط إنتاج الندرة؛ وقد طبع هذا النمط كل مناحي الحياة في بلاد المغرب بطابعه، وانعكس بشكل واضح في كتابات المتصوفة والقبّالين، وهذا ما سنقف على بعض الجوانب فيها.
يعتقد أحد الدارسين أن "الوعي الصوفي اليهودي والتقليد القبالي يَمْتَحان من مصادر اليهودية الأكثر عمقا، ويتعلق الأمر بالتوراة وما وضع حولها من حواش، والتلمود وتفسيره والهَالاَخا والثيولوجيا والمُوسَار والمِدْراش والهاﮔدا"([2]). إلا أننا نرى أن مساهمة هذه العناصر جميعا لم يكن إلا عاملا واحدا ضمن عوامل ثقافية أخرى([3])، وَجدت، في ترية الإسلام الخصبة والمتميزة، كل الأسباب لإبراز خصوصيتها، لكنها ظلت، كما ظل التصوف اليهودي، رافدا من روافد الثقافة الإسلامية وإحدى صورها، لذلك لم يبتعد تعريف الباحثين اليهود للتصوف اليهودي عن تعريف المسلمين للتصوف الإسلامي. بل إن التصوف اليهودي، كما سنرى الآن، أطر الجهاز المفاهيمي الصوفي الإسلامي داخل مجاله، لأن اليهودية كانت قد تهيأت، بفضل متانة البنية التحتية لمجتمع الندرة الإسلامي، لتستقبل كل المؤثرات القوية من داخل هذا المجتمع، ولاسبما التصوف الذي اعتُبر، من قبل البعض، "أهم مساهمة إسلامية في الثقافة عامة."([4]).
إن التصوف في التعريف اليهودي، كما في التعريف الإسلامي، هو في التحليل الأخير سعي إلى الارتقاء بالنفس والاقتراب بها من ملكوت السماوات، والدخول في رحاب الألوهية، أو ما أطلق عليه في العبرية دِيبِيقُوت، وهو مصطلح "يتماشى وفكرة تجديد الوحدة الإلهية التي تضررت من الخطيئة الأولى وتحقيق التناغم الكوني الذي هو ذاته مرتبط بشفاعة المسيح."([5]) والمتصوف هو من دفعته حاله إلى نوع من الوجد يزهد به في الدنيا وفي النفس، ويجعل وجوده مقتصرا على تطهير روحه بواجب العبادة والتقشف والتعفف والزهد، ومجموع عناصر هذه الحالة هي أولى درجات الارتقاء في سلم التصوف اليهودي، وهو نفسه أول عتبة أمام المتصوف المسلم للدخول إلى عالم الزهد، وتشترط هذه العتبة أمورا ثلاثة يُكرِه الإنسان نفسه عليها، وهي: المعرفة، والمحاسبة، والمحبة؛ لكن عنصر المعرفة الصالحة يتجلى جوهره، حسب المتصوف، في الإكثار من ذكر الله وترديد اسمه([6]).
ولما كانت اليهودية مكونا من مكونات الثقافة الإسلامية، فإن المتصوفة من اليهود اقتبسوا المصطلح الصوفي الإسلامي([7]) واستعملوه بشكل واسع، وإن كنا نعتقد أن العدد سبعة([8])، الوارد ذكره في التوراة والقرآن الكريم، والذي يعني في ما يعنيه دوما الأوج أو النهاية، قد تم وفْقَه ترتيب المستوى الثاني من سلم التصوف، ويتكون هذا المستوى من فروض ومراق تنتهي باليقين، ويمكن تقسيمها صوفيا إلى قسمين، وهما: المقامات والأحوال.
والمقامات، كما بيننا، مراتب سبع، وهي على التوالي: 1- التوبة، 2- الورع، 3- الزهد، 4- الفقر، 5- الصبر، 6- التوكل، 7- الرضى.
أما الأحوال، والتي تقتضي مرور الزاهد إلى مرحلة التصوف، فثمانية([9])، تأتي مباشرة بعد استكمال المقامات بشكل يكون قد طهر النفس، وهي كما يلي تباعا: 1- القرب، 2- المحبة، 3- المخافة، 4- الرجاء، 5- الشوق، 6- الأنس، 7- المشاهدة، 8- اليقين([10]). وعندما تكتمل هذه الأحوال يكون المتصوف، أي الإنسان الكامل، قد بلغ أقصى درجات السمو.
ولما كان التصوف الإسلامي أنموذجا يُحتذى في أوساط القبالين من الطائفة اليهودية فإن نقط التشابه لا تعدم في الأدبين لدى المجموعتين، أو لنقل إن خطوط التبعية في الأدب الصوفي اليهودي للتصوف الإسلامي تبدو واضحة في طقوس العبادة اليومية، إلا أننا سنقتصر، في ضرب المثل لذلك، على قيام الليل عند اليهود واللجوء إلى الخلوة تجنبا للقاء الخلق.
يزخر الزهّار والأدب الرباني للفترة التلمودية وما بعدها بالحديث عن مواكبة الذكر والتفكر والتعبد في الخلوة. وقد ورد في أحد نصوص التلمود أن "أتقياء الأزمنة القديمة للمَشْنا كانت عادتهم انتظار ساعة من الزمن قبل الشروع في الصلاة حتى تنْصبّ أذهانهم على أبيهم الذي في السماوات، وإذا ما انغمسوا في الصلاة وجاء ملِك مُحَيِّيا إياهم ما ردوا تحيّته حتى لا ينقطع حبل صلاتهم أو إذا ما حدث وجاءت أفعى والْتَوت على عرقوبهم ما انتبهوا إليها."([11])
ويبدو أن حالات التصوف، في الوسط اليهودي، غالبا ما ظهرت في أوقات معينة، ربما تميزت بالشدة، أو في أماكن لا تختلف في شدتها عن هذه الأوقات إلا قليلا، وهو ما سنحاول التطرق إليه إجمالا دون تدقيق، ونعتقد، كما أشرنا إلى ذلك، أن التصوف عموما لم يكن ممارسة روحانية فوق التاريخ ولكنها كانت وستظل منتوجا تاريخيا وتعبيرا روحيا عن حاجة اجتماعية أو حتى سياسية، وهو ما جعل التصوف بدوره ينقسم، رغم غموض بعض التعبيرات لدى المتصوفة، إلى روحانية إيجابية وأخرى غير إيجابية، وهو ما سنراه في ما يلي من الفقرات.
لا يجب الاعتقاد بحياد المتصوفة وانصرافهم عن هموم الحياة الدنيا وانقطاعهم إلى العبادة لأن كل هذه الأمور نسبية في حياة الناس وهو ما لم يجعل المتصوفة عموما في مأمن من عنف الحكام، كما لم يجعل الحكام في مأمن من تحريض المتصوفة ضدهم، كما أن المتصوفة من مختلف الملل، بما فيها الإسلام، لم يحطموا بينهم الحواجز الدينية ليكوّنوا طبقة اجتماعية ذات أهداف واحدة، بل اتخذوا، أحيانا، من الآليات الدينية، وسيلة لتمتين التنافر ضمن الحضارة والمجتمع الواحد، ومحاربة كل ما يقرّب لاحقا بين مكوناته الدينية، وإن توسلوا بالسبل وبالإشارات نفسها، لأن تأويلهم للأسس الكبرى لكل ديانة يتم بشكل عقائدي، وقد يبدو الأمر جليا مع هذين المثالين التاليين ويتعلق الأمر بقراءة في الزهّار للعلاقة المتوترة بين المسلمين والمسيحيين، وما يسميه اليهود بالختان غير التام عند المسلمين.
وقد أورد الزعفراني باختصار هذين المثالين كما يلي: قال ابراهيم لربه: "رَبّ ابْقِ لي اسماعيل حيا"، فتنهد ربي حيا وبكى، وقال: "كانت ساراي عاقرا ولم يكن لها ولد". وتحسّر مرتين ونادى بالويل ولعن الساعة التي وضعت فيها هاجر إسماعيل، فسأله ربِّي يُوسِي: "لِمََ كل هذا؟ ألم تحبل ساره بعدها؟ ألم يكن لها ولد مقدَّس ميلاده وجنسه؟" فأجاب ربي حيا: "لك نظرتك ولي أخرى. إن هذا ما سمعته من ربي شمعون، وبسببه أبكي. دعوت بالويل على الساعة تلك، لأنه مر على ساراي حين من الدهر لم يكن لها فيه حمل ولا ولد، فقالت لابراهيم: دونك وخادمتي..." ناسبت تلك الساعة هاجر، وبفضلها ورثت (مزية) سارة، مولاتها.
رُزقت هاجر من إبراهيم طفلا فتوجه إلى ربه متوسلا: "ربّ ابق لي إسماعيل حيا." ورغم تبشيره سبحانه إبراهيم بمولد إسحاق، تعلق إبراهيم بإسماعيل فاستجاب الله لدعائه، وألقى إليه بالكلمات التالية: "أما إسماعيل ففيه أحببتك وباركته … وأنا جاعل منه أمة عظيمة". اخْتُتِن إسماعيل ودخل الميثاق الحرام وقبل أن يولد إسحاق. تعال وانظر! فخلال أربعمائة عام، وقف كبير الملائكة، أميرُ يوم الدين، المكلف بقدَر أبناء إسماعيل، في وجهه سبحانه مرافعا أمامه: "أكلما اختتن أحدهم كان له حق معلوم في اسمك"؟ "نعم." "وهذا إسماعيل قد تم إعذاره فلِم لم يكن له، كما لإسحاق، حق معلوم في اسمك؟" فأجاب سبحانه: "اختتن إسحاق على الطريقة المثلى وذاك [أي إسماعيل] لم يكن ختانه كذلك([12]). إذ يسكن هؤلاء [أبناء إسرائيل] إلي في يومهم الثامن من مولدهم وأولئك [أبناء إسماعيل] يبقون بمنأى عني". فأردف كبير الملائكة: "ولما كان [أي إسماعيل] قد تم ختانه أليس لك أن تثوب عليه. يا ويلتاه! كانت ويلا ولادة إسماعيل وكان ويلا ختانه. وما الله سبحانه بفاعل؟". أُبعد أبناء إسماعيل من الميثاق الحرام، وأعطاهم بدله في الأرض المقدسة مكانا دَنِيا جزاء ما فيهم من علامة ختان، وكان وعده لهم بحكمها مادامت خلاء، كما هو خال ختانهم وغير كامل، يُحادّون بني إسرائيل في العودة إلى أرضهم ويستمر الأمر على ما هو عليه إلى أن ينتهي الوعد. وكُتب على بني إسماعيل من الحروب أكبرها وأشدها، يتحد أبناء إيدوم (من الروم والبيزنطيين وبعدهم المسيحيين) ويتوحدون ضدهم ويُعلنون الحرب عليهم مرات عديدة، إحدى هذه الحروب ستكون في البحر والثانية في البر والثالثة قريبا من أورشليم، ينتصر بعضهم على بعض، ويؤول الأمر من بعضهم لبعض، لكن الأرض المقدسة لن ينالها أبناء إيدوم. وفي هذا الوقت ستنهض أمة وستقوم لقتال روما الكُفر والضلال. ويكون قتالها ثلاثة أشهر. وستتجمع الأمم هناك وستسقط هذه الأمم بين يديها؛ ومن كل أركان الأرض سيكون أبناء إيدوم يدا واحدة عليها، وعندها سيعلنها سبحانه حربا عليهم مصداقا لما ورد في يوشع: "مذبحة دموية تكون قربانا لله في بُصرى وقتل عظيم في أرض إيدوم"، ومصداقا لما ورد في يُوب: "ستسقط أركان الأرض لترتعد فرائص أهل الشر" ويطرد الله أبناء إسماعيل، ويكسر شوكة الأقوياء من السماء، فلا قوة سماوية تبقى وكيلة بمصير الأمم، إلا مَن خول الله لها قدَر إسرائيل … وبصدد هذا الزمن جاء في الكتب: "وعندها سأبدل لغة الأمم بلغة واضحة ليذكروا اسم الله ويجعلوه شِخِيما واحدا وظهْرا واحدا، وكلاّ حركة واحدة"، "وأثناءها يُوحَّد اللهُ ويُوحَّد اسمه".
إن هذا التفسير الصوفي للتوراة، كما يبدو من محتواه، غُنوصي وسياسي بدرجة أولى أكثر مما هو ديني. وعلى هدْيه سارت باقي التفسيرات الصوفية الأخرى للحالات الاجتماعية التي عانت منها الطوائف اليهودية، سواء في الأندلس أو بلاد المغرب. فإذا كان الزهّار "خطابا حيا. فهو من جهة مُوجِّه لإبداع أدبي قبّالي باطني ومتنوع، ومن جهة أخرى تعبير عن الراهنية وديمومة الحياة الصوفية"، وانعكاس ديني لصراع اجتماعي، لذلك عكَست ملحقاته، كما رأينا في المثال الآنف الذكر، ذلك الصراع بين طوائف اليهود في عهدي ألفونس العاشر (1252-1284) وسانشو الرابع (1284-1295) ودور الأغنياء منهم في زيادة مأساة عموم الطائفة بابتعادهم عن تعاليم التوراة. وقد "صُوِّرت الخصومة بين إسرائيل وإيدوم كصراع بين عالم النور ومملكة الشيطان. إن الابتعاد عن الدين وتغييره، والعمل ضد مصلحة الشعب وقبول وعد أو الأخذ بأفكار ومعتقدات العالم غير اليهودي أو بعقلانية الفلسفة والدخول في خدمة الأمراء، والأسوأ أيضا البحث عن مرافقة نساء المشركين وموادتهن كل ذلك استسلام لإغواء الشيطان."
كان للجانب الاجتماعي قوّته في فرض نوعية الكتابة عند موسى دي ليون، فقد كان هذا المتصوف اليهودي منشغلا أشد الانشغال بالأمراض الاجتماعية التي كانت تضرب بقوة الطائفة اليهودية، وكان يحاول معالجتها جاهدا: "طوبى لشعب إسرائيل لأن الله اختاره من بين الشعوب ليخصه بعلامة العهد … وكل أولئك الذين لا يحترمون هذا الميثاق المقدس يتسببون في القطيعة ويحفرون أخدودا عميقا بين إسرائيل وأبيهم الذي في السماء، مصداقا لما جاء في التوراة: "احذروا أن تنغوي قلوبكم، فتعبدوا من دونه آلهة أخرى … فيستعير غضب الله عليكم". وكل من خان هذا العهد المقدس هو قرين من يعبد إلاها غريبا."
وينتقل الزهّار من هذا المستوى الفكري إلى المستوى الاجتماعي ليهاجم الثراء وأهله من اليهود، ويُشِيد بالفقر الذي يُعتبر مدحا لطريق التصوف، فالفقراء إلى الله بهم تزكو الطائفة، وتملأهم حقيقة الألوهية، وهم أقرب للأنبياء، ومنهم يستمدون ما أُوحِي إليهم: "يقوم الناس وينظرون إلى جهة سودوم". وفي الزهّار يقول ربي ألِعَازار: "لقد تعلمنا أن الله إذا ما أحب أحدهم بعث له هدية فما هي هذه الهدية يا ترى؟ هي فقير به ينال مستحقه وإذا ما نيل المستحق فإن الله يسدل عليه قبَسا من عفوه (حسيد) عفوا وطيبوبة تفيض عن يمين العرش؛ فتنتشر على رأسه وتَسِمُه بعلامة ما، فإذا جاء يوم الدين فإن ملَك الموت يكون قد أخذ علْما، فعندما يرفع رأسه ويرى هذه العلامة يبتعد مخافة وبحذر شديد.
وقد كان للفقر، في التصوف اليهودي كما في التصوف الإسلامي، مكانة خاصة، وتُعتبر منطقة درعة، بعد الأندلس، أهم المناطق التي عرفت انتشار تصوف الفقر بشكل كبير، نظرا لتأصل اليهودية بها من جهة، ولطبيعتها الصحراوية التي تتسم بالندرة وما يمكن أن يصاحب الندرة من خوف على الأنفس من جهة أخرى. لذلك اعتُبرت درعة مشتلة متصوفي اليهودية المغربية، وهو ما عجز البعض عن إعطاء تفسير له، وإن كان من الواضح أن كتابات متوصّفة درعة لا تخرج في محتواها عن واقع الفترة التي أنتجت فيها.
وخلاصة القول إن التصوف في يهودية المغرب ظل محكوما بالأسس الفكرية، المكونة للديانة الموسوية، ومطبوعا بتطورات الثقافة المحلية، سواء في بلاد المغرب أم في بلاد الأندلس.
هوامـش:
(* ) - أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة.
[1] - انظر: محمد الغرايب، يهود مجتمع المغرب الأقصى الوسيط، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، 2002، (مرقونة).
[2] -Haim ZAFRANI; Kabbale vie mystique et magie. Maisonneuve et Larose, Paris 1986, p. 14.
[3] - تعود أصول التصوف، عند بعض الدارسين، تارة إلى التأثير المسيحي وتارة إلى الزهد الذي ساد أوساط الهنود والفرس وأخرى حسب بعض المصادر اليهودية إلى الاحتساب والقناعة التي اتسم بها بعض علماء التلمود وإلى أدب الهِيخَالُوت وإلى تصوف المِرْكَابَا التي طبعت جميعا القرون التي سبقت ظهور الإسلام.
[4] - G. SCHOLEM; kabbale. éd. Jérusalem, 1974, p. 35
[5] - H. ZAFRANI; op. ci.t, p. 18.
[6] - G. C. ANAWATI et L. GARDET; Mystique musulmane. Paris 1976, pp. 187-205.
أورد صاحبا كتاب التصوف الإسلامي المذكور أعلاه الميزة التي طبعت روحيا ترديد النّامْبُوتْسو (البوذية اليابانية) وهبوط المركابا والذكر والصلاة على المسيح وأضافا أيضا أن: "التأويلات اليهودية "لهبوط المركابا" التي ازدهرت بعد ذلك بكثير في القبّالة الكلاسيكية غدت بالضرورة في حاجة إلى مقارنة، يأتي هذا التأثير في إبانه ليعطي إطارا جذابا إلى كل ما نعتقد أنه أحد المضاعفات التقنية للذكر (…) وهي تقنية ترتبط بشكل وثيق بترديد اسم الله وتنظيم التنفس في شكل مصاحب لحركة الرأس".
وفي ملحق هذا الكتاب المذكور أعلاه ميز المؤلفان "تجربة موسى" بمكانة خاصة في التحليل، فرغم أن الله سبحانه توجه بالخطاب إلى أنبياء عديدين، إلا أنه جعل من موسى كليمه وخصه بهذا الفضل دون غيره، وقصة موسى كما هي واردة في "قصص الأنبياء" لابن كثير تبدو وكأنها "قصة نورانية" حقيقية حسب تعبير برنار سوهيلر في مقال له بمادة موسى بدائرة المعارف الإسلامية، وهكذا تم إبداع "نوع من القداسة" سيأمل موسى إلى تمثيله أكثر فأكثر في التقاليد الصوفية.
[7] - رغم أن اللغة العبرية تمتلك كثيرا من المصطلحات الصوفية التي تحمل المعنى نفسه في اللغة العربية، إلا أن العلماء من اليهود فضلوا استعمال المصطلح العربي، من ذلك مثلا: مصطلح الظاهر والباطن. فقد استعمل الفلاسفة هذين المصطلحين نفسيهما بدل حيصوني (الخارج) وبينيمي (الداخل) العبريين كما استعملها القباليون بدل: نيــﮕـلا (الظاهر) ونيستار (الباطن)، والتوراة نفسها تقوم على ثنائية متناقضة: ظاهر وباطن، وخفي سري وواضح جلي (عوراينا ستيم وثجاليا).
[8] - يبين القباليون اليهود أن الله عندما خلق الكون، خلقه من سبع سماوات وسبع أراض وسبعة أيام وسبعة أنهار وسبعة أسابيع وسبع سنين وسبع مرات سبعة أعوام وسبعة آلاف سنة كعمر للوجود، واتخذ الله لعرشه السماء السابعة مكانا، وجعل في كل سماء من السماوات العلا نجوما وكواكب وملائكة يأتمرون بأمر الله. وفي هذه السماوات جميعا حَفَظة (ملائكة) تتراكب متحملة نيره تعالى، منهم خداما لا يشبه بعضهم بعضا، فمنهم من خصه بستة أجنحة ومنهم من خصه بأربعة، ومنهم من جعل له أربعة وجوه، ومنهم من وهبه وجهين ومنهم من خصه بوجه واحد. ومنهم المخلوق من نار، ومنهم المخلوق من ماء، ومنهم من هو نفخة من نفس مصداقا لما جاء في التوراة: "يخلق رسله نفسا وخدامه نارا حارقة". تحيط كل هذه السماوات ببعضها وتلتحم كما تلتحم قشور البصل ببعضها، ولا تفتر كل سماء من رعدتها خشية من الله، فبأمره مجراها ومرساها، وبقوّته وحوْله جرى حكمه على العالمين. ويمكن الرجوع إلى "سفر يصيرا" للتوسع أكثر في علاقات الحروف الأبجدية بخلق السماوات وغيرها.
[9] - للرقم ثمانية تأويل صوفي وقبالي في الثقافة اليهودية، في اليوم الثامن يفترض وجوبا ختان كل طفل ذكر ولد قبل أسبوع، وكل طفل تجاوز يومه الثامن بعد الولادة ولم يُختن حُرِم من الوقوف في الحضرة الإلهية. وقد جاء في التكوين: "في اليوم الثامن يختن كل ذكر منكم في كل الأجيال." وفي بيراخوت ذكر الربي شمعون: "إن كل رجل يرزق بذكر، أي بابن، ينضم إلى الشِّخِينة، وهي بداية كل الأبواب العلوية، البوابة المرتبطة بالاسم المقدس. ويبقى الدم الذي يسيل من جرح الطفل المختون حاضرا إلى جواره سبحانه، وعندما يُدعى العالم للحساب والعقاب بنظر الله إلى هذا الدم فيصفح عن العالم. وإذا حدث، لأسباب قاهرة، عدم ختان الطفل في يومه الثامن، فعدة من ثمانين حولا"، فالمختون في ثمانية أيام كالمختون في الثمانين من العمر، فكلاهما سواسية في نظر العادل، ففضل هذا الدم عظيم على الناس فهذا الدم عهد بين الله وخلقه، ومن قدر هذا العهد حق قدره استحق من الله الدنيا والآخرة.
[10] - يحتل اليقين المرتبة الثامنة في سلم التصوف، ورقم ثمانية في الديانة اليهودية يعني عدة أشياء ذات علاقة حميمية في عمق ثقافة اليهود، فالأيام الثمانية مرجع للسِّفِرَاه الثامنة بداية من مِلْخُوت وانتهاء بكِتِر وهي التي يطلق عليها بناه، ويلطف الختان من شدة ووقع المينَاه.
[11] - نجد هذا الأمر بداية عند الغزالي في كتابه ميزان العمل (طبعة القاهرة 1923)، وقد عمد هنري لاووست إلى الإشارة إليها ثانية في تحليله لمذاهب المتصوفة في كتابه:
La Politique d’Al Ghazali. Geuthner, Paris 1970, pp. 72-73.
[12] - يعتقد اليهود أن إسحاق -عليه السلام- تعرض لعملية الختان بشكل متتالي وذلك وفقا للطقس اليهودي: مِيلاَهْ وبِيرِيعَاه
عن موقع

محمد الغرايب(*)

الخوارج

تطور المنهج العلمي في الكتابات التاريخية

تمهيد:

     قبل أن يصبح التاريخ "علماً" له نظرياته وأسسه الفلسفية وقوانينه وتحقيقاته وتعليلاته، لدى ابن خلدون ومن جاء بعده، كانت الكتابات التاريخية عند العرب تسير وفق أنماط متصاعدة تتفاوت في عمقها وسرعتها وتأثرها بالاقليم والعصر.
      ولا بد لنا من إلمامة بتطور تلك الكتابات التاريخية ورصد اتجاهاتها، وتمحيص ما يتصل بها من سرد حوادث، وتيارات سياسية واجتماعية وشعوبية.
     ويمكن أن نتوقف عند القرن الثاني للهجرة، ولدى بعض رواة التاريخ والمغازي والسيرة، من أمثال "وهب بن منبه" (1) المتوفى 411هـ ـ732م. وعروة بن الزبير (ت 94هـ ـ 712م(2) . وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ ـ 740م) وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ ـ 737م).
     وقد كانت كتابات هؤلاء في المغازي تمهيداً هيأ الأرضية اللازمة لمن جاء بعدهم كالزهري والواقدي وابن اسحق.
      فالزهري (ت 124هـ ـ 741م) هو الذي توسع في جمع الروايات وتمحيصها واستخدام عبارة "السيرة" بدلاً من المغازي. حتى إذا وصلنا إلى ابن اسحق (ت 151هـ ـ 761م) نجده يمضي شوطاً في الجمع بين الروايات التاريخية والأحاديث الشريفة والشعر والقصص الشعبي. وقد وصلتنا السيرة التي كتبها ابن اسحق منقحة على يد ابن هشام (ت 218هـ ـ 813م) ومن أعلام تلك المرحلة "الواقدي" (ت 207هـ ) في كتابه المغازي وكتبه الأخرى.
   وتبرز لدينا أسماء مثل أبي مخنف(3) وعوانة بن الحكم(4) ونصر بن مزاحم(5) ، وذلك في سياق رواية الأخبار، ولعل أبرز هؤلاء الإخباريين (المدائني 225هـ)(6)،  (وابن الكلبي 204هـ) (7) ، والهيثم بن عدي (206هـ)(8) وأبو عبيدة(9) (211 هـ).
      وقبل أن نغادر القرن الثالث للهجرة يقف أمامنا "البلاذري ت 279هـ"(10) صاحب /فتوح البلدان/ و/أنساب الأشراف/. وهو وإن كان يعتمد على أخبار من سلفه، إلا أنه ينتقد تلك الأخبار ويفحصها وينتقي منها. وكذلك يفعل معاصره اليعقوبي(11) (ت 284هـ) في كتاب "البلدان" الذي يعتبر أول كتاب في الجغرافية التاريخية. ثم ابن قتيبة (ت 270هـ) (12) في كتاب "المعارف" والدينوري (ت 288هـ) في كتاب "الأخبار الطوال".
       حتى إذا دلفنا إلى بداية القرن الرابع الهجري نجد (الطبري ت 310هـ) الذي تكتمل لديه مرحلة نضوج البدايات والتكوين للكتابة التاريخية. وقد اعتمد الطبري على ثقافته الواسعة ومنهجه كمحدث وفقيه يدقق في السند ويمحص الروايات.
     وهكذا نجد تفاوت مدارس الكتابة التاريخية في مراحلها عبر القرون الثلاثة، وعبر الأماكن المختلفة في المدينة والكوفة والبصرة وبقية الأمصار وصولاً إلى القرن الرابع الهجري الذي نتوقف معه عند مسكويه(13) وتطويره للمنهج التاريخي ثم عند ابن الخطيب وابن خلدون والمقريزي كأمثلة لأبرز المؤرخين أصحاب المنهج الواضح في الكتابات التاريخية.
       ترك أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب المعروف بمسكويه أكثر من أربعين كتاباً(14). أبرزها كتابه الهام "تجارب الأمم" المطبوع في طهران بتحقيق وتقديم أبي القاسم إمامي. وقد عاش مسكويه قرناً كاملاً (320-421هـ) واعتمد على الطبري بصورة واسعة، كما اعتمد على مشاهداته وتجاربه في حياته الطويلة، واطلاعه على علوم العصر من فلسفة وأديان وحديث ورواية.
    ويمثل مسكويه خطوة متقدمة في الكتابة التاريخية الموضوعية، فإنه على الرغم من معاصرة السلاطين والوزراء البويهيين لا نجده يمدحهم أو يتملقهم في كتاباته. ولم يظهر ميلاً إلى تيار أو ملك أو اتجاه، بل حاول أن يرصد عصره ويحلل أحداثه بعقلانية، إلى درجة أنه لقّب بالمعلم الثالث نظراً لتمكنه من الفكر الفلسفي والإفادة منه في الكتابة التاريخية.
ويمكن تلخيص ملامح المنهج التاريخي لدى مسكويه على النحو التالي:
ـ التاريخ أحداث يمكن أن يستفيد منها الإنسان في أمور تتكرر ، أو يمكن أن تحدث مستقبلاً .
ـ أمور الدنيا متشابهة في الإطار العام وعلى الإنسان تجربتها .
ـ مقارنة الماضي بالحاضر للإفادة من خبرات الماضي .
ـ ضرورة غربلة الأخبار من الأساطير والأسمار والمعجزات .
ـ محاولة تفسير أحداث التاريخ وفق منهج علمي تجريبي قائم على الحذر في تلقي الروايات ، والدقة في تحليلها .
ـ استفاد مسكويه من فكره الفلسفي في تفسير التاريخ . فهو بذلك أول من بدأ فلسفة التاريخ .
ـ مسكويه موضوعي لا ينطلق من تصور مسبق . وحيادي في قراءة مصادره والإفادة منها .
ـ يعتبر كتابه : " تجارب الأمم " من أهم المراجع التاريخية لأنه سجل حي لأحداث القرن الرابع الهجري. وقد سجل مسكويه تلك الأحداث من أصحابها وقام بتفسيرها على أساس الاستدلال الفلسفي الواعي، والنظرة العملية، والذهن البنّاء المنظم، والنظرة المحايدة.
      ونلمح أثر هذا المنهج بصور مختلفة لدى المؤرخين المسلمين الذين أتوا في العصور اللاحقة مثل رشيد الدين فضل الله (ت 718هـ) وهو صاحب كتاب "جامع التواريخ" وابن خلدون والسخاوي والمقريزي وبعض مؤرخي الأندلس ممن سوف نتوقف عندهم.
        وقد اعتمدت نشأة علم التاريخ في الأندلس على تأثيرات مشرقية، وتبرز لدينا في الأندلس أسماء هامة تراكمت لديها خبرات أخذت تتبلور مع الزمن. ومن هذه الأسماء عبد الملك بن حبيب وأبناء الرازي، وابن القوطية وعريب بن سعد. ثم تغدو الكتابة التاريخية أكثر نضوجاً وأرسخ قدماً لدى أبي مروان بن حيان صاحب المقتبس. وابن حزم العلامة الموسوعي صاحب الجمهرة والفصل، ثم ابن صاحب الصلاة، وبني سعيد في كتابيهم الموسوعيين "المُغرب" و"المُشرق"، وسواهم. (15)
       وحينما نصل إلى القرن الثامن الهجري" الرابع عشر الميلادي"تكون الكتابة في علم التاريخ قد بلغت أوجها لدى ابن الخطيب العلامة الموسوعي، وابن خلدون صاحب فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
*            *            *
ونتوقف قليلاً عند المنهج التاريخي لدى لسان ابن الخطيب في كتبه التاريخية المختلفة، وبخاصة الإحاطة في أخبار غرناطة (16) واللمحة البدرية(17) ونفاضة الجراب (18).
وتبدو أبرز عناصر منهجه التاريخي في الملاحظات التالية:
-التاريخ فـنٌ غايته نقل الأخبار.
2-الفن التاريخي مأرب البشر ووسيلة ......... النشر، يعرفون به أنسابهم في ذلك شرعاً وطبعاً ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والرفيه، ويرى العاقل من تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره ويشفيه...." (19)
       وهكذا فالتاريخ معرفة الماضي للإفادة منها في رؤية الحاضر.
3-التاريخ لدى ابن الخطيب ليس مجرد نقل للأحداث السياسية وسيَر الملوك والسلاطين، بل هو تصوير للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية بما تشمله هذه الحياة من رقي وازدهار، أو تخلف وتدهور. وهو في ذلك يتابع التفاصيل الدقيقة للموضوع الذي يتحدث عنه.
يتحدث في الرحلة الأندلسية" خطرة الطيف" عن مشهد استقبال السلطان من قبل سكان إحدى المناطق في وادي فرذش، فيقول:
"واستقبلتنا البلدة حرسها الله- نادى بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال برباتها والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها والمنازل بدورها، فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب، وتدافع البدور بالصدور، بيضاً كأسراب الحمام،...."
ثم يقول:" واختلط النساء بالرجال، والتقى أرباب الحجا بربات الجمال..ز فلم نفرق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين البنود حمر الخدود....
       ويلاحظ هنا دقة ابن الخطيب، كما يلاحظ وصفه للحياة الاجتماعية التي يظهر فيها النساء والرجال. كما يشير في مكان آخر إلى وجود رعايا مسيحيين في مملكة غرناطة خرجوا لاستقبال السلطان وهم يتمتعون بكامل حقوقهم.
4-يركز ابن الخطيب على الوصف الجغرافي للأماكن التي يتحدث عنها ويجعل هذا الوصف مدخلاً لبحثه التاريخي. وهذا ما فعله في حديثه عن غرناطة في مقدمة كتابه"الإحاطة" وكذلك في كتابه "نفاضة الجراب" حينما يصف الأماكن التي زارها. ومن ذلك حديثه عن مدينة أغمات في كتاب "نفاضة الجراب" حيث يقول:
"ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل موطأ لا نشز فيه، ينال جميعه السقي الرغد، وسورها محمر الترب، مندمل الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذوب الثلج، منيعة البناء، مسجدها عتيق عادي، كبير الساحة، ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض..." (20).
5-يحترم ابن الخطيب التسلسل الزمني بدقة وموضوعية، شان المؤرخين المحترمين، فهو يستعرض الدول ونشوءها وسقوطها استعراضاً تاريخياً دقيقاً، ولا يقرب دولة لشرفها أو مكانتها كالأدارسة مثلاً. وقد فعل سواه ذلك تقرباً لسلاطين عصرهم.
6-يدأب ابن الخطيب على ذكر مصادر معلوماته، ويحرص على ذكر المؤرخين السابقين باحترام. وقد أورد من الأسماء ما يشير إلى سعة إطلاع وعمق معرفته. فهو يذكر في مقدمة الإحاطة الكتب التي اطلع عليها كتواريخ للمدن أراد أن ينافسها في كتابه "الإحاطة" ومن ذلك على سبيل المثال: تاريخ بخارى لأبي عبد الله الفخار، وتاريخ أصبهان لصاحب الحلية، وتاريخ همذان لغنا خسرو الديلمي،.... وتاريخ الرقّة للقشيري، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ الإسكندرية لوجيه الدين الشافعي، وتاريخ مكة للأزرقي... الخ.
       إن ذكر هذه الأسماء دليل على سعة المعرفة، وأمانة النقل، واحترام الرأي الآخر.
7-حرص على الاستعانة بالمعلومات من مصادرها القريبة. ومن ذلك طلبه من صديقه سفير قشتالة يوسف بن وقارق معلومات عن تاريخ الممالك النصرانية: قشتالة وأراغون والبرتغال وذلك لتكون معلوماته موثقة ومستندة إلى مراجعها (21).
8-اعتماده على مشاهداته من النقوش والكتابات على العمائر والأضرحة والمنشآت المختلفة، وتوثيق تلك النقوش والكتابات والإفادة منها في مادته التاريخية.
9-أخلاقيته العالية في منهجه التاريخي، وصدقه وموضوعيته ومثال ذلك رسالته التي نصح فيها الملك القشتالي بدرو القاسي، وقد أوردها المستشرقون الأسبان كشاهد على أخلاقية ابن الخطيب. وقد أورد الحادثة المؤرخ الأسباني المعاصر دي إيالا. ووصفها المؤرخ "جاريباي" بأنها قيم أخلاقية جاءت من هذا المسلم ابن الخطيب، وهي تفوق في قيمها ما كتبه سينكا وغيره من فلاسفة الرواقيين الأقدمين(22).
10-مزج ابن الخطيب بين التاريخ والجغرافية والرحلات في إطار من النثر الفني الرشيق والبليغ. بحيث جاءت كتاباته التاريخية يغلب عليها الطابع الأدبي والسجع اللطيف.
هذه الملاحظات العشر هي التي تميز المنهج التاريخي لابن الخطيب ويمكن مقارنتها مع مؤرخين آخرين أحدهما من القرن الرابع الهجري هو مسكويه. والآخر معاصر لابن الخطيب وهو شيخ المؤرخين العرب ابن خلدون.
وتقوم عناصر المنهج التاريخي عند ابن خلدون على الملاحظات الموجزة التالية(23):
1-    التاريخ علم
2-     محتويات التاريخ والفكرة عنها
3-    العناصر التي تجتمع لصنع التاريخ البشري
4-    قوانين التاريخ
5-    التاريخ علم فلسفي عند ابن خلدون(والفلسفة كل ما ليس له صفة دينية)
6- التاريخ عند ابن خلدون أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها ..
7-    ابن خلدون يدحض الأساطير
8-    ابن خلدون يضع القواعد اللازمة لمقارنة الحقيقة
9-    النقد التاريخي عند ابن خلدون يبدو في:
-       تبدل الأحوال بتبدل الأيام.
-       وحدة النفسية الاجتماعية
-       ظروف الأقاليم الجغرافية
-       التاريخ الحضاري البشري
أما منهج البحث التاريخي عند ابن خلدون فيعتمد على :
-       ملاحظة ظواهر الاجتماع لدى الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
-       تعقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره
-       تعقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم يتح الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
-       الموازنة بين هذه الظواهر جميعاً.
-  التأمل في مختلف الظواهر للوقوف على طبائعها وعناصرها الذاتية وصفاتها العرضية واستخلاص قانون تخضع له هذه الظواهر في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
ويرى ابن خلدون في مقدمته :
1- ان دراسة التاريخ ضرورية لمعرفة أحوال الأمم وتطور هذه الأحوال بفعل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
2- يركز ابن خلدون على موضوع الاستبداد والبطش الذي يقوم به السلطان ضد شعبه وأثر ذلك في الشعب.
3- يشرح ابن خلدون كيف أن بعض السلاطين ينافسون رعيتهم في الكسب والتجارة . ويسخرون القوانين لخدمة مصالحهم الخاصة وتسلطهم على أموال الناس، وإطلاق يد الجند في الأموال العامة مما يرسخ الشعور بالظلم والإحساس بالحقد لدى الشعب .
4- يوضح ابن خلدون أن هذه العوامل الداخلية هي التي تؤدي إلى الخلل في أحوال الدولة أكثر من العوامل الخارجية .لأن المجتمع الذي يعاني من خلل داخلي لا يستطيع مجابهة عدو خارجي.
5- تمكن ابن خلدون من الربط الدقيق بين العوامل الاقتصادية سابقاً بذلك مفكرين أوروبيين بعدة قرون
6- استوعب ابن خلدون الإرهاصات السابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي والماوردي والغزالي وإخوان الصفا والطرطوشي ومسكويه وسواهم. وصاغ من كل ذلك نظريته الناضجة في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
7-  يتضح من قراءة مقدمة ابن خلدون فهمه لفلسفة التاريخ من خلال ثلاث نقاط أساسية:
-       الأولى : أن التاريخ علم، وليس مجرد سرد أخبار بلا تدقيق ولا تمحيص.
-  الثانية : أن هذا العلم ليس منفصلاً عن العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والعمران وعلوم الدين والأدب والفن.
-       الثالثة : أن هذا العلم يخضع لقوانين تنتظم بموجبها أحوال الدول من قوة وضعف، ورفعة وانحلال.
وقد طبق ابن خلدون هذه النظرية على كتابه "العبر" في سرده للأحداث والتعليق عليها وتحليل نتائجها.
8-  يرى ابن خلدون أن الظلم مؤذن بخراب العمران، ويعدد أشكال هذا الظلم من اعتداء على الناس، وتضييق على حرياتهم، وسلب أموالهم، وإضعاف فرص معاشهم وتحصيل رزقهم. والعمران يفسد بفساد العوامل التي تصنعه، والفساد يؤدي إلى الخراب.
9- إن الفساد يؤدي إلى هرم الدولة وشيخوختها. والهرم من الأمراض المزمنة التي قد تكون طبيعية مع عمر الدول والأفراد.
وقد تكون طارئة بفعل تفاقم الظلم والفساد والعدوان.
10- كان ابن خلدون على قدر كبير من الموضوعية والحياد العلمي في قراءته لأحداث  التاريخ وتفسيرها رغم صعوبة الحياد في عصره.
واستمراراً لمنهج ابن خلدون وتطويراً له، ودخولاً في التفاصيل الدقيقة يأتي المقريزي في وقت غدت فيه القاهرة مركز العالم الإسلامي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً أيام حكم المماليك . وفي القاهرة ولد المقريزي لأسرة أصلها من بعلبك. ويذكر أنه كان سعيداً بولادته وعيشه في القاهرة (24) وقد ترك عدداً من الكتابات التاريخية الفائقة الأهمية مثل:
- السلوك لمعرفة دول الملوك
- اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا
- عقد جواهر الأسفاط في تاريخ مدينة الفسطاط.
- المواعظ والاعتبار (المعروف باسم خطط المقريزي).
- إغاثة الأمة بكشف الغمة.
وقد أفاد المقريزي من تجارب حياته العملية كاتباً في ديوان الانشاء وقاضياً وخطيباً . كما أفاد من اطلاعه الواسع على الكتابات التاريخية السابقة وبخاصة ابن خلدون.
ولعل أهم ما يميزه :
1- الموضوعية والأمانة التاريخية في السرد والعرض.(25)
2- وتنبثق عن الموضوعية صفة العفة والأخلاق الرفيعة والترفع عن الإساءة إلى الآخرين.
3- التدقيق والتقصي والتحقيق والتعليل (26)
4- الدخول في التفاصيل الدقيقة : أحوال النيل – الحياة اليومية – الفساد – الرشوة – الغلاء – إغراق الأسواق بالنقود.
5- التركيز على الموضوع وعدم الاستطراد، وعدم الخروج على الموضوع .
6- الحيادية تجاه الحكام وعدم مداهنتهم والتقرب إليهم .
- التنبه إلى ربط حركة التاريخ بالعوامل الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة وانتقال أموال وتوزيع ثروات واقطاعات (27)
- رصد كثير من الظواهر الاجتماعية بدقة : شهادة الزور، الزنا، اللواط، الفسوق، الخمر.
*             *              *
والآن نخلص إلى بعض الملاحظات العامة والاستنتاجات التي تشمل مراحل تطور الكتابات التاريخية عند العرب:
1-  ان الفكر العربي التاريخي اتجه أساساً إلى سرد الوقائع والأحداث من خلال الرصد أو الرواية المسندة، مستفيداً من علم الحديث.
2-  إن كلمة "التاريخ" تعني في المعجم الغاية والوقت الذي ينتهي إليه كل شيء. وبذلك يتصل المعنى بحركة الزمن المرصودة وليس بالحكاية الاسطورية التي تشير إليها كلمة History  باللغات الأوروبية.
3-  الغاية النبيلة من كتابة التاريخ كعلم، ويندرج ذلك في إطار العلوم جميعاً كعمل يتقرب به صاحبه إلى الله وكأنه شكل من أشكال العبادة، وليس عملاً نفعياً يتوخى مصلحة آنية.
4-     سرد الروايات القديمة بصورة حيادية وترك التعليق عليها وإلقاء مسؤولية روايتها على من أسندت إليه.
5-  الاعتراف بالآخر وعرضه بموضوعية إلى حد بعيد وعدم إلغاء من يخالف الرأي أو الدين أو المذهب أو العرق.
6-  يلاحظ في الدراسات التاريخية الحديثة والمعاصرة تأثر المؤرخين العرب بالمدارس القومية أو الماركسية أو العلمانية أو الليبرالية أو البراغماتية . وهم في أغلب الأحيان متأثرون بالعوامل السياسية الضاغطة بصورة أو بأخرى.
7-     بروز التخصصات الدقيقة في الدراسات التاريخية :
-       قديمة – حديثة
-       مشرقية – أندلسية
-       حضارات: مصر القديمة، بابل، بلاد الشام، المغرب
-       الحركات الإسلامية – الشعوبية
-       تاريخ الأدب
-       التاريخ الاجتماعي
-       علم الآثار
-       التراث غير المادي
8-     محاولة إظهار جانب العبقرية لدى المؤرخين العرب، وبيان مدى تأثر المؤرخين الغربيين بهم.
9-     اللجوء إلى صفحات التاريخ المشرقة هرباً من الإحباط المتلاحق الذي يعيشه العرب اليوم.