حول الكتاب
منذ لحظة ديكارت، أصبح الكثيرون من المفكرين يؤمنون بإمكانات العقل في تفسير الطبيعة وما بعد الطبيعة، وفي قدرته على أن يبلغ الحقيقة، ويصبح معياراً للحياة الإنسانية. وهذا ما عبّر عنه المفكرون العرب في حديثهم عن العقل وبخاصة محمد عابد الجابري، وعبدالله العروي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد.
ومنذ لحظة ابن خلدون غدا الكثيرون من المفكرين يؤمنون أن مفهوم العصبية، كقاعدة للاجتماع الأهلي قادر على تفسير الإشكالات التي تثيرها المجتمعات العربية في ممارستها للحكم والحاكم، والسلطة والتسلط. ومنذ لحظة ابن سينا الذي تحدث عن النفس، وانعطافة فرويد الذي أوضح أن حقيقة النفس تكمن في جانبها اللاواعي، وليس في جانبها الواعي، والتفسيرات تتوالى ساعية لفهم العقل العربي، والاجتماع العربي، والنفسية العربية.
في كتاب مصطفى صفوان المحلل النفسي المصري، وعدنان حب الله عالم النفس اللبناني «إشكاليات المجتمع العربي - قراءة من منظور التحليل النفسي» الصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت، محاولة لإعمال مفاهيم علم النفس في سبر الشخصية العربية في أبعادها الدينية والسياسية والاجتماعية.
ولا شك في أن لقاء العالمين المصري واللبناني على حوار حول الكثير من القضايا يعتبر فرصة مميزة لإجلاء أبعاد هذه القضايا من منظور التحليل النفسي، وبخاصة أن اللذين يحاولان إجلاءها أستاذان كبيران. فمصطفى صفوان ترك مصر أثناء حكم عبدالناصر والتحق بجامعة باريس، وكان من مؤسسي المدرسة الفرويدية الباريسية التي تمحورت حول جاك لاكان. أما عدنان حب الله فهو من كبار محللي علم النفس في لبنان. يعتبر المحلل النفسي اللبناني عدنان حب الله أن ظهور التحليل النفسي ترافق مع نشوء الخطاب العلمي في آخر القرن التاسع عشر في أوروبا. ذلك أن موضوع التحليل هو الذاتية الديكارتية التي تبدو كما ركّز عليها جاك لاكان منقسمة، منذ أن أصبح الوجود مرهوناً بالكلام. والتحليل النفسي مبني على علاقة الفرد بنفسه، الأمر الذي تفتقده الثقافة العربية التي تهمّش الفرد أمام الجماعة كما يوضح حب الله. والمجتمعات التي يسيطر عليها الخطاب الديني لا تشعر بالحاجة الى علم النفس، لأن الدين حلاّل لكل المشكلات، ولأن البنية الاجتماعية الريفية لا تستدعي ظهور «أوديب».
أما مصطفى صفوان فيرى أن مفهوم اللاوعي الذي تقوم عليه الحقيقة النفسية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة التحليلية، وهذا ما يصدم لأن معرفة الغيب هي من خصوصية المعرفة الدينية.
ويضيف مصطفى صفوان أن الدين عكس ما يُظن لا يعادي التحليل النفسي، وليس هو المسؤول عن غيابه في البلدان العربية. لكن من يعاديه هو الدولة التي استولت على الدين واستخدمته لأغراضها، والدليل أن الدولة هي التي تعيّن شيخ الأزهر والقضاة وأهل الفقه في مصر.
ويذكر عدنان حب الله من جهته، أن الفرويدية اعتمدت على المنطق في انطلاقتها في التحليل النفسي. وأساس هذا المنطق الفصل بين الوجود الإنساني والوجود السماوي، وبذلك صارت الحقيقة تتظهّر بالكشف عن اللاوعي من خلال النطق، في التحليل النفسي، أما في المجال الديني فالحقيقة محتومة. في مجال آخر، يعالج عالما النفس صفوان وحب الله عولمة المتعة، وعولمة العنف. عولمة المتعة تظهر في أنك على ما يقول حب الله إذا كنت من نزلاء فنادق شركة هيلتون وانتقلت من بلد الى آخر، ترى نفسك في الديكور نفسه، وفي الظروف نفسها التي توفر الاستهلاك والرفاهية، وهي باختصار عولمة المتعة.
أما صفوان فيرى أن هناك عولمة وكذلك تشــبّه بالنموذج الحضاري للإنسان الأميركي، الذي يتمتع بمستوى عالٍ من الدخل يسمح له باقتناء المعطيات التكنولوجية والصناعية (سيارة، برّاد، هاتف جوال، كومبيوتر) الأمر الذي لا يُسمح به لمعظم الناس في الدول المتخلّفة. هناك إذاً عولمة كما يقول صفوان والى جانبها احتكار، من هنا ينبع العنف، المبني على العولمة ليس بما هي عولمة، ولكن بما أفرزته هذه الــعولمة من احــتكار للمتعة. لعل التزاحم على استقطاب المتعة الحقيقية واحتكارها لا يتمان إلا بامتلاك الدولار في الجيب.
وامتلاك الدولار يبقى التنعّم في الجيب على اعتبار أن التنعّم ملذة دائمة. أما المحرومون منه في العالم العربي فما لهم سوى العنف. يكتب مصطفى صفوان في هذا السياق، أنّ إذا كانت ظاهرة العنف بارزة في العالم العربي، فلأن شعبه في حالة حرمان، وثانياً لأن أكثر زعمائه خونة، ولأن شعوبهم تربّت على ثقافة سياسية لا تفتح مجالاً للمعارض. ولا يبقى للمعارضة أن تعارض إلا من طريق الحقوق الدينية والمسلمون استغلوا هذا الموقف الى آخر المدى.
ويكتب عدنان حب الله في هذا السياق: «هناك أيضاً إضافة الى ذلك عامل الاستعمار في أشكاله المتعددة العسكرية والاقتصادية وحتى الثقافية، وهناك أيضاً إسرائيل ومعتقداتها الدينية، التي تغذي العنف الديني، لأنها قامت على أسس دينية». إن التناقض بين سعي النموذج الأميركي لعولمة العالم على طريقته، والخصوصية التي تسعى الشعوب العربية الى الحفاظ عليها من خلال حفاظها على هويتها ودينها، ليس صراع حضارات كما يرى عدنان صفوان، وإنما هو صراع القوي والضعيف، الذي تتوقف عليه كل أوجه الحياة بما فيها الوجه الحضاري والثقافي والمعتقدي. ه
نالك أمر مهم على ما يقول صفوان. فالقوة نراها ليس فقط في القوة العسكرية، وإنما بامتلاكها الخطاب العلمي الذي يفتقر إليه العرب الذين يواجهون أزمة بالنسبة الى تخلّفهم في هذا المجال، فهم غير قادرين على صنع سيارة أو هاتف جوال. فالعلم كرّس نفسه لخدمة القويّ منذ اليوم الأول. والقوي اليوم هو الأميركي الذي يملك العلم، والإنتاج والقوة.
أما العربي فأمامه خياران: إما أن يدخل سوق الاستهلاك ويتخلى عن ثقافته وهويته، وإما أن ينتفض ويثور ويلجأ الى العنف. يعتبر عدنان حب الله أن تجربة الحكم عند العرب منذ معاوية قامت على انتقال السلطة من خليفة الى آخر من طريق الوراثة، أما بعد الحرب العالمية الأولى وبزوغ عهد النهضة فحصلت معرفة جديدة لم تكن موجودة في السابق، وهي أن هناك نظاماً ديموقراطياً يدير شؤون الشعب بنمط من الحرية يسمح بانتقال السلطة من طريق الاستفتاء الشعبي من دون أن تلغي ما كان قبلها.
لكن الملاحظ كما يوضح عالم النفس اللبناني أن هذه المعرفة بوجود الديموقراطية لم تدخل بعد الى نفوس المجتمع العربي كي تخلق مواطناً مسؤولاً ومُسائِلاً. وكيف تدخل الديموقراطية المجتمع العربي أو كيف يلصق نظام جديد، غريب عن سياق تاريخ لم يبزغ من مخاض ثقافي يجد الفرد العربي نفسه فيه. الإسلام في جوهره كما يشرح عدنان حب الله هو عدالة ومساواة وأخوّة، والرابط بين المسلم والمسلم هو رابط أخوة ومساواة يدعو الى الجماعة والاجتماع وينبذ الفردية التي قام عليها النظام الديموقراطي في الغرب.
فكل التعاليم الثقافية الموروثة تشير الى هذا الاتجاه. والبناء يشير الى تلاحم الداخل بالخارج، الى التجمّع العائلي، الزواريب تصب في الساحة ملتقى الأفراد - والصلاة الجماعية أعلى رتبة من الصلاة الفردية. الجامع، الجمعة، الجماعة ألفاظ معبرة تشير الى فلسفة اجتماعية تقدم الذات الجماعية على الذات الفردية. حتى الثروات كلها بحسب عالم النفس اللبناني تفقد قيمتها إن كانت فردية.
خلافاً لما يحصل في الفكر الغربي الذي يركّز على المتعة الفردية والنجاح الفردي والبطولة الفردية.
رابط التحميل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق