اتجاهات
فلسفة التاريخ المعاصرة
الاتجاه
المادي الماركسي
منذ
بدء
القرن العشرين أخذت الماركسية تتحول إلى حركة فكرية وسياسية أيديولوجية كبرى خيمت
بظلها على واقع القرن العشرين فما
إن تصرمت الثلاثة العقود الأولى من القرن حتى غدت الماركسية العقيدة التي لم يشهد
التاريخ الحديث مثيلا لها، إذ انتشرت في أواسط الملايين من البشر المؤمنين بتعاليمها من
روسيا ومنغوليا إلى فرنسا وألمانيا واسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، من
المستعمرات المتخلفة في الصين والهند والشرق إلى عموم الدول الرأسمالية المتقدمة
في الغرب كانت الجموع ترفع الرايات الحمراء وتخوض الثورات والاضطرابات والمظاهرات
والحروب وتشكل
النقابات والاتحادات والأحزاب تحت شعار "يا عمال العالم اتحدوا" مع
الماركسية تجددت أمال البشر في العدالة والمساواة والحرية والانعتاق من التفاوت
الطبقي والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير.
نشير
إلى هذا الحضور الطاغي للايدولوجيا الماركسية في النصف الأول من القرن
العشرين لغرض بيان تلك الظاهرة المثيرة التي لم يشهد تاريخ الأفكار مثيلاً لها،
تحول الفلسفة إلى أيديولوجيا([1]) تبعث
الحماسة وتحرك ملايين الناس، وهذا ما كان يبشر به نيتشه حينما أكد أن مهمة إدارة الأرض ستؤول
للبشر- قائلاً "ليس ببعيد ذلك الزمن الذي يجب علينا إن نناضل فيه من اجل السيطرة على الأرض،
وسيقاد هذا النضال باسم المبادئ الفلسفية"([2]).
وإذا
كان ماركس قد تحول إلى صفة لحركة ثقافية كبرى في التاريخ المعاصر، إلا إن
الماركسية لم تستطع المحافظة على وحدتها الفكرية والأيديولوجية، بل أخذت منذ
الأربعينات من هذا القرن تتشظى وتنقسم على نفسها إلى عدد من المسارات المتنوعة: اللينينية،
الستالينية، اللوكاتشية، والماركسية الإنسانية، والماركسية النقدية والماركسية
البنيوية... الخ هذا أضافةً إلى ذلك التأثير الذي مارسته الماركسية- ماركسية ماركس
خاصةً- على مختلف الاتجاهات الفلسفية المعاصرة، كالوجودية، والتحليل النفسي ومدارس
علم الاجتماع المعاصر، حتى ما بعد البنيوية عند جاك دريدا في "أطياف
ماركس"([3]) واوليفين
توفلر في "الموجة الثالثة"(*).
وإذا
كان يصعب الاحاطة بكل هذا المدى المفتوح فإننا نشير إلى ابرز من مثل الاتجاه
الماركسي في فلسفة التاريخ أمثال الماركسي الروسي (جيورجي فالينتنوفيش بليخانوف
1856-1918 (في
تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ)
عام 1895 و(المادية
المقاتلة)
1907، و(ودور
العنف في التاريخ)
والفيلسوف الإيطالي جورج لوكاتش (1885-1917م) في (التاريخ والوعي الطبقي) و(تحطيم العقل) و(معنى الواقعية المعاصرة) و
(الرواية التاريخية) ويصعب الاتفاق مع الرأي والموقف الذي تشكل على مدى السنوات
الماضية ضد الماركسية واليسار عامة الذي يجمع كل الطيف الفكري الشديد التنوع
والاختلاف في حيز الماركسية المدانة، الذي لا يميز بين الماركسية المجسدة
(الستالينية) وبين الماركسية فلسفة في بعدها الثقافي الإنساني، وإذا ما نظرنا بعين
النقد المنصف إلى الفكرة الأساس التي انطلقت منها الماركسية في تفسير التاريخ لا
تضح لنا أنها تحمل معاني إنسانية لا احد يستطيع إنكارها، لقد كانت الفكرة التي
انطلق منها ماركس بعد إن حلل علاقات الإنتاج الرأسمالية في عصره، هي إن الأفراد قد
انطلقوا، وينطلقون على
الدوام من أنفسهم، وان علاقاتهم هي علاقات حياتهم الواقعية، كيف يحدث إن علاقاتهم
تتخذ وجوداً مستقلا ضدهم.. وان قوى حياتهم الخاصة تسيطر عليهم(*) وتكمن
أصالة ماركس في انه قد جعل العمل وحرمانه وكرامته التامة في صميم تأمله، ووقف ضد
تحويل العمل إلى سلعة، والعامل إلى غرض ويرى كامو "أننا مدينون له بهذه
الفكرة التي تسبب يأس عصرنا، والقائلة حينما يكون العمل حرماناً فليس بالحياة، مع
انه يغطي كل أيام الحياة"([4]).
وقد
صارت الماركسية مرتبطة دون فكاك بالمادية، بسبب سوء الظن، إذ ظن الكثير من الماركسين إن
ماركس نفسه اعتقد بأن الأفكار تتحدد على نحو ميكانيكي بواسطة البيئة المادية وقد أدى
ذلك بهم إلى تأكيد أن كل شروط حياتنا المادية والمعنوية تتغير وتتطور حتما خلال
التاريخ، وان تلك العملية تدفعها القاطرة المادية للاقتصاد، وقد اعتقد هؤلاء بأن
نوع النظام الاقتصادي الذي يعيش في ظله المرء، وان الموقع الذي يحتله هذا الفرد
داخل هذا النظام يحددان وعيه.
لقد اخذ
بليخانوف فكرة ماركس القائلة "بان وجود الناس الاجتماعي الاقتصادي هو الذي
يحدد وعيهم وليس العكس([5]) آخذ هذه الفكرة منتزعة من سياقها
ليبني عليها فلسفته المادية الحتمية الصارمة، إذ خدمت الصدفة وعوامل أخرى
كثيرة
بليخانوف حتى غدا في القرن العشرين الممثل الأبرز للمادية التاريخية والمصدر الأساس في فلسفة
التاريخ الماركسية، إذ كتب يقول: "إن المادية هي النقيض المباشر للمثالية،
ذلك لأنها تفسر الظواهر النفسية بالرجوع إلى الخواص المادية"([6]). ويرى انه من وجهة نظر فلسفة
التاريخ بدأت حياة المجتمع تتغير على وفق مسار تطور قواه المنتخبة، وليس الإنسان
الفرد في نظره سوى زبد فوق قمة الموج والفرد لا يقود المجتمع ولا يصنع التاريخ بل
إن حتمية المنطق التاريخي هي التي توجه الرجال المناسبين للقيادة في الوقت المناسب"([7]).
وفي
هذا السياق يكتب لوكاش "إن فحوى التاريخ الموضوعية واتجاهه الحقيقي هما
اللذان يحددان سجية الأشخاص العاملين تاريخياً وهل هي بطولية أم مشينة"([8]).
على وفق
منطلق الحتمية التاريخية المادية، يسير التاريخ في حركة ديالكتيكية من البسيط إلى
المعقد ومن الأدنى إلى الأعلى ومن الاقتصاد إلى الفكر، وان البنية التحتية هي التي
تحدد بنيتها الفوقية،
والبنية
التحتية هي القوى المنتجة
والبنية الفوقية هي العلاقات الاجتماعية والنظام الأيديولوجي، وقد عرف التاريخ على
وفق هذا
التحديد الصارم خمسة تشكيلات اقتصادية اجتماعية، أو أنظمة إنتاج وعلاقات بدأت في
المرحلة المشاعية البدائية ما قبل التاريخ، وستنتهي في المرحلة ما بعد الرأسمالية،
الشيوعية ما بعد التاريخ، والتاريخ يسير في تقدم حتمي على وفق القوانين الكلية
الثابتة إلى خاتمته المنشودة ومعنى التاريخ هو الصراع بين علاقات الإنتاج والقوى
المنتجة،
بين العبيد والملاك، بين الأغنياء والفقراء بين العمال وأصحاب العمل، والعنف
الثوري هو دينامو
التاريخ وجوهره الأساس، وبظهور الملكية الخاصة والدولة ظهر الصراع وبدا التاريخ
وباختفاء
الملكية الخاصة وزوال الطبقات تزول الدولة وينتهي التاريخ، على هذا النحو تحول
التاريخ عند أحفاد ماركس إلى عقيدة مقدسة وأصبح وثناً من الأوثان تدعو الى من يضحي
من اجلها وفي وسعها دائما إن يتسوغ سلوك طاغية من الطغاة، وان الماركسية في أحد وجوهها عقيدة إثم فيما يخص
الإنسان وعقيدة براءة فيما يخص التاريخ، إذ تم تقديس التاريخ ومنحة صفات الآلهة،
القدرة والرحمة والضرورة والحتمية والخلاص والانتقام والحفظ والحكم والشهادة(*)...
الخ وبدا وكأن فلسفة التاريخ الماركسية قد قلبت وجهه النظر المسيحية القائلة
بالعناية الربانية، فما كان في نظر المسيحي المشروع الإلهي السرمدي يصبح في نظر
الماركسية تقدماً جدلياً للتاريخ ولكن الثابت في الحالين هو الاعتقاد بوجود نية
متعالية عن إرادة الإنسان تعمل وتوجه
التاريخ وتدفعه نحو خلاصه، نحو أنجاز طبيعته انجازاً كاملاً، وإذا كان المطلق في
المسيحية هو إرادة
الله والتاريخ يسير على وفق هذه الإرادة، فان المطلق في الماركسية هو التاريخ ذاته الذي
يضحي مقياس كل شي، مقياساً
العادل والظالم، الخير والشر، وان خدمته بإخلاص هي أفضل تعبير عن الحرية. إن العصر
الذهبي المرجو إلى نهاية التاريخ، المتطابق مع الرؤيا الماركسية، يسوغ أذن كل شي،
وبمقدار ما تنبأ الماركسيون بالتحقق الحتمي للمجتمع السعيد القادم(*). بمقدار ما اثبتوا أذن حسن نية
التاريخ، كما لاحظنا عند لوكاش وبليخانوف، وهذا يعني إرجاع كل تأخير في
السير أو عرقلة في التقدم والتطور إلى سوء نية الإنسان الذي خان التاريخ وعلى
التاريخ أن يعاقبه بحشره
في مزبلة(**) التاريخ التي لا ترحم الخونة. لقد
كان لهذه الأسطورة الفلسفية نتائج فاجعة على ايدى ذرية ماركس في القرن العشرين
الذين لم يخامرهم الشك بان ثورتهم وعملهم وحياتهم وكل حركة من حركاتهم تسير بخطى
متناغمة مع الضرورة التاريخية معتقدين اعتقاداً راسخاً بأنهم ليسوا إلا أدوات
للتعبير عن مشيئة التاريخ ومجراه الحتمي. لقداستشهد بليخانوف بموقف احد
المؤمنين الماركسين بقوله:- كم
هو مؤثر ذلك اليأس الذي كان يسيطر في بعض الأوقات على أكثر الأذهان
"المثالية" ذكاء ونبلا أمثال "جورج بوخنر" الذي كتب خطاباً
لخطيبته! "منذ
بضعة أيام وانا
أمسك
بقلمي في كل لحظة ولكني لا أستطيع إن اكتب كلمة لقد كتبت دورس تاريخ الثورة فأحسست
بنفسي وكأنما تسحقها جبرية التاريخ الرهيبة... ليس العظمة سوى صدفة، وليست سلطة
العبقري سوى مسرحية عرائس، سوى محاولة مضحكة لمحاربة قانون حديدي يمكن معرفته على أحسن
فرض ولكن من المستحيل إخضاعه لإرادة المرء([9]). وإذا
كانت الماركسية قد ظهرت في
منتصف القرن التاسع عشر على يد ماركس وانجلز فلسفة إنسانية وصرخة احتجاج ضد استلاب
الإنسان ومن اجل تحريره، تحريراً كاملاً من اغترابه المادي والأيديولوجي، مطالبة
بتحويل المجتمع تحويلاً ثورياً إذ كان ماركس يقول "إن مهمة الفلسفة ليس تفسير
العالم بل تغييره(*) هذا الطموح الراديكالي لقلب مسار التاريخ من
تاريخ قاروني إلى تاريخ اسبارتاكوسي، هو الذي يشكل جوهر حلم ماركس، لقد حلم ماركس
بتاريخ يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والعدل والجمال
للجميع، وما كان من أحفاد ماركس إلا أن حملوا نبوءة هذا الأخير محمل التحقيق
الفعلي، والزموا أنفسهم بتحقيقها من
غير مراعاة الشروط الحضارية والثقافية والمدنية التي كان يلح
ماركس على ضرورة توافرها لنجاح أي تغيير ثوري لقد عجلوا الوصول إلى نهاية التاريخ بإعلان
الثورة الاشتراكية عام 1917م والتي عدوها ضرورة تاريخية لازبة، وإذا ما انتصرت
الثورة فقد انهزم (راس المال) لماركس لأنها جاءت ضد توقعاته.
على أي
حال لقد راح أحفاد ماركس المنتصرون يغطون في سبات عميق، بعد أن منحوا كل ثقتهم لحسن
نية التاريخ وحتميته التقدمية صوب الشيوعية المنشودة، ولقد اظهروا مراسا وشكيمة
وثباتاً يحسدون عليه حينما كان يعصف القلق والشك واليأس بالآخرين الذين كانوا
يصرخون فزعاً "بأن كوكبنا يترنح" وان "التاريخ سدى" وان
الحضارة الإنسانية في خطر، والغرق جائر على الدوام.
لقد
ختم التعصب والعمأ
الأيديولوجي على أبصارهم وبصيرتهم، بحيث حال دون رؤيتهم
الحقيقة الواضحة التي ترى في التاريخ حركة مستمرة وصيرورة دائمة من جميع الجهات إلى
جميع الجهات، لقد سحرتهم رؤيا التقدم الخطى للتاريخ تلك الرؤيا المتفائلة التي ترجع إلى
عصر التنوير([10]).
لقد
فات فلاسفة التاريخ الماركسيون أمثال لوكاش الذي كان يرى قبل أن يتحرر من الوهم
الدغمائي، أن التاريخ يسير في تقدم حتمي وان العنف الثوري والصراع الطبقي يعد وقائع منطقي وعقلياً، وانه لا سبيل إلى التسوية
بين المفهوم الوجودي عن الحرية وبين الوحدة الجدلية للحرية التاريخية والضرورة
التي قررتها الماركسية([11]).
وفي
رده على
(ميرلوبونتي) يسخر لوكاش من قول (ميرلوبونتي) بـ لاحتمية التاريخ إذ يرى هذا الأخير "إن
التاريخ يقدم لنا خطوطاً
إحداثية تتطلب أن تمتد نحو المستقبل، لكنه لا يطلعنا بجلاء
هندسي على خط الإحداث الممتاز الذي سيرسم نهائيا التاريخ الراهن... يوجد في
التاريخ نوعٌ
من السحر المؤذى، انه يحدث البشر يغريهم فيظنون أنهم يسيرون في الاتجاه الذي يسير
فيه، لكنه فجأة ينعطف ويتغير الحدث ويثبت بالفعل إن شيئاً أخر كان ممكنا، ويسخر
لوكاش من (ميرلوبونتي) معلقاً: "لهذا يجد
التاريخ نفسه لدى (ميرلوبونتي) مرغما على إن يمتثل أمامنا
تحت ملامح أمرآة لعوب،
طائشة لا تقبل بالإفصاح عن
مقاصدها إلا
في اللحظة الأخيرة، وهذا أسوا أيضا في نهاية السهرة"([12]).
وصدق من قال إن اللغة الصارمة
واليقينية تخفي وراءها هشاشة لا تصدق ذلك لان محتواها فقير وبائس وخاوي الوفاض مما
ينفع الناس ويشبع الفكر ويبهج
النفس.
إن
هذه النغمة المفعمة
بالنزعة البوليسية والتعصب اللاهوتي والشيغاليفية نبرة (المفتش الكبير) تحضر بوضوح
حينما ينتقد لوكاش الكاتب التروتسكي "آرثر كوستلر" قائلا وكأنه قديس
يلعن كافراً "في الحقيقة إن مثل هذا المأجور يقصد "كوستلر" يستطيع
تماما إن يسي معاملة التاريخ بهذه الفظاظة من غير أن يدهشنا، لكن المؤسف أن ينظر سارتر هذه النظرة نفسها
إلى التاريخ، ويضيف أنهم بسبب موقفهم اللا تاريخي، يرون أن العنف لا شرعي ولكن لا
معقولية تميزهم بين الحق والعنف، هي ما يرد عليها "ماكس ﭭيبر" الذي يعرف
ماهية الحق بقوله: "يوجد الحق، حين يصل رجال ذوو خوذ حديدية لإرغام الناس على
احترامه إذا ما تجاوزا حدوده"([13]).
هكذا
دائما لا تكتفي الخرافة بمن يعبدها، بل لا بد من وجود شرطة لإرغام المخالفين، وهذا
هو ما فعلته الماركسية حينما حولت حلم ماركس إلى خرافة تستلزم العبادة والتضحية
بالمال والنفس والعرق والدم في سبيل انتصارها وحينما جاء سارتر وزملاؤه مبدين رغبتهم في إنقاذ
المادية التاريخية، من الغرق
بعد إن أصابها التحجر والجمود، كان الوقت قد فات و(لا يجد شد اللجام عندما يكون الحصان على
شفا الهاوية!) إذ
كانت الماركسية المتجسدة في "دولة العبيد الأحرار"(*) تعيش مرحلة التعفن والاضمحلال بعد
إن رانت على قلبها طبقات كثيفة
من سموم
التعصب الملائي والانغلاق
الدغمائي، إذ بدا أن
ثمة عهداً في الفلسفة السياسية على وشك أن تطوى صفحته انه عهد الماركسية اللينينية
الستالينية الذي دام أكثر من نصف قرن... وما إن يحل الربع الأخير من القرن العشرين
حتى تختفي هذه الأسطورة مثل كومة الرمل على شاطى البحر. إذ أخذت تتساقط الأنظمة
الماركسية منذ نهاية الثمانينات واحدة تلو الأخرى، ويرى أندريه جراشيف في
كتابه "إمبراطورية اللا معنى عام 1994" إن (بريجنيف) الذي
جمع أعلى منصبين في الحزب والدولة وهو على عتبة العقد الثامن من العمر، أنما كان
ينتصب شاهداً على شيخوخة النظام الذي كان قد توقف فيه نبض الحياة منذ زمن طويل،
وكان أول من حكم على النظام بالموت ولو على نار هادئة هولينين نفسه منذ إن أعلن احتكار
سلطة الدولة، أي "إخضاع الإدارة" للايدولوجيا ثم كان مقتله العنيف على
يد ستالين، وأجهز عليه بريجنيف واكتشف جوربا تشوف في جو من الم الفشل والخيانة...
إن الدور الذي أوكله إليه التاريخ لم يكن تجديد شباب النظام الماركسي بل دفن جثته"([14]) .
إذا
كانت هذه نهاية الماركسية الشمولية المادية المقاتل في الأنظمة الاشتراكية في
أوروبا الشرقية وروسيا، فان مصير "الرابطة السبارتاكوسية" بقيادة
الماركسيان "كارل ليبكنشت" و "روزا لوكسمبورج" كان فاجعاً
حينما قادا في السادس من يناير 1919م الثورة العمالية المسلحة للاستيلاء على
الحكومة الألمانية في "برلين" إذ تم الإمساك بهما بعد تسعة أيام من بدا
الثورة، وخضعاً لتحقيق وحشي وضرب مبرح من فرقة حرس الخيالة، وفي ضوء سيارة كانت
تقف منتظرة تقدم منهما احد أفراد الفرقة واسمه "راخ" ليضرب
"ليبكنشت" بمؤخرة بندقيته، وعندما سقط على الأرض، تركه وانتقل ليحطم راس
"روزا لوكسمبورج"، وفي الهرج الذي حدث بعد ذلك تم سحب الجسدين إلى
العربة المنتظرة اذ أطلق عليهما النار، ثم القى بالجثتين في قناة
"لاندوهر" وهكذا انتهى الأسبوع السبارتاكوسي([15]).
لقد
تركت هذه النهاية الوحشية أثاراً
عميقة في عقول وضمائر الماركسين الألمان، إذ فقدوا الثقة بالفكرة القديمة التي
ذهبت إلى أن النصر الاشتراكي على الرأسمالية حتمية تاريخية، أو بالاحرى هو جزء من
التاريخ من حيث هو مسار تقدم حتمي، هذه الفكرة التي تقوم عليها كل فلسفة التاريخ
الماركسية تم سحقها تحت كعب حذاء أكثر عداوة هي ثورة اليمن التي ستقود التاريخ هذه
المرة باسم نبي أخر هو نيتشه.
وكانت
الافتراضات الجوهرية للتشاؤمية الثقافية والتاريخية هي البيئة الفكرية التي نشأ
فيها ما يسمى بـ "مدرسة فرانكفورت" أو "معهد العلوم
الاجتماعية" عام 1923م والذي أسسه جماعة من المفكرين الشيوعيين أمثال
"ماكس هوركهايمر1895-1973" و"تيودور ادورنو 1903-1969" و
"هيربرت ماركيوز 1898-1979" و "اريك فروم" وغيرهم من عرفوا بالماركسية النقدية([16]) التي
كان هدفها البحث عن الجوانب
الإنسانية عند ماركس، وقد وجد منظرو الماركسية النقدية في ماركس الشاب ذخيرة نقدية
لتسويغ رؤيتهم
التشاؤمية بشان التاريخ والحضارة الحديثة وكان نيتشه هو المفكر الثاني بعد سيجموند
فرويد الذي جذب اهتمام نقاد "فرانكفورت" بل لقد تحول نيتشه معهم إلى
الشخصية المركزية في "البانثيون" الماركسي الجديد مزيحين ماركس نفسه وقد
اعترف هوركهايمر في أواخر حياته بان "نيتشه" ربما كان أعظم من
"ماركس" مفكراً"([17]).
وبعد
تجربة الحرب العالمية الأولى وصدور كتاب "شبنجلر" "أفول
الغرب"([18])* كان
التشاؤم هو المزاج الغالب، وأصبح الكلام على نهاية الحضارة الغربية طبيعيا مثل
التنفس، والموضوع الذي بقي للجدل لم يكن هو ما إذا كان الحضارة الغربية سوف تموت أم
لا، وأصبح السؤال: لماذا؟ أما الإجابة التي تبناها نقاد مدرسة فرانكفورت، فكانت
تعني التخلي عن فلسفة التاريخ الماركسية القديمة في التقدم والعقلانية العلمية
والصراع الدموي، والتوجه نحو رؤية اكثر تواضعاً وأكثر يأساً بخصوص التاريخ والتقدم
والمستقبل.
تجدر
الإشارة إلى إن تلك الصورة التي حاولنا وضع خطوطها العريضة بشان التفسير الماركسي
للتاريخ لا تغطي المشهد كله فمن المؤكد أن هناك الكثير مما يمكن دراسته في
التنويعات الثقافية الفلسفية التي تنطوي في سياق الطيف الماركسي بطريقة أو بأخرى.
وإذا
كنا قد اطلنا الحديث عن الماركسية وفلسفتها التاريخية فذلك يعود إلى أن
أهميتها ليست الفلسفية فحسب بل السياسية أيضا والأيديولوجية،
فقد كان ماركس هو الرجل الثاني في تاريخ الأفكار الفلسفية بعد أفلاطون الذي حاول الآفلات
من قبضة التاريخ القاروني الذي يدور حول محور الحرب والتجارة والاحتكار، وإذا كان
ماركس قد تمرد على التاريخ في النظرية، فان لينين هو الأخر قد حطم احتكار التاريخ
على مستوى التطبيق، والماركسية بهذا الخروج السافر العنيف على منطق التاريخ قد هزت
عروش وأثارت اخطر زوبعة فلسفية أيديولوجية علمانية في التاريخ، تاريخ القرن
العشرين، وهي بذلك قد أرغمت كل فلاسفة التاريخ المعاصر المؤيدين والرافضين على
التعاطي معها نقداً أو قدحاً، من نيتشه وشبنجلر وكروتشه وكولنجوود إلى ارنولد
توينبي وسارتر وفوكو وجارودي، وبوير وتوفلر وفوكوياما وهنتجتون، وجاك دريدا وغيرهم
جميعهم نقدوا الماركسية، وهذا ما نكشف عنه لاحقاً.
(*) اعترف الفين توفلر، انه كان متأثراً
بماركس في بداية حياته حينما كان يعمل في احد مصانع السيارات. توفلر، المصدر نفسه،
ص175. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الفيلسوف التاريخ الإنجليزي المعاصر أ.ج.
هوبزيوم الذي يرى إن أهمية ماركس تكمن في كونه بعد ابن خلدون قد حلل مفهوم التاريخ
بالعودة إلى تحليل العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وحتى الآن لم يفعل احد سواه ذلك
، هوبزيوم، دراسات في التاريخ، ص40.
(*) لقد أراد ماركس إن يبرهن في
الايدولوجيا الألمانية عام 1845 انه " في تعارض مباشر مع الفلسفة الألمانية
(فلسفة هيجل آنذاك التي تهبط من السماء إلى الأرض، تكون المسالة هنا الصعود من
الأرض إلى السماء، وهو بذلك قلب ديالكتيك هيجل الذي كان يمشي على رأسه ليجعله يسير
على قدميه يقول ماركس "إن الأطياف المتشكلة في أدمغة الناس هي أيضا بالضرورة
أشياء مصعدة من عملية حياتهم المادية فالإخلاق والميتافيزيقا والايدولوجيا بأكملها
وكذلك إشكال الوعي المناظر لها تحتفظ بمظهر الاستقلال.. فليس الوعي هو الذي يحدد
الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي. ديفيد هوكس، الايدولوجيا، ص73.
(*) يقول ارنولد توينبي في نقده الماركسية (لقد
احل ماركس الحتمية التاريخية معبوداً له محل ياهوه (نبي العبرانين) وجعل من
البروليتاريا الداخلية للعالم الغربي، شعبة المختار مقام اليهود، وجعل من
ديكتاتورية البروليتاريا مملكة المسيح بيد أن السمات المشهودة "للرؤيا
اليهودية" تبرز من خلال هذا الرداء المهلهل). توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ج2،
ص208.
(*)كان كارل ﭙوير يقول: "لم يشهد
التاريخ عقيدة علمانية مثل الماركسية تدفع ملايين الناس إلى نيران المعارك من اجل
مستقبل غير منظور"، كارل ﭙوبر، بؤس المذهب التاريخي، ص125.
(**) منذ هيجل تم تصوير التاريخ
بمثابة اله شخصي يستطيع المكر بأهله، دون أن يعلموا إن التاريخ يثأر لنفسه وعند
الماركسية أصبح التاريخ هو الذي يمتلك القوة في العقاب والحكم على أفعال البشر،
ولهذا السبب ظهرت المفاهيم خونة التاريخ، ومزبلة التاريخ، الذين رفضهم التاريخ،
ويسجل التاريخ بأحرف من نور، وسوف ينصفهم التاريخ... الخ.
(*) لقد اخذ الفيلسوف الألماني الوجودي
هيدجر هذه العبارة التي قالها ماركس في نقده لفيورباخ، عاداً إياه خطأ ماركس الذي
لا يغتفر، إذ يرى هيدجر، أن ماركس الذي يقول أن الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، في
حين أن المهم تغيره، قد اخطأ لأنه لم يسال نفسه هل فسر الفلاسفة العالم على نحو
صحيح أم لا، وإذا أطلق العنان لتغيير العالم فهل كأن يمتلك هو وتلاميذه صورة صحيحة
عن العالم الذي هبوا لتغييره على غير هدى. ينظر مجلة العرب والفكر العالمي العدد
السابق ص6.
(*) دولة العبيد الأحرار، الاسم الذي أطلقه
كامو على الدول الاشتراكية التي يملك فيها عشر السكان كل شي يملكون احتكار السلطة
والثروة والجاه، ويملكون حتى حياة الناس وأرواحهم، بينما تسعة أعشار لا يملكون حتى
أنفسهم في مجتمع يحرم الملكية الخاصة. البيركامو المتمرد، ص250.
(*) صدر الجزء الأول من "أفول الغرب" لـ شبنجلر في ابريل
عام 1918م في غمرة الهجوم الألماني الأخير، كانت الطائرات تمطر باريس بوابل من
القنابل والجيوش الألمانية تبدو على وشك الانتصار، ونهاية أكتوبر استسلم حلفاء
ألمانيا- تركيا والنمسا وبلغاريا، وإذا كانت الهزيمة كارثة لألمانيا فأنها قد خدمت
شهرة شبنجلر، إذ كان تأثير "أفول الغرب" بمثابة "الصخرة التي انهار
في بحيرة ضحلة, آرثر هيرمان، ص299.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق