فلسفة
التاريخ في القرن التاسع عشر
واجه
القرن التاسع عشر تراثاً غامضاً وفكراً متصدعاً، فمن ناحية كانت هناك نظرية التقدم
التي تقول إن المجتمع الإنساني يتقدم باضطراد صوب الكمال المدني والثقافي والحضاري
ومن ناحية أخرى، كان هناك اتجاه الحركة الرومانسية التي اخذ أصحابها يشككون في
عقيدة التقدم ويكشفون عن الوجه الأخر للحداثة (الاضمحلال والتدهور)، هذه الطبيعة
المزدوجة والمتناقضة في قلب الحضارة الأوروبية بين التقدم والتدهور، سوف تتجلى على
نحو أوضح في القرن التاسع عشر من خلال الكتابات التقدمية والدراسات الفلسفية
التاريخية.
لكن
القرن التاسع عشر لم يواجه فقط تراثاً ثقافياً متصدعاً بل أن التصدع والتناقض سوف
يصيبان المشروع الحداثي نفسه في بنيته الكلية، وإذا كانت الحداثة قد بلغت قمة
ازدهارها ونضجها في القرن التاسع عشر، بحيث غدت خبرة الإنسان بالتاريخ الذي صنعه
بيديه وعقله خبرة واسعة شاملة وأكثر نضجاً، هذه الخبرة التاريخية في التقدم
والتطور والارتقاء وفي مختلف مناحي الحياة الحضارية والمدنية والثقافية، كانت خير
شاهد على عظمة الإنسان وفعله وقدرته على النمو والتكييف والتحسن والتجاوز المستمر،
انه القرن المليء بعظائم الأمور كما يقول توينبي فقد شهد أهم حدث تاريخي وهو
التوسع المفاجئ في سلطة الإنسان على الطبيعة وعلى الإنسان ذاته, انه العصر الذهبي
لازدهار الرأسمالية الصناعية عند هنري سيمون, "انه قرن التاريخ بامتياز، حسب
اوجسيتن تبيري (1795-1856) بل أن التاريخ يضفي عليه اسمه كما كانت الفلسفة تضفي
اسمها على القرن الثامن عشر، ولقد تردد القول إلى درجة الإشباع كما يقول ماكس فيبر
"أن القرن التاسع عشر كان قرن التاريخ، وقد ينطبق هذا القول على ألمانيا أكثر
من أي مكان آخر([1]). إذ
بلغ الاهتمام بالتاريخ حد التقديس(*)،
بل لقد بجل هيجل وسافيني والفقهاء الألمان التاريخ ورفعوه فوق جميع الأشياء واقسم
بيرك به وأقسم معه حزب المحافظين الإنجليز" ([2]).
بيد
إن هذا الإجلال الكبير للتاريخ كان يعبر عن الإحساس المتزايد بالأزمة العميقة التي
بلغها المشروع الحداثي الأوروبي، هذه ألازمة التي طالت كل البناء والأنساق
الحياتية للمجتمع، أنها أزمة الإنسان الحديث([3])، إذ
كان الكثير من القيم القديمة والتقاليد والرموز التي ترسخت عبر التاريخ الالهه
والأساطير والمقدسات والمحرمات والمفاهيم والمؤسسات تفقد وظيفتها الحيوية وتتحول
إلى حقائق خاضعة للنقاش والجدال العلني المفتوح من كل شخص يستطيع ذلك، انها أزمة
تصادم بين نمطين للحياة قديم وحديث، ونظامين للثقافة، نظام تمتد جذوره إلى نحو ألفي
عام ونظام أخر أخذ يتشكل لتوه، فبدءاً من كانط عانى المشروع الفلسفي الذي سيطر منذ
أيام أرسطو تحولاً جذريا نتج عنه تحول جذري لمعاني الاصطلاحات الأساس في المفردات
الفلسفية التقليدية مثل "الميتافيزيقيا ، والمنطق، والجوهر، والوجود، والعدم،
والقوة والفعل"، هذه المفاهيم تغيرت حتى نكاد لا نتعرفها وان مسائل لم يعترض أحد
على موضوعها غدت عديمة المعنى وحلت محلها مسائل أخرى لم تخطر على البال قبل ذلك.
ويعود
معظم الغموض الذي يتخلل الكتابات الفلسفية في القرن التاسع عشر إلى هذه الحقيقة
مباشرة، وربما زاد ذلك من أهمية فلاسفة القرن التاسع عشر وأصالتهم، لكنه لم يجعلهم
أجلى بياناً وأقرب إلى الإفهام, إن تلك ألازمة التي واجهها الإنسان الحديث، هي
أكثر عمقاً من أية أزمة حدثت في الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأول للوثنية مع
المسيحية البدائية، لقد أجاد هنري ايكن تصوير وتلخيص المشهد الروحي للقرن التاسع
عشر، من حيث "هو قرن النقد الاجتماعي السياسي الذي يقبل المبدأ القائل إن
الموضوع الحق للفلسفة هو الإنسان... ومن هنا ازدهرت فلسفة التاريخ"([4]).
إن
الإنسان لأول مرة في التاريخ يجد نفسه بإزاء قوى التناهي والاشتباك معها بكونها قوى
خارجية عن ذاته الإنسانية المتناهية، هذه القوى المتناهية "الحياة والشغل
واللغة" هي الأصل الثلاثي للتناهي الذي ستتولد عنه البيولوجيا والاقتصاد
السياسي وعلم اللغة قوى الحياة والتاريخ والفكر بعد إن يتم إخضاع المتعالي
للتجريبي، إذ ذاك كان على قوى الإنسان إن تتصدى للتناهي خارج ذاتها، ومن ثم لتجعل
منه في مرحلة ثانية تناهيها هي، فتعيه حتماً تناهياً خاصاً بها, وحينئذ كما يقول
(ميشل فوكو)(*)" يركب معها الشكل الإنسان و(ليس الشكل
الله) وتلك بداية الإنسان"([5]) .
على
هذا النحو كانت أزمة القرن التاسع عشر، هي أزمة ميلاد جديد للمثل الأعلى للحضارة
الحديثة، بعد الانهيار المطرد للتركيب المسيحي القروسطي (الإنسان – الله) إعادة
بناء وتشكيل جديد للإنسان ومثله الأعلى على أساس جذري علماني إنساني واقعي تاريخي،
ومن هنا ندرك سبب تحول الفلسفة في القرن التاسع عشر إلى نظم فكرية أيديولوجية
متصارعة، لم تستطع إن تحل محل الفراغ الذي تركته الايديولوجيا التقليدية المقدسة،
التي كانت تضمن وحدة المجتمع وتسوغ له آلام الحياة وتمده بطاقة هائلة من العزاء
والسلوى"([6]).
إن
هذا الموقف الغامض الذي واجهه القرن التاسع عشر، كان ينطوي على جملة من المتناقضات
والصدوع الفكرية والثقافية بين الدنيا والآخرة، التناهي واللاتناهي، المدينة
الأرضية والمدينة السماوية، بين التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي([7])،
بين العقل والتجربة، بين المنطقي والتاريخي، بين المتعالي والواقعي، بين التركيبي
القبلي والاستقرائي البعدي، بل كان أهم تلك المتعارضات هو ذلك التعارض بين
النظريتين في فلسفة التاريخ، نظرية التقدم البشري في المدنية والثقافة، ونظرية
التدهور والانحطاط في الحضارة بين التاريخ كما هو كائن والتاريخ كما ينبغي إن يكون
وقد حاول فلاسفة القرن التاسع عشر أن يوازنوا بين جانبي التراث التنويري المتناقض،
وكان هدفهم الأكبر هو نفي أي تناقض بين مؤسسات التقدم الإنساني كما عرفتها نظرية
التقدم المدني وطموحات الإنسان البشرية الطبيعية الفطرية كما عرفها
"روسو" إذ أعلنوا إن ما ينبغي وما نريد نكون عليه، سيصبحان شيئاً واحداً
ذات يوم، أما ما ينبغي إن نكون عليه، وهو إن نكون كائنات اجتماعية مقيدة بالتاريخ،
وما نريد إن نكون عليه هو إن نكون سعداء، ولذلك رفضوا كلاً من الفوضى السياسية
للثورة الرومانسية(*)،
و "الفوضى الروحية" لمجتمع السوق الذي لا يعرف سوى المصلحة الشخصية،
ونادوا بمستقبل كان هو الأخر مقرراً سلفاً من الناحية التاريخية، وكان هذا هو
المركب الديالكتيكي عند كانط أولاً ثم هيجل ثانياً. لقد حاول كانط الجمع بين العقل
واللعب، بين التاريخ تقدماً وبين خطة الطبيعة أو العناية الإلهية "بين السماء
المزينة بالنجوم فوقي والقانون الخلاقي في باطن نفسي([8]) كما
كتب فوق شاهد قبره, في مقالة "فكرة عن تاريخ العالم من وجهة النظر العالمية،
عام 1784" أراد الجمع بين وجهة نظر الاستنارة ووجهة نظر الرومانسية، على نحو
ما فعل في نظرية المعرفة حين جمع بين المذهبين العقلي والتجريبي([9]). فهو
من ناحية يسلم بعبث الإنسان وشره إذ تصدر أفعاله عن غرائزه الأنانية وارادئه
الجشعة، ولكن من ناحية أخرى يرى إن هذه الحالة من عدم الاستقرار واضطراب الطبيعة
الإنسانية. هي نفسها وسيلة الطبيعة من اجل تقدم الإنسان، هناك غاية طبيعية لكل
أفعال البشر التي تبدو عبثية، فالحروب والتنافس والتدافع والطمع وتصادم الارادات
الفردية تصب في المحصلة الأخيرة في الخطة الشاملة للطبيعة، هكذا جعل كانط أفعال
الإنسان وسيلة يحقق من خلالها التخطيط الإلهي أهدافه في التاريخ العالمي([10]).
وكان
جورج فردريك هيجل (1771-1831م)(*)
أستاذ الفلسفة البارز في جامعة برلين قد استلهم الديالكتيك من سلفه كانط للاحتفاظ بكلا
الجانبين من تناقض التنوير بين التقدم والتدهور، ففي المنظور الديالكتكي الأشياء
التي تبدو متناقضة ما هي إلا مرحلة أولية للتركيب الجديد، والديالكتيك هو الصيرورة
الضرورية للوجود، وكلما بدت الأشياء متناقضة، الفردية والشمولية الثراء والفقر،
وحرية الضمير وسلطة النظام الارادات الفردية والمشيئة العامة، العقل الكلي والفعل
الفردي تكون في الواقع متماثلة.
وخلاصة
نظرية هيجل في التاريخ، تقوم على الاعتقاد بان الدولة هي الوحدة الأساس في فهم التاريخ، الذي ليس هو في نظره غير تحقق الوعي بالحرية،
يقول هيجل "ينبغي إن يكون مفهوماً إن الدولة هي التحقق الفعلي للحرية، أعنى
الغاية النهائية المطلقة([12]).
فهو
يعني إن فجر التاريخ قد بدا في الإمبراطوريات الشرقية حيث كان الملك هو الحر
الوحيد، ثم يبزغ الوعي بالحرية في الدولة اليونانية والرومانية حيث كان بعض الناس
أحرار، وختم التاريخ مساره مع الدولة الجرمانية التي تمثل ذورة التقدم لأنها أوضحت
إن جميع البشر أحرارا بطبيعتهم الذاتية، في الدولة الجرمانية تعود الروح إلى
بيتها، ويتحقق فيها اتحاد الذات والموضوع، المصلحة الفردية مع الروح الكلية ويختم
التاريخ مساره ولا جديد تحت الشمس([13]).
وهنا
تتجلى مثالية هيجل ولا تاريخيته، في انتخابه من مجموع الظاهرات ما يناسب
"فرضه" وعرض شواهده المختارة بالطريقة التي تلائمة وفسرها تفسيراً
مؤاتياً للفكرة العامة العقلية "إلا مثولة" الجاهزة التي بدا منها، لقد
كان الهوى السياسي والرغبة الأيديولوجية الحميمة في وحدة ألمانيا الممزقة التي
اجتاحتها جيوش (ذلك العقل الذي يمتطي حصاناً)، أي نابليون كانت رغبة هيجل في تحرير
ألمانيا ووحدتها هي الحافز الذي يقبع خلف هذه الرؤية الفلسفية التوراتية، التي
تختم التاريخ وتوقف سير الزمن، ويبدو أن الموظف هيجل لم يعدم الأسباب ليعلم
"الفيلسوف هيجل" ما تعنيه قوة الأمر الواقع" إن هيجل الذي يختم
التاريخ بشمس معنوية لا تشرق إلا في سماء رأسه المعنوي الغربي الجرماني الغافل
الذي لم ينظر إلى الماضي فيتعظ ولم ينظر إلى المستقبل فيتسشرف([14])، قد
فضل العواء مع الذئاب، حينما انتهى مفكراً محافظاً على نحو واضح وفاضح* حينما جعل الفلسفة والتفلسف والتحليل
والتركيب والديالكتيك في خدمة اللاهوت القومي الوطني الجرماني المتعصب وهذا يتضح
من خطبته الشهير في 12 أكتوبر 1818م ِإذ يقول "نحن الألمان نمتاز عن بقية أمم
وبلدان أوروبا الأخرى التي تلاشت فيها الفلسفة ما عدا الاسم في كون الفلسفة ما
تزال تستمر فينا كخصوصية من خصوصيات الأمة الألمانية لقد تلقينا من الطبيعة
(الالهه) الرسالة العليا بان نكون حراس الشعلة المقدسة"([15]).
مع
هيجل لم ينتهي التاريخ وتتوقف الحضارة فحسب بل ينتهي تقليد راسخ من التفكير
الميتافيزيقي التأملي ِإذ تعد فلسفة هيجل على نحو عام نقطة الأوج في تطور المثالية
الألمانية في المدة بعد الكانطية, بيد إن أهمية هيجل لأغراض هذه الأطروحة تكمن في
التأثير الكبير الذي مارسه في تطور الفكر الفلسفي اللاحق وفي فلسفة التاريخ بوجه
الخصوص فمن معطف هيجل تنطلق الرؤى الفلسفية الجديدة ذلك لان الامكانات الراديكالية
المذهلة لأفكاره قد أسكرت جيلاً كاملاً من الناشئين، ازدهر في برلين أربعينات
القرن التاسع عشر، "وقد عرفت هذه المجموعة التي ضمت كارل ماركس وفريدريك
انجلز في صباهما "الأحرار" ويطلق عليها ألان الهيجليون الشباب، تشبت
هؤلاء الراديكاليون بالجانب ذي النزعة التاريخية من فكر هيجل وطوروه ليصير نظرية
في الثورة السياسية"([16])
.
ومن
أسطورة نهاية التاريخ تتفتق الرؤى المختلفة، ِإذ إن ضلال هيجل سرعان ما توُّج
بأقوال الفيكتوري الإنجليزي (ارنولد اوف روجبي) الذي أعرب في خطابه الافتتاحي
بوصفه أستاذا ملكياً في التاريخ الحديث في أكسفورد سنة 1841 عن اعتقاده "بان
التاريخ الحديث سوف يكون أخر مرحلة في التاريخ البشري" ويبدو وكأنه يحمل
علامات اكتمال الزمن وكأنه لا يكون ثمة تاريخ مقبل فيما بعد"([17]).
هذه
الرؤية الخلابة لايقاف إيقاع الزمن وتثبيت التاريخ هي التي شغف بها الهيجلي الشاب
ماركس (1818-1883) حينما فسر التاريخ وحركته تفسيراً اقتصادياً اجتماعياً وصراعاً
بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة يسير على وفق حركة ديالكتيكية إلى نهايته
المحتومة وهدفه الختامي المتمثل في المجتمع الخالي من الطبقات والصراع الطبقي،
حينئذ تزول الدولة وينتهي التاريخ، مع المجتمع الشيوعي المنشود حيث السعادة النقية
والسلام الدائم والخبز الوفير والحرية الصافية والجمال العميم، اذ يكون (الكل حسب
قدراته ولكل حسب حاجاته)، ويستلهم المفكر الأمريكي (فرانسيس فوكوياما) هيجل من
جديد حينما يعلن "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"(*).
لقد شهد
القرن التاسع عشر تفاقم المشكلات الاجتماعية والسياسية جنباً إلى جنب مع تطور
وازدهار المدن الصناعية الحديثة وبروز الدول القومية المتنافسة على المستعمرات
خارج القارة الأوروبية في أسيا وأفريقيا وامريكا، وقد كانت ألمانيا تعج بالإحداث
والانتفاضات والثورات في حين إن بريطانيا كانت توسع إمبراطوريتها التجارية
الصناعية في أمريكا الشمالية وفي الهند والشرق عموماً(**).
في
خضم هذه العملية النشاطة من الحراك الاجتماعي والسياسي والتنافس المستعر بين
الطبقات والفئات الاجتماعية ازدهرت الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والحركات
الثقافية، "إن انقسام المجتمع الأوروبي إلى قوى اجتماعية متنافسة، الطبقة
الوسطى المظفرة وطبقة العمال الصناعيين وجموع الفقراء والطبقات التقليدية" يفسر
ذلك التيه المضطرب من الاتجاهات السياسية المتصارعة والتيارات المتعارضة التي كانت
قائمة في القرن التاسع عشر.
ولم
تكن النزعة التاريخية والسياسية في حقيقة أمرها إلا استجابة طبيعية للتحولات
الثورية الفعلية التي كانت تتبلور في خضم العملية التاريخية منذ منتصف القرن التاسع
عشر([18])،
أثر موجة الثورات الشعبية العارمة التي اجتاحت أنحاء أوروبا منذ شهر فبراير 1848
حتى نوفمبر من العام نفسه، "والتي حددت سياسات جيل بأكمله، بحيث لم يحدث أبدا
أن هزت العالم المتحضر دوافع أكثر نبلا من ذلك إلا أن هذا كله انتهى بالفشل"([19]).
لقد
كانت الثورات تعبيراً عن ذلك الاحتقان الشديد لتضارب مصالح القوى والتيارات
المحافظة التقليدية، والجديدة الصاعدة، ومن ثم فقد كان الأثر الذي أحدثته تلك
الثورات بعنفها ودمويتها وفشلها أثرا، يختلف عند كل طرف من الإطراف ففي حين يعلن
ماركس (ان الساعة قد أزفت كيما تغدو الفلسفة فلسفة للعمل، وليغدو حزب الفكر حزب
التقدم)([20])
ويرى مع رفيق دربه فردريك انجلز أن العنف لم يأخذ مداه بما يكفي إذ كتبا في (البيان
الشيوعي) "فلترتجف الطبقات الحاكمة أمام شبح الشيوعية الذي اخذ يجول في
أوروبا، ويا عمال العالم اتحدوا وان "العمال امامهم عالم كامل ليفوزوا
به"([21]).
لقد
عززت الثورة قناعات الاتجاه الرايكالي في التقدم الحتمي المحمول على أجنحة الثورات
العاصفة ورغم إن الليبرالين المعتدلين أمثال "اليكس وتوكفيل" (01805-1859م)
قد اهتزوا بشدة من جراء تلك الفورات وذلك العنف الوحشي إن النزعة المتفائلة باضطراد
التقدم التاريخي لم تقل، فهذا توكفيل في كتابه "الديمقراطية الأمريكية"
عام 1834 يخلص إلى القول إن التقدم التاريخي هو الصفة المقدسة لإرادة العناية
الإلهية"([22]) .
وإذا
كانت الثورة عام 1789 قد استحدثتها فكرة غامضة عن التقدم فان ثورة عام 1848م قد توجت
الفكرة على نحو واضح مبداً سائداً، وعقيدة راسخة وقانوناً عاماً لتطور المجتمعات.
لقد
بلغ تفاؤل الطبقة الوسطى في التقدم التاريخي حد الاعتقاد والعبادة، فلم يعد التقدم
شيئاً يحققه المجهود الإنساني بل أصبح امراً محتوماً، مهما حاول الناس فهذا الشاعر
"تنسيون" الذي كان يشك في كل شي ما عدا التقدم ينشد, "في ظلال
الأرض سنسير مقتحمين حتى نصل يوماً اقرب إلى الفتوة والشباب، فان خمسين سنة في
أوروبا أفضل من ألف عام في الصين، لقد نظرت إلى المستقبل، إلى أقصى بعد تراه عين
الإنسان وشاهدت رؤيا العالم، وجميع العجائب التي ستتحقق، رأيت السماوات تعج
بالتجارة والسفن ذات القلاع المسحورة وفلاحي الغسق الأرجواني يئنون بأحمالهم من كل
البضائع، وصمت دوى طبول الحرب وطويت رايات المعارك وقام برلمان الإنسان واتحاد
العالم"([23]).
إن
هذه اليوتوبيا المتطلعة إلى السلام العالمي والتقدم المستمر كانت قد وجدت دعامتها
الراسخة في نظرية التطور عند تشارلز داروين (1809-1882م) في كتابه "اصل
الأنواع" عام 1859م الذي جعل منها هربرت سبسنسر (1820-1903)، ميتافيزيقا كلية
إذ اعتقد بأن التقدم لم يكن مجرد ظاهرة إنسانية بل هو القانون الأساس للطبيعة
بأسرها، فالنجوم السابحة في أفلاكها، ليست أقل يقيناً بان الكون كله متقدم حتما من
أشكال بسيطة إلى أفراد معقدين ومترابطين عضوياً والفردية هي غاية الخلق، ولا
يستطيع شي على الأرض إن يوقف تقدمها الثابت([24]).
وإذا
كانت فكرة الحركة الميكانيكية هي فكرة القرن الثامن عشر فان فكرة التطور العضوية
هي التي تميز القرن التاسع عشر, ويشبه (برودون) التقدم (بسكة قطار الحرية) ويقول
سان سيمون "إن كل ما نستطيع إن نفعله هو إن نطيع هذا القانون"([25]).
وعلى
هذا النحو كان أبو الوضعية اوغست كونت (1798-1857) يبشر بديانه إنسانية تقدمية على
وفق أسس علمية وحلم بإقامة فيزياء اجتماعية(*).
وقد
اكتسبت فلسفة التاريخ التقدمية التطورية معاني متشابهة في العالم الجديد
"أمريكا" عند معظم فلاسفة الولايات المتحدة الأمريكية أمثال "شارلس
سامنار" في بحثه بعنوان "قانون التقدم البشري" إن الإنسان بكونه
فرداً قادر على تحقيق إصلاح لا نهائي"([26]).
إذ لم
يعد التقدم عام 1860 مجرد تعبير عن رأي مفكر متوحد بل عقيدة الأمريكي العادي تظهر
أيمانه وتقييمه للتاريخ ومعناه، بيد إن انتشار ورواج فكرة التقدم أدى إلى إكسابها
دلالات بعيدة عن الصورة العقلانية الأولى، وهذا ما دفع (آرثر اكيرك) المؤرخ الرائد
لهذه الفكرة إلى القول:- " إن فكرة التقدم كانت أكثر الفلسفات الأمريكية
رواجا وأكثرها اتساقاً مع أفكار العصر واهتماماته"([27]).
إننا
أذ نورد هذه الاستطرادات إنما نحاول أن نرسم صورة عامة عن فلسفات التاريخ التي
ظللت بأفقها الفكري المعرفي والأيديولوجي الوعي الفلسفي في القرن التاسع عشر، غير أن
الصورة تظل ناقصة دون الإشارة إلى الجانب الأخر من وجه العملة، فكما اشرنا في
بداية هذا المبحث واجه القرن التاسع عشر صدعاً فكرياً بين عقيدتين عقيدة التقدم
وعقيدة التدهور، فاذا كانت فلسفة التقدم قد صورت التقدم، وكأنه قانون طبيعي ومسار
تلقائي وحتمي(*),
فإننا نرى أن الصدع الفكري سوف يتسع مداه منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ تبرز نزعتات
قوتيان من التشاؤم التاريخي والتشاؤم الثقافي وتشيع فكرة الاضمحلال والتدهور وتنتقد
بشدة فكرة التقدم الحتمي، في الثقافة الأوروبية والأمريكية على حد سواء.
ويعبر
عن التشاؤمية التاريخية بعض فلاسفة التاريخ نذكر منهم جاكوب بوركهات(**) ورانكة(***), وارنولد تونبي.
أما
التشاؤمية الثقافية فقد وجدت هوى في قلوب عدد واسع من الفلاسفة أمثال (شوبنهاور
ونيتشه وشبنجلر)، والمتشائم التاريخي يرى أن الحاضر يقوم بعملية تفكيك منظمة
لمنجزات الماضي الخلاق المنظم. المؤسسات التي كانت دائما في توازن متوائم، تصبح
ألان فاقدة للتزامن، والتطور الاجتماعي يصبح فوضى ودماراً، وفي الوقت نفسه، يصبح
الأفراد عاجزين عن فعل أي شي لتجنب الكارثة الوشيكة وإذا لم يصلح النظام نفسه على
نحو ما، فسوف يكون الاضمحلال حادثاً لا محالة، إذ يرفض رانكة فكرة التقدم الخطي أو
القوانين التاريخية وكان يرى أن واجب المؤرخ هو كشف الماضي كما حدث بالفعل وان
القضية الوحيدة المهمة في دراسة التاريخ ليست هي تقدم الحضارة تلك القضية الملتبسة
دائما([28]) بل
فهم حقيقة التاريخ الواقعية.
ويرى
بوركهات، "أن التقدم المادي سبب خراب الثقافة الرفيعة، وكان يقارن بين الحياة
الحديثة والحياة في القرون الوسطى "حياتنا... بيزنس... حياتهم كانت
حياة", والثقافة الرفيعة والإبداع أصبح في منزلة منحطة في عالم يصبح فيه
المال ويظل هو المقياس الأساس للأشياء"([29])".
بيد
إن النقد الكاسح للحضارة الحديثة هو الذي جاء من اتجاه التشاؤمية الثقافية إذ يعلن
شوبنهاور (1788-1860م) "ما كان يجب إن تكون الحياة هكذا" وان الهدف
النهائي للإنسان العاقل في الحياة هو ما سماه "بوذا" بـ
"النرفانا" أو "الخلاء" وهو انعتاق نهائي من الإرادة والرغبة
التي تؤدي في النهاية إلى الانطفاء والموت. وان الفن والموسيقى تحديداً هو المنفذ
الوحيد للخلاص([30]).
ويذهب
نيتشه بالتشاؤمية الثقافية إلى نتائجها القصوى إذ يعلن أن كل ماضٍ جدير بالإدانة،
لان تلك هي طبيعة كل ما هو إنساني، وكان يرى إن الحياة الحديثة بقيمها الزائفة
تستحق الموت لتحل محلها حضارة الإنسان الأعلى (رجال الإفتداء) "أفراد
مختارون... مؤهلون للمهام الكبرى الخالدة أولئك الذين يملكون إرادة القوة، فان
الحضارة كلها هي من صنع أصحاب القوة والسطوة الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا
تقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضوا على الأجناس الأضعف"([31]).
على
هذا النحو يبشر نيتشه بأخلاق البطولة والقوة والسلطة والسطوة ضد أخلاق العبيد،
والتهذيب والمؤانسة والمسالمة والشفقة واليد الحنون الكريمة، والقلب الدافئ،
والصبر، والمثابرة والتواضع... الأخلاق تنفي الحياة، لقد كان نيتشه يراهن على تفسخ
الحضارة الحديثة حتى الإنسان الأخير حينها يبدأ عهد الحضارة النيتشوية([32]).
إن
التشاؤمية الثقافية هي الصورة النقيض للتشاؤمية التاريخية، مثلما فكرة الاضمحلال
هي نقيض فكرة التقدم, المتشائم التاريخي يرى مزايا ومناقب الحضارة الحديثة واقعة
تحت هجوم قوى شريرة ومدمرة، ولا نستطيع إن تتغلب عليها، التشاؤمية الثقافية تزعم أن
تلك القوى هي التي تشكل عملية التحضير من البداية لدى المتشائم التاريخي القلق،
لان مجتمعه على وشك إن يدمر نفسه، المتشائم الثقافي يقول إنه يستحق
التدمير.المتشائم التاريخي يرى أن الكارثة بادية في الأفق والمتشائم الثقافي يتطلع
إلى الكارثة اذ يعتقد بأن شيئاً ما سوف يبزغ من بين رمادها([33]).
إن
هذه المشاعر المضطربة بالخوف والقلق من التفسخ والانحلال لم تكن أضغاث أحلام بل
كانت نابعة من حقيقة ما كان يعتمل في السياق التاريخي الأوروبي الحديث، وما شهده
من تفكك اجتماعي وزيادة حالة الفقر وسط الجموع الواسعة من الطبقات الاجتماعية،
وبنهاية القرن كانت نظرية الانحلال قد هزت كثيراً من ثقة الليبرالية الأوروبية في
التقدم والمستقبل(*)،
وتركتها مكشوفة لاعدائها، وبحلول تسعينات القرن التاسع عشر، كان هناك إجماع متزايد
على أن مدى من الانحلال والتدهور كان يجتاح المشهد في أوروبا الصناعية، مخلفا حالة
واسعة من والاضطرابات والظواهر السلبية من بينها زيادة نسبة الفقر والجريمة
والمسكرات والانحرافات الأخلاقية والعنف السياسي... الخ. هذه الارتباكات التي تنمو
وتشيع في مختلف البلدان بإنحاء متشابهة، هذه المظاهر المغلقة كانت قد وجدت من يعبر
عنها من المثقفين التقدميين الإنسانيين الذين كانوا يخفون نزعة تشاؤمية ويتوجسون
من مخاطر الانحلال والتفسخ([34]) .
وقد
ظهرت الحافة السوداء القاطعة لتلك النظرة التشاؤمية أول ما ظهرت في بريطانيا عام
1869م، عندما نشر الأديب الإنجليزي "ماثيو ارنولد" (1822-1888م) كتابه
"الثقافة والفوضى"([35])،
ويكتب المفكر الإيطالي "لومبروز" "الإنسان المجرم" عام 1876
وفي عام 1888 ظهر كتاب تشارلز فيري "الانحلال والجريمة"، ويرى آثر
هيرمان إن وصمة الانحلال التي أخذت تشيع في أوروبا يمكن متابعتها عبر أجيال
متلاحقة لتبلغ ذورتها في رواية "أميل زولا" "الانهيار الكامل"
عام 1871، وينشر الأمريكي "بروكس ادمز" كتابه "الحضارة
والاضمحلال" عام 1893([36]).
وبعد
أربعة أعوام نشر عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم كتابه المهم "الانتحار"
عام 1897، وفي العام نفسه ظهر كتاب الفيلسوف الألماني "ماكس نوردو"
(1849-1923) "الانحلال" وتتوالى الكتابات الناقدة والمنذرة بالإخطار
أمثال كتاب "فرويد" عام 1929 "عسر الحضارة"، وكتاب "كارل
كروس" "الأيام الأخيرة للنوع البشري" وكتاب "جرانت"
"زوال الجنس العظيم" عام 1916 إلى "تدهور الحضارة الغربية" لشبنجلر،
و"سقوط الحضارة" لـ "كولن ويلسون"... وغير ذلك من الكتابات
التي أفزعت ارنولد توينبي وأيقظته من سباته الليبرالي الفيكتوري(*)، وربما يكون ابرز ملمح للقرن العشرين
هو تلك الزيادة الهائلة في موجة التشاؤمية الثقافية في عالم الفكر والأدب
والسياسة.
(*) بهذا المعنى يقول أدوارد كار, "كان
القرن التاسع عشر عصراً عظيماً يعج بالحقائق كما يقول غراد غريند في كتابه
"أزمان قاسية" وهذا التقديس الاعمى للحقائق قد وجد مسوغاً له في التقديس
الاعمى للوثائق, فقد كانت الوثائق بمثابة تابوت العهد في معبد الحقائق", ص
16. ينظر أدوارد كار, ما هو التاريخ, ص55.
(*) ميشيل فوكو(1926-1984م)
فيلسوف فرنسي معاصر، يمثل حلقة الوصل بين البنيوية وما بعدها، له عدد من المؤلفات
منها: الكلمات والأشياء، وحفريات المعرفة، وتاريخ العبادة، والرقابة والمعاقبة،
والانهمام بالذات، وتولد الذات... الخ. واشتهر بقوله: بموت الإنسان الذي يقصد به
التركيب القروسطي للإنسان الذي خلقه الله على صورته، ويبشر بمولد الإنسان، الذي
يخلقه الإنسان على صورته هو أي إنسان إنساني محكوم بقواه فقط.
(*) إن خطر الرومانسية يكمن
في أنها تقود الناس إلى عدم الاكتراث بجميع مقاييس الحقيقة والقيمة والتنظيم
والانضباط والى جعلهم يأبون الآخذ بتلك القواعد التقليدية التي تعد أساسياً للحياة
المنظمة، فالرجل الرومانسي تشغله مباهج العيش عما في العيش الجيد من مباهج عظيمة،
انظر هيرمان، ص24.
(*) فلسفة التاريخ
من وجهة نظر هيجل ليست من قبيل التفكير الفلسفي في التاريخ، ولكنها التاريخ نفسه
من حيث هو "عقل كلي" وروح مطلقة تكافح من اجل تحقيق حريتها المستلبة في
الطبيعة أولا ومن ثم في الحياة وأخيرا في المجتمع، إن هذه الروح المغتربة التي هي
الحرية سوف تعود أخيرا بعد رحلة اغترابها الطويل، إلى بيتها "بيت الشعلة
المقدسة" ألمانيا وحينئذ يكتمل مسار التاريخ وتصبح الروح في ذاتها ولذاتها،
وقد عرض هيجل فلسفته في كتبه: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفبومنيولوجيا الروح،
وفلسفة الحق، ومحاضرات في فلسفة التاريخ وموسوعة العلوم الفلسفية وهي فلسفة
لاهوتية في جوهرها، فالمسيحية تؤمن باله يموضوع نفسه في التجسيد، وترشد عنايته
التاريخ البشري نحو مصالحة نهائية معه.
(*) إن فيلسوف دولة بورسيا الألمانية يخون المشروع
الفلسفي الإنساني، حينما يضحي بالفرد الإنساني من اجل مصلحة الدولة الشاملة، وهذا
ما حدى بالكثير من الدراسيين إلى عده مبشر بـ "عبادة الدولة" وانه الأب
الشرعي للنازية والفاشية وانه الحلقة المفقودة كما يقول كارل بوير بين أفلاطون
وبين أصحاب النزعة الاستبدالية والسلطة الشمولية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع
عشر, ينظر حامل خليل, مشكلات فلسفية منشورات, دمشق المطبعة الجديدة, 1984, ص70.
(* ) في جواب على لماذا هيجل
من جديد؟ يقول المترجم الفرنسي جان بير لوفيفر, "اليوم ومع انهيار الهليجية
السيارية يعود الامريكي الياباني الاصل فرانسيس فوكوياما الى "هيجل"
ليجد فيه مفاتيح العالم ما بعد الشيوعي إذ كتب فوكوياما مقالاً تحت عنوان نهاية
التاريخ والانسان الاخي"ر, وقد أضحى مشهوراً بسبب هذه العودة, ينظر مجلة
العرب والفكر العالمي العددان الخامس عشر والسادس عشر خريف 1991, مركز الانماء
القومي بيروت, رئيس تحريرها مطاع الصفدي, إذ تضمن العددان محوراً خاصاً عن عودة
هيجل, بعد نشر كتاب فوكوياما.
(**) يرصد ارنولد توينبي
الثورات التي شهدها القرن التاسع عشر في الجزء الثاني من تاريخ البشرية بقوله
تحولت الثورات السياسية إلى ثورات اجتماعية من عام (1795و 1848-1719 وكان دور
بريطانيا خلال القرن المذكور قيادياً في خيره وشره لا في الغرب ولكن في العالم
باجمعه، توينبي, تاريخ البشرية, ج2, ص250.
[19] آرثر هيرمان، فكرة
الاضمحلال في التاريخ الغربي، ص91.
(*) إن هذه الرغبة المتعطشة في إقامة نظام اجتماعي
محكوم بالقوانين الثابتة هي حصيلة النجاحات التي حققتها العلوم الطبيعية طوال
القرنين الثامن عشر والقرن التاسع عشر إذ كان العلماء يفترضون أنه تم اكتشاف واثبات
قوانين الطبيعة- قانون الحركة النيوتوني، وقانون الجاذبية، وقانون بويل، وقانون
داروين في التطور وغير ذلك من قوانين العلوم الطبيعية، التي حفزت المشتغلين
بالعلوم الاجتماعية والإنسانية على الإقتداء بهم، في الاقتصاد السياسي، قانون
السوق عند ادم سميت، وزعم ماركس اكتشافه القانون الاقتصادي في حركة المجتمع الحديث
في رسل المال، ويذهب اوغست كونت إلى أنه اتكتشف قانون تطور المعرفة في المراحل
الثلاث اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية.
(*) إن مذهب التقدم وصل إلى ذروته في لحظة
بلوغ ازدهار الإنجليز وقوتهم وثقتهم بذاتهم أوجها، يقصد في العهد الفيكتوري، حينما
كانت الإمبراطورية الإنجليزية لا تغيب عنها الشمس، أما فيما بعد فقد دحضت نظرية
التقدم وأصبحت عبارة انحدار الغرب عبارة مألوفة إلى حد أن علامات الاقتباس لم تعد ضرورية
لدى استخدامها ولقد قيل إن قيصر روسيا، نيقولا الأول أصدرا امراً يحرم بموجبه
استخدام كلمة"التقدم" ادوارد كار، ما هو التاريخ ص127.
(**) جاكوب بوركهارت (1818-1897م) مؤرخ
سويسري تأثر النزعة الرومانسية الحيوية، كتب: حضارة عصر النهضة في ايطاليا عام
1853 وتأملات في التاريخ العالمي 1873، وعصر قسطنطين الكبير، وتاريخ النهضة في
ايطاليا وهو الأستاذ الذي أعجبه نيتشه وتأثر به كثيراً.
(***) ليوبولد فون رانكة (1886-1795) مؤرخ
الماني عمل استاذاً في جامعة برلين للدراسات القديمة, اشتهر بنزعته العلمية في
النظر الى التاريخ, والف العديد من الكتب منها: تاريخ انجلترا وكتاب تاريخ فرنسا.
([32])عبد
الوهاب المسيري، نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر، مجلة أوراق فلسفية، كتاب فلسفي
غير دوري تصدره جماعة أوراق فلسفية، العدد الأول-نوفمبر2000 رئيس التحرير احمد عبد
الحليم عطية، مطبعة العمرانية الجيزة، عدد خاص مكرس للذكرى المئوية لوفاه نيتشه،
ص104. أيضا عبد الرحمن بدوي، نيتشه، طبعة القاهرة 1945
فريدريك
نيتشه (هكذا تكلم زرادشت)، ترجمة فليكس فارس، دار إسامة دمشق بيروت، بدون تاريخ.
(*)إن حالة الاكتئاب والقنوط بخصوص المستقبل
والتقدم كانت قد نفذت إلى أعمدة المؤسسة الليبرالية الفيكتورية الأساسية بمن فيها
شاعرها الرسمي "الفرد لورد تنيسون" في عام 1842م كتب مبتهجا بالتقدم
"إلى الأمام... إلى الأمام... دعنا نتقدم، ودع العالم العظيم يدور إلى الأبد
على حواف التغيير، وبعد أربعين عاماً عاد إلى الفكرة ذاتها ولكن حالته المزاجية
كانت مختلفة تماماً: حسن هذا التقدم! أنت يا من تبشر به, هل من الصواب إن نتمى لك
الفرح؟ هل من الصواب ونحن نتقدم في العلم؟ ونتألق في الزمن, إن يغرق أطفال المدن
روحاً وجسداً, في وحل المدنية؟, هناك وسط الأزقة الكئيبة, يقف التقدم على أقدام
مشلولة, الجريمة والجوع يصرعان نساءنا في الشوارع بالألوف إلى الأمام إلى الأمام..
نعم.. والى الخلف.. والى الأسفل أيضا.. إلى الهاوية! . آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال،
ص320.
([35]) يرى
راسل جاكوبي، في كتابه (نهاية اليوتوبيا) إن ماثيو ارنولد أكثر النقاد
تأثيرا في عصره، ذلك لأنه أول مفكر ليبرالي في العهد الفيكتوري يوجه نقداً عميقاً
إلى الحضارة الحديثة المخفقة بسبب عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية, ترجمة
فاروق عبيد القادر، مجلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 269 مايو 2001، ص116.
(*)
نشاء توينبي في أواخر القرن التاسع عشر في ظل بيئة ثقافية تنعم بالاستقرار والأمن
والثروة، يقول: كان ظل الأمن والاستقرار وارفا وفي امتداد مستمر، وبدا وكأن الناس
سوف يعيشون إلى إن يروا اليوم الذي يمتد فيه هذا النعيم فوق العالم كله... وكنا
نشعر قبل عام 1914م بأن العالم لم يعرف ناساً مثلنا وإننا وحدنا المتحضرون، توينبي،
تاريخ البشرية، ج2، ص254. لكن هذه المشاعر المفعمة بالدعة والأمل سرعان ما تبدد في
قلب الشاب توينبي مع أول قذيفة من قذائف الحرب العالمية الأولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق