الكتاب : أصول حرب الريف
المؤلف : جرمان عياش
ترجمة : محمد الأمين البزاز و عبد العزيز التمسماني خلوق
الناشر : الشركة المغربية المتحدة
سنة الطبع : سنة 1992
عدد الصفحات : 372
رابط أرشيف :
http://archive.org/details/osoul-7arb-rif
رابط مباشر :
http://archive.org/download/osoul-7a...l-7arb-rif.pdf
وهذا مقال لمحمد أمزيان نشر في هسبريس يوم 23 - 02 - 2008 م وهو متعلق بالكتاب وعنوانه : جرمان عياش: الخطابي صديق إسبانيا
في سنة 1981 أصدر جرمان عياش الجزء الأول من أطروحته حول الريف تحت عنوان "أصول حرب الريف"؛ وهي ثمرة أبحاث دامت عدة سنوات. وفي سنة 1996 أكملت ابنته إيفلين مريم عياش مشوار أبيها فطبعت الجزء الثاني تحت عنوان "حرب الريف".
يعتبر جرمان عياش من المؤرخين المغاربة المدافعين عن "الوثيقة المغربية" كمصدر أساس لكتابة تاريخ المغرب. وبالمقابل يدعو إلى التعامل مع المصادر الأوروبية بحذر شديد، لكونها مصادر مكملة ليس إلا.
بيد أن المتصفح لدراسته في جزئيها سرعان ما يلاحظ استحضاره الطاغي للوثيقة الإسبانية وتغييبه المزعج للوثيقة الوطنية. فهل يعني هذا أن الوثيقة المغربية عجزت عن سد الثغرة ولم تسعفه لتقديم الإجابة المنتظرة؟ أم أن الكاتب صدمه الفقر الكبير الذي يعاني منه مجال التوثيق في المغرب بصفة عامة، وفي موضوع الريف بصفة خاصة، فانجرف مع المصادر الإسبانية لدرجة أنسته دفاعه السابق عن الوثيقة المغربية؟ بل حتى الرواية الشفوية، رغم توافرها إبان إجراء البحث الميداني، لم تجد مكانها اللائق في مجمل عمل عياش. وبذلك خلا الجو تماما للوثيقة الإسبانية/الأوروبية، وعليها أنجز البناء من البداية حتى النهاية، إلا في ما ندر.
يستعرض الباحث في الجزء الأول موضوعات شتى لها علاقة بموضوعه الرئيسي: حرب الريف. فبعد التمهيد بنقده المستفيض للمصادر، خصوصا العربية منها، ينتقل إلى موضوع مغرب السلاطين الذي درجت بعض الدراسات الاستعمارية على تقسيمه إلى قسمين: "بلاد السيبة" و "بلاد المخزن". ينتقد الباحث هذين المفهومين وبخاصة ما يتعلق بمفهوم "السيبة" الذي يعني غياب السلطة المركزية، فيطعن في صوابية هذا المصطلح مؤكدا أن الريف كان دوما حاضرا ضمن نطاق المخزن. بعد هذا ينتقل عياش لرصد مراحل التوغل الأوروبي في المغرب، مبرزا "نجاح" فرنسا في مهمتها مقابل ما اعترض إسبانيا من مشاكل وعقبات.
وبعد هذا الإطار العام ينتقل الباحث إلى موضوع الريف في معناه السياسي والبشري. ومن هذه النقطة يرصد علاقة الريفيين بالإسبان، وهي مسألة سنتوقف عندها لاحقا في هذه القراءة. والحديث عن الريفيين قاده إلى الحديث عن آل خطاب، وبالتحديد عبد الكريم الأب وابنه محمد الذي دخل التاريخ باسم والده. وهنا يتوسع الباحث في تحديد مجال تحرك عبد الكريم وابنه من صديقين لإسبانيا إلى مناوئين لها ثم إلى معاديين يرفعان راية المقاومة. هذا التطور الدرامي بلغة السينمائيين هو في الحقيقة ما "انفردت" به دراسة عياش عما سبقها. وفي سياق تحليل آليات علاقة الخطابي الأب بالإسبان، يأتي الباحث على ذكر علاقة الريسوني بهؤلاء والتي شهدت أيضا نفس التطور الدرامي.
وفي ثنايا البحث تطالعنا صفحات موثقة عن مغامرات بوحمارة الفاشلة في الريف الشرقي والأوسط، وأخرى عن مقاومة الشريف سيدي محمد أمزيان لبوحمارة أولا ثم للتوغل الإسباني ثانيا.
وفي الجزء الثاني من هذا العمل الأكاديمي الأول من نوعه، يتابع جرمان عياش فصول حرب الريف من زواياها العسكرية. فيبدأ بمراحل التوغل الإسباني إلى حدود الحرب العالمية الأولى، ثم ينتقل إلى تتبع المشاكل التي صادفت ذلك التوغل، ليعرج مرة أخرى على علاقة العائلة الخطابية بالإسبان؛ وهو ما يعني نوعا من التكرار والإطناب غير المبررين. وانطلاقا من الفصل الثالث يضعنا الباحث في صورة الأحداث العسكرية: سلفيستري يركب غروره فيلقى مصرعه في معركة أنوال. محمد عبد الكريم يتطور من شخص غير ذي بال إلى زعيم سياسي تخضع لتدبيره القبائل وبخاصة بعد ملحمة أنوال. وفي خضم هذه التموجات يسلط الباحث ضوءا خاطفا على الموقف الفرنسي المُشخَّص في تقييم المارشال ليوطي للوضع العسكري على الحدود الشمالية لمنطقة الحماية الفرنسية.
هذا مجمل ما تناوله الدكتور جرمان عياش في بحثه عن جذور حرب الريف. وقد يكون من المفيد الوقوف عند قضية أثارت كثيرا من الجدل والنقاش بين الباحثين والمهتمين، ترتبط بعلاقة الريفيين بالإسبان قبل قيام الثورة الريفية، وموقع العائلة الخطابية ضمن تلك الدائرة الرمادية بين ما يمكن نعته بالبرغماتية أو المصلحة الذاتية أو العمالة في ثوبها المكشوف أو المستور.
عمالة، صداقة أم سياسة؟
عموما يصنف الباحث الريفيين في علاقتهم بإسبانيا إلى صنفين: متعاونون أو ما يُعرف بحزب ’أصدقاء إسبانيا‘، ومعارضون أو ما يُسمى ب’أعداء إسبانيا‘. وتدخل العائلة الخطابية ضمن صنف الأصدقاء؛ تلك "الصداقة" التي ستجلب عليها الوبال أكثر من مرة. ويلاحظ عياش أن الريفيين كانوا من قبل قد التفوا حول الشريف سيدي محمد أمزيان الذي قادهم لمقاومة الإسبان حتى استُشهد في ميدان المعركة. ويستنتج بالتالي أن غياب الشريف سيدي محمد أمزيان حرم الريف من الزعامة السياسية والروحية القادرة على استنفار الريفيين وتعبئتهم للقتال مجددا.
وكانت إسبانيا بعد عقد الحماية، قد أعدت عدتها للسيطرة على الريف مستعينة بمن يتعاون معها من الأعيان وذوي الجاه والنفوذ. فباستثناء الزاوية الخمليشية التي كان الإسبان يحسبون لها حسابا خاصا لابتعادها عن مغريات الشراء أو الارتشاء، فإنهم كانوا يعتقدون أن الطريق سوف تكون جاهزة، مع الآخرين وبمساعدتهم، حينما تحين الفرصة. ذلك أنه فضلا عن "أصدقائها" من العائلات المعروفة المسلحة بالجاه والثروة والنسب الشريف، كانت إسبانيا ومنذ بداية القرن العشرين تبحث عن شخصية بديلة، جذابة وتتمتع باحترام لدى الريفيين حتى ولو لم تكن غنية أو ذات سلطة دينية قائمة على النسب الشريف. وسرعان ما وجدت ضالتها في عبد الكريم الخطابي الأب.
بهذا المدخل بدأ عياش يرسم معالم الأسرة الخطابية التي قبلت "التعاون" مع الإسبان. فعبد الكريم وابنه محمد الذي يُعد ساعده الأيمن، برزا سويا على ساحة التأثير والتوجيه في الريف مباشرة بعد استشهاد الشريف أمزيان. لكنهما كانا قبل ذلك قد قطعا أشواطا مهمة في طريق التقرب من الإسبان الذين كانوا يرون في الخطابي الأب أذكى الريفيين. ولعل هذا الذكاء هو ما كانت تفتقده سياسة إسبانيا ويفتقده بصفة خاصة "أصدقاؤها" المقربون في الريف.
في البداية سيتم استدراجه (الخطابي الأب) إلى جزيرة النكور للتبضع والتجارة. وهناك كان يُستقبل بحفاوة بالغة ليس من طرف التجار فحسب، بل حتى من طرف العسكريين. ومن الجزيرة يتم دفعه وتشجيعه لزيارة مليلية. فكثرت الزيارات حتى إن الإسبان بدأوا يدفعون له تكاليف السفر منذ 1902. وبحكم المنصب الذي كان يشغله عبد الكريم كقاض على الريف باسم السلطان، فإن عياش يصور لنا شخصية القاضي المترددة بين الموانع الدينية التي تحرم التعامل مع الأجنبي، وبين مستجدات السياسة الدولية التي لم تكن خافية عنه. هذا التردد سيزول بمجرد التوقيع على عقد الجزيرة الخضراء سنة 1906، ووضوح النية الأوروبية تجاه المغرب. ولم يلبث عبد الكريم أن قبل المغامرة مع الإسبان جارا معه ابنيه محمد (24 سنة) وامحمد (12 سنة). وهكذا يسمح لابنه محمد بالاستقرار في مليلية حيث سيتقلد عدة وظائف حتى بلغ منصب قاضي القضاة. بل ينخرط وجدانيا حسب تعبير عياش في الحياة الإسبانية لدرجة أنه قدم طلب الحصول على الجنسية الإسبانية. ويخلص الباحث إلى التساؤل التالي: كيف نتجرأ إذن على إضفاء هالة من المشاعر الوطنية على رجل نذر نفسه لخدمة إسبانيا وهي الدولة التي تحتل بلاده؟
الخط الثالث
هذا التساؤل القاسي خفف الباحث من وقعه حينما فسر سلوك الخطابي و "حبه" لإسبانيا بحبه لبلده. فلقد كان الخطابي الأب يعتقد في نظر عياش أنه من الأفضل للريف أن يتواجه مع دولة متواضعة يستطيع التفاهم معها على أن يجد أمامه دولة قوية كفرنسا أو إنجلترا على سبيل المثال.
وبعد حادث إحراق بيت الأسرة الخطابية في أجدير سنة 1911 من قبل الريفيين الغاضبين على استعداد عبد الكريم الأب لمساعدة الإسبان في مشروع الإنزال العسكري المحتمل في خليج الحسيمة، سيسلك الخطابي استراتيجية أخرى تقوم على استمرار التعامل مع الإسبان خفية والتحريض ضدهم علانية. ثم يواصل عياش تتبع هذا المسار المزدوج، وكيف تعقدت الأمور خلال الحرب العالمية الأولى ودخول تركيا المسلمة الحرب إلى جانب ألمانيا. وهنا يظهر أن عبد الكريم الأب أقر العزم على قطع علاقاته بالإسبان، سالكا طريق العودة إلى صف المعارضين.
وفي البحث عن أسباب التحول المفاجئ لعبد الكريم الأب من "متعامل" يتزعم فريقا من "أصدقاء" إسبانيا له شأن، إلى محرض يتقاطر على بيته الداعون إلى المقاومة، يؤكد الباحث أن تطور السياسة الداخلية الإسبانية خلال الحرب العالمية الأولى كان وراء تدهور علاقة إسبانيا بالخطابيين، وبالتالي اعتقال محمد عبد الكريم في مليلية، كإجراء مؤقت يهدف إلى ممارسة مزيد من الضغط على الخطابي الأب. ذلك أن الخطابي وابنه كانا قد اختارا خلق المتاعب لفرنسا بدعمهما الصريح لألمانيا. فهو إذن اعتقال سياسي لم ينبن على حجج ملموسة. ورغم بعض الإشارات التي توحي برغبة عبد الكريم الخطابي الأب في إصلاح الخلل والعودة إلى "جادة الصواب"، إلا أن الإسبان تمادوا في ضغطتهم، فكانت القطيعة أمرا مقضيا.
هذا مجمل ما جاء في كتاب جرمان عياش. ويُستنتج من هكذا تحليل أن القطيعة سبَبُها الغباء السياسي المستحكم لدى صانعي القرار في إسبانيا. وهنا ينبغي التذكير أن تفاصيل هذه القصة بُنيت أساسا على الرواية الإسبانية. وحتى إحالة عياش على بعض المصادر الوطنية، فإنها تأتي في سياق التشكيك في مصداقيتها! ومن شأن هذا البناء أحادي الجانب أن يقود إلى نتائج مشوهة، مشوشة، يشوبها الخلل و الزلل. فالصورة التي نصادفها عند عياش عن عبد الكريم الأب وابنه محمد، هي صورة شخصين مهزوزي العواطف، منقسمي الولاء. بل يصورهما الباحث وكأنهما لا يتحركان إلا بوازع المصلحة الذاتية! والملاحظ كذلك أن التطورات الداخلية التي عرفها الريف منذ بداية القرن العشرين، والتي لا بد وأن تكون قد أثرت على شخصية عبد الكريم، تكاد تغيب عن تحليل عياش إلا في ما يدعم نظريته وأطروحته.
والواقع أن مسألة "تعامل" عبد الكريم ومن ثم ابنه محمد لم تكن معطى ثابتا في موقفهما من سياسة إسبانيا تجاه الريف. فلقد كانا يدركان مآل بلدهما الذي تقرر خارج الحدود ووراء كواليس السياسة الاستعمارية الأوروبية. وكان همهما الوحيد الحفاظ على استقلال الريف بسلوك طريق المهادنة، ثم محاولة استغلال الصراع الألماني – الفرنسي والحياد الإسباني السلبي لخلق نوع من التوازن في المنطقة. فأين الخلل في عمل سياسي كهذا، وهو ما تمارسه الدول في كل زمان ومكان؟ قد يبدو لمن يتعجل استخلاص النتائج المقررة سلفا، أن مثل هذا السلوك هو عين الانتهازية والنفعية. ولكنه على العكس سلوك لم يكن يهدف إلا لشيء واحد: إبعاد الخطر عن الريف والحفاظ على استقلاله. وإلا كيف نفسر انفجار المقاومة الشرسة حينما سُدت آفاق الحوار والتفاهم؟ ثم كيف نفهم سر التفاف الريفيين على الخطابي، الأب والابن، عندما اتخذ الجميع قرار المواجهة؟ لقد كانا يحاولان إقناع الأسبان بالعدول عن سياسة الغزو العسكري والأخذ بالأسلوب "الحضاري" الذي يدّعونه. هذه ديبلوماسية الخط الثالث، وهو ما لم تستوعبه إسبانيا، ولم يعه بعض الريفيين فناصبوا العداء لعبد الكريم وابنه حتى أتاهم اليقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق