الأربعاء، 6 مارس 2013



ابن شدّاد الصنهاجيّ
جامع أخبار المغرب الوسيط

                                                              الأستاذ علاوة عمارة
                                                            جامعة باريس الأولى ـ السوربون
                                                       
        كان من نتائج قيام الدولة الفاطمية في المغرب عام 296 هـ/ 908 م، اندماج أكبر الاتحادات القبلية بالمغرب الأوسط، وعلى الخصوص قبيلة تلكاتة والكثير من البطون المرتبطة بها. وقد سمح هذا الاندماج للبربر بالاستحواذ على حكم أفريقية والمغرب الأوسط بعد استقرار المعز لدين الله الفاطمي (342 ـ 365 هـ/ 953 ـ 975 م) بالقاهرة المعزية. ولئن تمكن الصنهاجيون من السيطرة على أراضي المغرب المتشعبة تضاريسياً وبشرياً، فإن دولتهم سرعان ما انقسمت إلى دولتين متخاصمتين هما: الدولة الباديسية، التي جعلت من القيروان ثم من المهدية بلاطاً لملكها، والدولة الحمادية التي جعلت من قلعة بني حماد »ملجأ لها«، ثم من بجاية عاصمة لها. لكن من عظيم القدر أن تينك الدولتين المتنافستين أعطتا المغرب الوسيط مؤرخين ينحدران من أصولهما: ابن شداد الصنهاجي من العائلة الباديسية، وابن حماد الصنهاجي من العائلة الحمادية. ومن الغرائب أيضاً أن كلاًّ من هذين المؤرخين انخرط في الحركة الموحدية بعد سقوط دولتيهما وكلاًّ من الاثنين كتب عن تاريخ آبائه وأجداده؛ كما أن كتابيهما لم يصلنا إلا ما نقله المؤلفون عنهما. وإذا كان ابن حماد الصنهاجي اشتهر بإنتاجه الفكري الغزير وبالمناصب القضائية التي تقلدها في عهد الموحدين، فإن ابن شداد الصنهاجي انخرط في سلك آخر وهو الجيش، مما جعله يلقى بعض النسيان من طرف الإخباريين. وقد جعلنا هذا النسيان نخصص له دراسة لعلها تكشف لنا عن الجوانب الخفية من حياة صاحب "الجمع والبيان".
        بعد تأسف ابن أبي دينار القيرواني (ت بعد 1092/ 1681 م) عن عدم اطّلاعه على كتاب ابن شداد، فإن بيبليوغرافي إسطمبول الشهير حاجي خليفة (ت 1027 هـ) يعد أول من ذكّر بابن شداد الصنهاجي وبكتابه "الجمع والبيان" في موسوعته المسماة "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون". وقد ذكر حاجي خليفة أنه نقل معلومته الخاصة بابن شداد عن ابن خلكان([1]). هذا التذكير جعل من ابن شداد الصنهاجي يلقى بعض الاهتمام عند الباحثين. ففي سنة 1838 م، أشار روسييف دو سانت هيلار (Rosseevw de Saint Hilaire) في كتابه "تاريخ إسبانيا" إلى أن ابن شداد الصنهاجي كان حاضراً ببالرمو سنة 551 هـ/ 1156 م، وذلك اعتماداً على حكاية نقلها عن إحدى مخطوطات النويري، الموجودة بالمكتبة الوطنية بباريس ([2]). وقد نقل عنه هذه المعلومة أغلب من جاءوا بعده دون التأكد من صحتها. فقد ذكر ميخائيل أماري (Michèle Amari)، الذي اشتهر بدراساته عن صقلية، حياة ابن شداد وكتابه في ترجمة قصيرة، مشيراً إلى أنه كان بصقلية وأن بعض المتأخرين نقلوا من كتابه، اعتماداً على ما ذكره روسييف دوسانت هيلار([3]). أما كارل بروكلمان (Carl Brockelmann) المستشرق الألماني الشهير، فذكر في موسوعته البيبليوغرافية "تاريخ الآداب العربية" أن ابن شداد الصنهاجي مؤرخ مغربي، وأن تاريخه "الجمع والبيان" استغلَّه عدة مؤلفين جاءوا من بعده([4]). كما أن المؤرخ الفرنسي الهادي روجي إدريس (Hady Roger Idris) جعل لابن شداد الصنهاجي ترجمة في كتابه "بلاد البربر على العهد الزيري" عند تقديمه لمصادره التاريخية. لكن هذه الترجمة ما هي إلا جمع لما كتب عن ابن شداد الصنهاجي ([5]). وأما المؤرخ التونسيّ محمد الطالبي، فقد كان له الفضل في كتابة مادة »ابن شداد« في "دائرة المعارف الإسلامية". لكن الحقيقة أن الطالبي لم يأت بجديد يذكر، لكونه نقل الترجمة التي كتبها من قبله الهادي روجي إدريس ([6]). وما كتبه الطالبي هو تجسيد للغموض الذي يكتنف حياة ابن شداد الصنهاجي بالمغرب وبالمشرق. وتحمل آخر المحاولات توقيع محمد محفوظ في كتابه "تراجم المؤلفين التونسيين"، عندما ذكر حياة ابن شداد الصنهاجي في بعض الأسطر على اعتبار أنه مؤلِّف تونسيّ ([7]).
        وقد كشفت لنا قراءتنا للمصادر التاريخية عن حقائق جديدة حول ابن شداد الصنهاجي وعن كتابه "الجمع والبيان في أخبار القيروان". لقد كان للترجمتين اللتين كتبهما ابن الفوطي الشيباني (ت 723 هـ/ 1323 م)([8]) عن ابن شداد، وعن ابنه فخر الدين، دور فعال في دراستنا هذه، للكشف عن بعض الخطوط العريضة عن حياة ابن شداد وعن كتابه التاريخي.
       
ابن شداد ينحدر من بربر صنهاجة بالمغرب الأوسط
        تعتبر جبال التيطري المهد الأول للقبائل الصنهاجية بالمغرب الأوسط، وكانت أكبر تلك القبائل وأقواها قبيلة تلكاتة التي من بطونها بني حسن وبني زيري. لكن هذا البطن الأخير هو الذي وحد القبائل الصنهاجية تحت لوائه في عهد مناد ـ وعلى الخصوص ابنه زيري([9])ـ بعد أن كانت متفرقة، فسمح بذلك للإمامة الرستمية بتاهرت بالتحكم فيها والاستفادة من خدماتها([10]). وكان لهذا التوحيد أثر بالغ الأهمية، إذ لم يتأخر أمير صنهاجة عن الانفتاح والاتصال بالبلاط الفاطمي في المهدية. وقد سمح هذا الاتصال للقبائل الصنهاجية بالاستفادة من خبرات الفاطميين، بحيث أمدوهم بالمهندسين والبنائين لتخطيط مدينة أشير بقلب جبال التيطري، جنوب العاصمة الجزائرية سنة 324 هـ/935 م([11]). وقد ضرب أمير صنهاجة السكة لأول مرة، وذلك بأمر من الخليفة الفاطمي، ليتبعه التخلي التدريجي عن التعامل بالمقايضة. كل هذا مكّن بربر صنهاجة من التخلي عن سكنى الجبال وحياة الغزو والنهب إلى حياة الاستقرار وسكنى المدن. وهذا ما جعل الفواطم يستنجدون بالقبائل الصنهاجية في حروبهم على الخصوص ضد الثائر الإباضي الشهير أبي يزيد بن مخلد بن كيداد النكاري، المعروف بـ»صاحب الحمار«([12]).
        وجعل هذا الاندماج الصنهاجي في الحياة المغربية الخليفة الفاطمي المعز لدين الله يوكل حكم بلاد المغرب إلى البيت الزيري مكافأة على وفائه وخدماته لصاحب المهدية. فما كان من المعز لدين الله إلا أن أوصى بلكين بن زيري، أمير صنهاجة آنذاك، قائلاً له: »أوصيك بثلاث: أن لا ترفع السيف على البربر، ولا ترفع الجباية على أهل البادية، ولا تولي أحداً من أهل عمومتك«([13]). لكن البيت الزيري ما لبث أن انشق على نفسه، عندما أعلن حماد بن بلكين استقلاله ببلاد المغرب الأوسط مكوناً الدولة الحمادية، بينما توارث أبناء باديس بن المنصور بن بلكين حكم أفريقية، متخذين القيروان ثم المهدية عاصمة لهم. وفي هذا البيت الباديسي الذي يسميه الباحثون بـ»الزيري« نشأ ابن شداد الصنهاجي على عهد الحسن، آخر أمرائهم.
        والاسم الكامل للمؤلف هو عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن الأمير تميم بن المعز بن باديس. إذ تجمع المصادر كلُّها على أن كنيته هي عز الدين، وهي كنية اكتسبها على الأرجح بدمشق. فابن شداد إذن هو حفيد الأمير الزيري تميم بن المعز بن باديس([14])(454 ـ 501 هـ/ 1062 ـ 1108 م) الذي اشتهر بحروبه ضد القبائل الهلالية والمدن الإيطالية. وعبد العزيز بن شداد هو ابن عم الأمير الزيري يحيى بن تميم (501 ـ 509 هـ/ 1108 ـ 1116 م) الذي خلف والده على رأس الإمارة الزيرية. وبذلك يكون ابن شداد قد ولد في البلاط الزيري، لكننا نجهل، شأنه في ذلك شأن أغلب شخصيات عصره بالمغرب، سنة مولده. وتنسبه أغلب المصادر المشرقية إلى القيروان (»قيرواني«) ما عدا بعض الاستثناءات القليلة مثل ما كتبه المقريزي([15])، ولكن هذه النسبة لا تعني أنه ولد بالقيروان، لأن العائلة الزيرية لجأت إلى المهدية قبل ميلاد ابن شداد بمدة طويلة، وذلك بعد سقوط القيروان في أيدي العرب الهلالية. والراجح أن نسبته القيروانية إنما أتت من عنوان كتابه "الجمع والبيان في أخبار القيروان" وليس من مكان مولده ونشأته، لأن شهرة المؤلف المشرقية إنما جاءت من تاريخه الذي كتبه حول المغرب الإسلامي، والذي أصبح المرجع الأساسيّ الذي يرجع إليه المؤرخون المشارقة لمعرفة أو كتابة تاريخ المغرب في تلك الفترة. وإذا اشتهر ابن شداد بنسبه الجغرافي القيرواني، فقد عرف بنسبه القبلي في أكثر من مصدر([16]) عندما يكتبون: »ابن شداد الصنهاجي الحميري«. وهذا الاسم الثاني أو هذه النسبة الثانية نابعة من تبني قبيلة صنهاجة للنسب العربي (قبيلة حمير)، وذلك في محاولة منها لفرض سلطتها على القبائل البربرية([17]).
        نشأ عبد العزيز بن شداد إذن بالبلاط الزيري بالمهدية، مما سمح له بالاطّلاع على الوثائق والسجلات المحفوظة في القصر الزيري([18])، والتي ستساعده فيما بعد على كتابة تاريخه. ولكنه لم يسعفه الحظ في البقاء طويلاً، لأن النورمان سيطيحون بحكم الزيريين بالمهدية عام 543 هـ/ 1148 م.
       
ابن شداد الصنهاجي بصقلية النورمانية
        بعد الاتصالات التي باشرها الحسن بن يحيى، آخر أمراء الزيريين بالمهدية، مع صاحب بجاية الأمير يحيى بن العزيز بالله، لا ندري ألجأ عبد العزيز بن شداد مع العائلة الزيرية إلى مدينة الجزائر أم بقي بإحدى المدن الأفريقية. لكن يظهر أنه اختار الطريق الثاني، إذ سيكون حاضراً بصقلية النورمانية عام 551 هـ/ 1156 م. وكتب النويري نقلاً عن ابن شداد الصنهاجي وحكى ابن شداد أيضاً فقال: »أخبر رجل من المهدية اجتمعت به في مدينة صقلية سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، قال: لما فتح عبد المؤمن مدينة بجاية وجميع ملك بني حماد، وافق ذلك وصولي بعد أيام من المهدية إلى بجاية بأحمال متاع مع قفل...«([19]). يبين هذا النص حضور ابن شداد الصنهاجي بصقلية في العهد النورماني في سنة 551 هـ/ 1156 م. لكن ما المقصود هنا بمدينة صقلية؟ من المعروف أن المؤلفين العرب غالباً ما يطلقون على بالرمو اسم مدينة صقلية، الذي هو اسم الجزيرة كلها. ومن ثم فابن شداد الصنهاجي أقام خلال هذه الفترة ببالرمو، لكن الأسئلة المطروحة هي كالتالي: متى ذهب ابن شداد إلى صقلية؟ وما الظروف التي أحاطت بذلك؟ وكيف اختار الإقامة في عاصمة الدولة التي احتلت مدينته الأصلية: المهدية؟ أسئلة من الصعب الإجابة عنها، طالما أن المصادر التاريخية تميزت بالصمت عن ذكر العلاقة بين ابن شداد وصقلية النورمانية. ومن المعروف أن روجر الثاني (Roger II) قد تبنى سياسة مغايرة عن سابقيه ولاحقيه من ملوك النورمان، إذ اشتهر بتسامحه مع المسلمين كما فعل عند استقدامه للجغرافي الشهير الشريف الإدريسي، ليصنف له كتاباً في علم الجغرافيا([20]). وقد أكدت المصادر العربية واللاتينية الحضور الإسلامي بصقلية النورمانية([21])؛ كما أن صقلية كانت ملجأ لبعض الأمراء الحماديين بعد فتح الموحدين لبجاية([22]). نقل أبو الفدا إسماعيل عن ابن شداد الصنهاجي شهادة هذا الأخير حول الحكم النورماني بصقلية، فقال: »ثم مات رجار قبل سنة تسعين و[أربعمائة]، وتولى بعده ولده، وسلك طريقة ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والجاندارية وغير ذلك وأسكن في الجزيرة الفرنج مع المسلمين وأكرم المسلمين ومنع من التعدي عليهم وقربهم«([23]). هذه الشهادة وهذا الاعتراف بحسن معاملة روجار الثاني للمسلمين، جعل ابن شداد الصنهاجي يقيم ببالرمو، لكنه لن يتأخر عن المشاركة في »تحرير« المدن الأفريقية أو استعادتها من الوجود النورماني.
       
ابن شداد الصنهاجي بالجيش الموحدي
        يسود الغموض اختفاء ابن شداد الصنهاجي من بالرمو والتحاقه بالجيش الموحدي سنة 554 هـ/ 1159 م للمشاركة في استرجاع المدن الأفريقية، وعلى الخصوص المهدية، من الاحتلال النورماني. فهل انقلب ابن شداد على روجر الثاني الذي مدحه، أو ذكر أنه احترم المسلمين وقربهم إليهم؟ أو أن ابن شداد راودته مشاعره »الأفريقيَّة« لاسترجاع ملك آبائه؟ أو بصورة أخرى قد أدى واجب »الجهاد« الذي أعلنه عبد المؤمن بن علي ضد المسيحيين في السواحل الأفريقية؟ من الصعب جداً الإجابة عن الأسئلة المطروحة، لكن قد نرجح أنه كان يطمح إلى الرجوع إلى بلاط المهدية، الذي عاش فيه قبل الغزو النورماني. والدليل على ذلك أن ابن شداد حكى عن نفسه أنه شارك في معركة واحدة، وهي حصار المهدية، رفقة عبد المؤمن بن علي والحسن الأمير الباديسي المخلوع. لقد كان الحصار الموحدي للمهدية طويلاً، لأنه بدأ مع نهاية سنة 554 هـ/ 1159 م واستمر خلال الأشهر الأولى من سنة 555 هـ/ 1160 م حتى استسلام الحامية النورمانية المقيمة بالمهدية. وشارك ابن شداد في مختلف عمليات الحصار وذكرها كاملة في كتابه. فقد نقل عنه التيجاني في رحلته أنه كتب: »قال الحاكي (أي ابن شداد): كنت حاضراً وعبد المؤمن يبكي ويسجد في الأرض ويقول: اللهم لا تضعضع دعائم الإسلام«([24]). بعد القضاء على الوجود النورماني بالسواحل الأفريقية، اختفى أثر ابن شداد الصنهاجي من الساحة المغربية، فلا هو تكلم عن نفسه ولا المصادر تكلمت عنه. والراجح أنه ترك مدينة المهدية خلال هذه الفترة بعدما يئس من استرجاع ملك أجداده بتعيين عبد المؤمن بن علي لوالٍ موحدي بأفريقية رفقة الحسن بن يحيى، الأمير الباديسي المخلوع.
       
ابن شداد بدمشق وخدمته لصلاح الدين الأيوبي
        بعد استرجاع مدينة المهدية سنة 555 هـ/ 1160 م، لن يلبث ابن شداد الصنهاجي طويلاً ليلتحق بالمشرق، متخذاً دمشق مكاناً لإقامته، لكون هذه المدينة ازدهرت فكرياً زمن العالم الكبير ابن عساكر([25]) صاحب "تاريخ دمشق". وترجع أول إشارة لوجود ابن شداد الصنهاجي بدمشق إلى سنة 567 هـ/ 1171 م، عندما أخذ إجازته من الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر (ت 571 هـ1175 م)([26]). وتدل إجازته في هذه السنة على أنه دخل دمشق قبل هذا التاريخ. بعدها، صمتت المصادر عن حياته الدمشقية إلى غاية 571 هـ/ 1175 م، عندما التقى بالكاتب الشهير العماد الأصفهاني. كان لقاء هذا الكاتب بابن شداد، نتيجة اتصال صاحب "الخريدة" بصلاح الدين الأيوبي ودخوله في خدمته بدمشق. والمرجح أن هذا الاتصال قد تم في إحدى الإقامات الرسمية لصلاح الدين الأيوبي؛ إذ صار ابن شداد من أمراء الجيش الأيوبي. ومنذ هذا اللقاء الذي دار بين العماد وابن شداد الأمير، لم يفارق هذا اللقب ابن شداد الصنهاجي. كما ذكر العماد الأصفهاني أن ابن شداد أعاره "ديوان تميم بن المعز"، مما سمح له بنقل مقتطفات من الشعر في كتابه "خريدة القصر وجريدة العصر"([27]). وقد كان ابن شداد الصنهاجي مقيماً بدمشق رفقة أولاده محمد والعرب وفخر الدين علي، وهو ما يدل على أنه سافر وحيداً تاركاً العائلة الأميرية الباديسية بالمغرب. ولكن هذا لا يعني أنه انقطع عن وطن أجداده. دخل ابن شداد في اتصالات مستمرة مع التجار المغاربة ومع الجالية المغربية للاطّلاع على مستجدات الوضع العام في بلاد المغرب، وعلى الخصوص بأفريقية. ولنا مثال على هذا الانشغال نقله الرحالة التونسي التيجاني في "رحلتـ"ـه وفي "تاريخ ابن شداد"، وذكر شدة ما انتهى إليه حال أفريقية أيام استيلاء الميورقي عليها، فقال: »أخبرني أبو عبد الله محمد بن البراء المهدوي، وقد وصل إلى دمشق في هذه السنة، يعني سنة اثنين وثمانين وخمسمائة، قال: فسألته عن أحوال أفريقية، فقال: هلك العباد وخرب البلاد«([28]).
        تدل هذه الإشارة على مدى تعلق ابن شداد بوطنه المغرب من جهة، وتبين لنا من جهة أخرى أن هذه الشخصية بقيت وفية لإقامتها الدمشقية بعد أن سجلت حضورها منذ أكثر من خمس عشرة سنة. هذا التعلق بدمشق يرجع كذلك إلى أن ابن شداد دخل في خدمة الجيش الأيوبي ليرقى من رتبته بصفته مقاتلاً عادياً في الجيش الموحدي إلى أمير للعساكر في عهد صلاح الدين الأيوبي([29]). وقد سكتت المصادر عن الإشارة إلى حياة ابن شداد بعد سنة 582 هـ/ 1187 م، فلم تذكر سوى أنه كان حياً سنة 600 هـ/ 1204 م([30]). خلال هذه الفترة، تفرغ ابن شداد الصنهاجي لكتابة تاريخه الذي أملاه، كما سنرى، على ابنه فخر الدين عام 597 هـ/ 1201 م([31]). وقد جعل هذا الانسحاب السياسي والعسكري المصادر لا تتحدث عن حياته بعد سنة 600 هـ/ 1204 م. ولولا التاريخ الذي كتبه، لما سجل له التاريخ أثراً في المصادر والكتابات المشرقية والمغربية فيما يبدو. ويطرح لنا مثال ابن شداد ظاهرة التركيز على كتابة تاريخ الصفوة أو النخبة في المؤلفات الإسلامية، بينما يتم نسيان العامة إن لم نقل إهمالها.
        ذكر الملك المؤيد عماد الدين أبو الفدا (ت 732 هـ/ 1331 م) في كتابه "المختصر في أخبار البشر" أن ابن شداد الصنهاجي قد كتب كتاباً عن تاريخ صقلية، حيث قال: »ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وفيها عقد المنصور العلوي ولاية جزيرة صقلية للحسن بن علي بن أبي الحسن الكلي من تاريخ صقلية، تأليف صاحب "تاريخ القيروان". واستمر الحسن بن علي يغزو ويفتح حتى مات المنصور وتولى المعز...«([32]). هل معنى هذا الكلام أن صاحب "تاريخ القيروان" قد ألف كتاباً عن تاريخ صقلية؟ جميع المصادر التي تشير إلى ابن شداد الصنهاجي، لا تذكر أن هذا المؤلف قد كتب تاريخاً غير "الجمع والبيان". ومن هنا يتضح أن "تاريخ صقلية" ما هو إلا جزء من كتاب "الجمع والبيان"، لأن أبا الفداء لم يذكر كلمة »كتاب« قبل ذكره لـ"تاريخ صقلية". وما يبرر كتابة تاريخ صقلية في كتاب "الجمع والبيان" هو أن عنوان كتاب ابن شداد الصنهاجي هو "الجمع والبيان في أخبار القيروان ومن فيها وفي سائر بلاد المغرب من الملوك والأيام". ويعني »سائر بلاد المغرب« في تلك الفترة المغرب الأوسط والمغرب الأقصى والأندلس وصقلية، وهو ما تسميه بعض المصادر المشرقية»بلاد الغرب«وبالفعل، تتحدث المقتطفات التي نقلها أبو الفداء عن "الجمع والبيان" عن دولة الزيريين الصنهاجيين بغرناطة وانقراضها على يد المرابطين([33]). وفي رأينا أن اعتبار "تاريخ صقلية" كتاباً منفصلاً، لابن شداد الصنهاجي، من الأخطاء التاريخية([34]).
       
ابن شداد الصنهاجي وكتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان ومن فيها وفي سائر بلاد المغرب من الملوك والأيام"
        ذكر ابن الفوطي الشيباني في كتابه "مجمع الآداب في معجم الألقاب" أن فخر الدين علي بن عبد العزيز بن شداد القيرواني سمع كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان" على والده أبي العرب في شهر رجب سنة 597 هـ/ 1200 م([35]). ويتضح من خلال هذه الفقرة أن ابن شداد قام بإملاء كتابه على ابنه فخر الدين علي، قبل نهاية القرن السادس الهجري بثلاث سنوات. وما يبرر هذا التاريخ هو أن العماد الأصفهاني الكاتب لم يتمكن من الاطلاع على هذا الكتاب عند لقائه بالمؤرخ المغربي سنة 571 هـ/ 1175 م، لأن الكتاب لم يتم نسخه بعد. كذلك، ذكر ابن الفوطي الشيباني أن ابن شداد صنف كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان"، وذكر فيه جميع أخبار المغرب من القيروان وأفريقية والأندلس وصقلية، وانتخب أخبار التواريخ السابقة له من تأليف عطية بن مخلد بن رباح المغربي وابن اليسع الأندلسي وأبي إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق([36]). وعطية بن مخلد بن رباح المغربي مؤرخ غير معروف، ألف كتاباً في التاريخ يُحتمل أن يكون قد هاجر إلى المشرق، ومن هنا جاء نسبه المغربي. أما ابن اليسع الأندلسي، فإن اسمه الكامل هو أبو يحيى اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع الغافقي الجياني البلنسي. نشأ ابن اليسع بجيان، ثم ببلنسية في بلاد الأندلس، ليرحل بعد ذلك إلى المشرق ويستقر بمصر عام 560 هـ/ 1164 م. وخلال هذه الفترة، اتصل هو كذلك بصلاح الدين الأيوبي وأصبح من مقربيه، ثم ألف كتاباً في التاريخ سماه "المغرب في محاسن أهل المغرب". توفي ابن اليسع الأندلسي بمصر عام 575 هـ/ 1179 م. ولعل مكانته ببلاط صلاح الدين الأيوبي قد مكنته من التعرف إلى ابن شداد القيرواني؛ واستفاد هذا الأخير من كتاب "المغرب في محاسن أهل المغرب"([37]).
        المصدر الثالث، وربما الرئيس، الذي اعتمد عليه ابن شداد الصنهاجي في كتابة تاريخه هو "تاريخ أفريقية والمغرب" لأبي إسحاق إبراهيم أبي القاسم المعروف بالرقيق القيرواني. هذا المؤرخ أصله من القيروان، وعمل بها كاتباً للدولة الباديسية الزيرية، وقد بعث معه الأمير باديس بهدية إلى الخليفة الفاطمي الحاكم سنة 388 هـ998 م. وبعد هذا التاريخ، لا نعرف كثيراً عن حياته، لكن من المؤكد أن المعز بن باديس أعدمه سنة 420 هـ/ 1030 م. وقد ترك الرقيق القيرواني عدة مؤلفات إلى جانب تاريخه الكبير كـ"كتاب النساء" و"كتاب الروح والارتياح" و"كتاب نظم السلوك في مساهرة الملوك" و"الاختصار البارع الجامع". لكن كتاب "تاريخ أفريقية والقيروان" هو الذي حظي باهتمام المؤلفين العرب، حتى أن ابن خلدون اعتبر مؤلِّفه من أحسن مؤرخي الغرب الإسلامي([38]).
        وتؤكد قراءة المقتطفات المنتقاة من كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان" أن هذا الكتاب قد جمع أخبار الغرب الإسلامي، بما فيها صقلية، من بداية الفتح إلى نهاية ثورة الميورقيين على الحكم الموحدي. وبفضل ما نسخه عنه شهاب الدين النويري (ت 733 هـ/ 1332 م)، نعرف المحاور الكبرى لكتاب "الجمع والبيان"، والتي لا تختلف كثيراً عن القطعة الموجودة من "تاريخ أفريقية والمغرب" للرقيق القيرواني([39]).
        افتتح ابن شداد كتابه بمدخل عن فتوح أفريقية عارضاً خلالها ولاية معاوية بن حديج الكندي وولاية عقبة بن نافع الفهري، حيث ذكر قصة بناء مدينة القيروان إلى ولاية عقبة الثانية. وبعد ذلك، ينتقل إلى مختلف الأحداث السياسية التي واكبت الفتح كمقاومة كسيلة للمسلمين ومقتل عقبة بن نافع، ليتعرض بالتفصيل إلى ولاية حسان بن النعمان الغساني ومقتل الكاهنة، والتي تم على أثرها الفتح النهائي لبلاد المغرب([40]). وقد استغل ابن شداد الصنهاجي الحديث عن ولاية موسى بن نصير لتقديم لمحة عن عمليات فتح الأندلس. لكن المؤرخ المغربي يترك الأندلـس جانبـاً ليـعود إلى الحديث عما يسميه المؤرخون »عصر الولاة بالمغرب«([41]) حين كان الولاة يعيِّنهم الخليفة الأموي بدمشق، بدءاً بمحمد بن يزيد إلى ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي. وقد جعل ابن شداد القيرواني فترة حكم كل والٍ أساساً ينطلق منه في كتابة التسلسل الزمني للأحداث السياسية التي وقعت ببلاد المغرب خلال العهد الأموي وأوائل العهد العباسي، مبرزاً الدور البارز لبعض الولاة كعبد الله بن حبيب ومحمد بن الأشعث الخزاعي. وبعد أن يستعرض ابن شداد مختلف الظروف التي أحاطت بوصول الأغالبة لحكم أفريقية، يختار أفريقيا إطاراً جغرافياً يدور حوله كل تاريخ المغرب نافياً حكم الرستميين بتاهرت([42]) والأدارسة([43]) بفاس وبني مدرار بسجلماسة. وهذا كله يبين النزعة العدائية للمؤلف ضد الخوارج والإباضية، لأنه اعتمد أساساً في كتابة تاريخ هذه الفترة على كتاب الرقيق القيرواني المعروف بنزعته الشيعية المناهضة للحركات الخارجية. وقد لقيت السلالة الأغلبية بأفريقيا مكانتها المحورية في كتاب "الجمع والبيان". لذا اهتم ابن شداد القيرواني بذكر أهم الأحداث المحيطة بكل وال أغلبي: إبراهيم بن الأغلب، وأبي العباس عبد الله بن إبراهيم، وأبي محمد زيادة الله، وأبي عقال الأغلب بن إبراهيم، وأبي العباس محمد بن الأغلب، وأبي إبراهيم أحمد بن محمد، وأبي محمد زيادة الله بن محمد، وأبي عبد الله بن أحمد بن أحمد، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد، وأبي العباس عبد الله بن إبراهيم، وأخيراً أبي مضر زيادة الله بن أبي العباس، الذي به انقرض حكم الأغالبة في أفريقية، بعد نجاح الدعوة الشيعية ببلاد كتامة. وقد ذكر ابن شداد تفاصيل كثيرة عن الأحداث السياسية لأفريقية الأغلبية، لكنه نقص من أهمية الفترة الفاطمية، التي سنعود إلى ذكرها، لكونها ستمكننا من معرفة التوجه السياسي والمذهبي لهذا المؤلف.
        بانقضاء الفترة الفاطمية ببلاد المغرب، يركز ابن شداد الصنهاجي اهتمامه على دور أسلافه من خلال التتبع الدقيق لبدء دور صنهاجة بالمغرب الأوسط واتصالها بالفاطميين، معطياً لمحة تاريخية عن تاريخ صنهاجة ونسبها قبل فترة زيري بن مناد. وقد دوَّنَ هذا المؤرخ المغربي على الخصوص قصة بناء مدينة أشير بجبال التيطري، ثم الحرب بين زيري بن مناد، أمير صنهاجة([44])، والقبائل الزناتية والتي انتهت بمقتل زعيم الصنهاجيين بالمغرب الأوسط. ثم خلف بلكين بن زيري والده على رأس القبائل الصنهاجية ليبسط كامل نفوذه على بلاد المغرب. وقد أَلْهَمَ هذا الحدث ابن شداد القيرواني ذِكْرَ أخبار مفصلة عن ولاية هذا الأمير البربري وحروبه ضد أعدائه في المغرب الأوسط والأقصى. وحظي تَعاقُبُ أمراء هذه السلالة البربرية على حكم المغرب بتغطية هامة من طرف ابن شداد الذي ذكر أهمالأحداث الواقعة تحت حكم المنصور بن بلكين ثم ابنه باديس. لكن خروج حماد واستقلاله بالمغرب الأوسط حظي بأهمية كبرى في كتاب "الجمع والبيان". ومع بداية فترة حكم باديس، بدأت النزعة الباديسية لابن شداد الصنهاجي تتضح جلياً، بحكم أن هذا الأخير ينتسب إلى الفرع الباديسي للزيريين. وقد جعل ابن شداد من ولاية كل أمير زيري باديسي محوراً لكتابة تاريخ هذه الفترة، في حين لم يتطرق للحماديِّين إلا في إشارات عابرة، متصلة أساساً بالاحتكاك الباديسي ـ الحمادي أو يبالغ في سرد الأحداث الخاصة بهزيمة أصحاب قلعة بني حماد أمام خصومهم، كما حدث بسبيبة أمام العرب الهلالية. وتحظى أفريقية والمغرب الأوسط باهتمام ابن شداد، لكنه يولي المنطقة الأولى أكبر اهتماماته، لأنها عرفت حضور العائلة الباديسية التي أعطاها كامل الشرعية لوراثة العرش الزيري، ضد الحماديين، أصحاب القلعة وبجاية([45]). بعد تطرق ابن شداد الصنهاجي لأهم مراحل الحكم الباديسي بالمهدية وانقضائه، يتعرض لاستيلاء النورمان على جزيرة حربة وطرابلس وبعض المدن الأفريقية مثل صفاقس وسوسة والمهدية.
        بعد انتهاء حكم البادسيين (الزيريين) من أفريقية، انتقل ابن شداد القيرواني إلى الحديث عن أقوى دول المغرب الأقصى: المرابطين والموحدين. ففيما يخص السلالة الأولى، ابتدأ المؤرخ المغربي هذا الفصل من كتابه بالحديث عن بداية الدعوة المرابطية([46])، خصوصاً في عهدي أبي بكر بن عمر اللمتوني وعبد الله بن ياسين الجزولي. وبعد أن استعرض ابن شدَّد القيرواني أخبار يوسف بن تاشفين، ركز على دور هذا الأمير المرابطي في حروبه ضد النصارى وفي تعامله مع طوائف الأندلس. وبعد استعراضه السريع لولاية تاشفين بن علي، انشغل بدولة الموحدين([47]) عارضاً أسباب ظهورهم ودور المهدي بن تومرت وأبي عبد الله الونشريسي في تنظيم الدعوة، ثم الحركة الموحدية. وبوفاة المهدي بن تومرت، فتح عبد المؤمن بن علي مراكش وجميع مدن المغرب الأقصى. هذه الأحداث لم تمر دون لفت انتباه ابن شداد القيرواني، الذي قد يكون لقي عبد المؤمن بن علي بالجزائر. ونعتقد أن القسم التاريخي الأصيل في كتاب "الجمع والبيان" يبدأ منذ فتح الموحدين للمدن الحمادية بالمغرب الأوسط، لأن ابن شداد سيصبح في أغلب الأحيان شاهد عيان، من خلال مشاركته إلى جانب الجيش الموحدي في أغلب الفتوحات([48]). وبطبيعة  الحال، لقد أطال حديثه ومجد الفتح الموحدي لبلاد بني حماد أعمامه الأعداء والمدن الأفريقية. وكان للقضاء على الوجود النورماني بالمهدية وأفريقية([49]) مكانته في كتاب "الجمع والبيان"، لكونه ـ كما ذكرنا ـ مشاركاً فيه إلى جانب الموحدين. ثم ينتقل ابن شداد للحديث عن ولاية حلفاء الموحدين كأبي يعقوب يوسف وأبي عبد الله محمد بن أبي يوسف يعقوب وجهودهم في إخماد الثورات ومقاومة نصارى الأندلس. وينهي كتاب"الجمع والبيان" تدوينه للأحداث عند انتهاء محاولة الميورقيين إحياء الدولة المرابطية وفشلهم في المغرب الأوسط وأفريقيا مع نهاية سنة 581 هـ/ 1186 م. لكن هذا الجزء ليس أصيلاً في الكتاب، لأن ابن شداد كان في تلك الفترة مقيماً في دمشق، وأغلب معلوماته استقاها من كتاب عطية بن مخلد، وعلى الخصوص من أفواه التجار المغاربة بدمشق. قال التيجاني في ذلك:

                 وفي "تاريخ" ابن شداد ذكر شدة ما انتهى إليه حال أفريقية أيام استيلاء علي بن إسحاق الميورقي عليها، فقال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن البراء المهدوي وقد وصل إلى دمشق في هذه السنة ـ يعني سنة اثنين وثمانين وخمسمائة ـ قال: فسألته عن أحوال أفريقية، فقال: هلك العباد وخرب البلاد ([50]).

إذن  فمصادر "الجمع والبيان" في الفترة الأخيرة، كانت شفوية، مستقاة من المهاجرين المغاربة في دمشق.
        وخلاصة القول حول هذا الكتاب هو أن عنوانه يعكس محتواه: فـ"الجمع والبيان في أخبار القيروان، ومن فيها من سائر بلاد المغرب من الملوك والأيام" جمع فعلاً الأخبار التي تم تدوينها في كتب سابقيه مثل تاريخ الرقيق القيرواني وابن اليسع الأندلسي وبيَّن أخباراً عاشها أو شاهدها أو استقاها من الأرشيفات الخاصة بها، كما فعل في بلاط المهدية؛ كما جعل من القيروان المنطلق الأساسي لكتابه، فهي حاضرة أفريقيا إلى غاية اضمحلالها؛ كما أن ابن شداد لم يهمل أخبار المغربين الأوسط والأقصى، وعلى الخصوص تاريخ الموحدين ونشاطهم في جميع بلاد المغرب.
       

ابن شداد الصنهاجي والفاطميّون
        وخلقت قضية أصل الحركة الفاطمية وبدايتها، جدلاً كبيراً بين المؤرخين الذين كتبوا حول أصحاب أفريقية ومصر وسورية. فمنهم من اعتبر أصلهم يهوديّاً معادياً للإسلام، ومنهم من نزع عنهم هذه التهمة التي ألصقت بهم من العباسيين الذين خططوا لحرب إعلامية للإطاحة بنظام الخلافة الفاطمية بمصر. لقد كان ابن خلدون أشهر ممثلي هذا الرأي الأخير. والسؤال المطروح هو: كيف عالج ابن شداد الصنهاجي هذه المسألة؟ ولماذا تبرأ مؤرخ مصر الشهير تقي الدين المقريزي (ت 845 هـ/ 1441 م) من كلام صاحب "الجمع والبيان" عندما كتب: »أستغفر الله مما سطرته، وما زادنا هذا الأمير عز الدين على أن جمع إلى قول الشريف العابد أخي محسن قول القاضي أبي حنيفة النعمان سوى التشنيع وإيراد هذا الزور والإفك الصريح الذي يكفي من الرد عليه حكايتُه«([51]).
        للإجابة على هذه الأسئلة، لدينا قطعة عن تاريخ الفاطميين كتبها ابن شداد الصنهاجي ونقلها عنه حرفيّاً تقيّ الدين المقريزي في كتابه "المقفى الكبير"([52]). يربط مؤرخ المغرب الوسيط، نشأة الإسماعيلية بالزندقة. ويقول في هذا الصدد إن من أظهر الزندقة في الإسلام هو أبو الخطاب محمد بن أبي زينب، مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان صاحب كتاب "الميدان في نصرة الزندقة"، وأبو سعيد من أهل رامهزو من كورة الأهواز. هؤلاء الزنادقة ـ كما يقول ابن شداد ـ انتحلوا التشيع لبني هاشم أيام بداية الدولة العباسية، مما ساعدهم على ضمان حمايتهم من طرف البلاط العباسي؛ لكن لما تم اكتشاف أمر أبي الخطاب وحركته الزندقية من أنه أسقط العبادات وحلل المحرمات، أعدمه عيسى بن موسى الهاشمي مع سبعين من أنصاره. وقد تفرّق الناجون من هذه المجزرة في مختلف نواحي العالم الإسلامي كخراسان وبيت المقدس. وفي هذه المدينة الأخيرة، تمَّت إعادة هيكلة التنظيم الذي رتبه أبو الخطاب بفضل مجهودات عبد الله القداح، أحد أبناء شاكر بن ميمون، الذي هو المنظر الأساسي لحركات الزندقة.
        وذكر ابن شداد الصنهاجي أن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح قَوِيَ أمره وكثرت أمواله، فادعى أنه وعائلته من ولد عقيل بن أبي طالب. ولتحقيق هذه الغاية، استتروا، وغيروا أماكنهم وأسماءَهم وحتى أسماء دعاة هذا التنظيم الإسماعيلي السري. فلما مات أحمد، خلفه أحد إخوته وهو الحسين، الذي انتقل إلى سلمية([53]) الواقعة بأرض حمص، ليستفيد من الودائع التي تركها هناك جده عبد الله القداح تحت تصرف الوكلاء والغلمان والأتباع. لكن أحد أبناء البيت »القداحي« بقي ببغداد، وهو المكنى بأبي الشلعلع والذي ادعى أنه مؤدبٌ بآداب الملوك. ويروي ابن شداد الصنهاجي أن الحسين بن القداح تعرف إلى زوجة رجل يهودي حدَّاد، مات عنها زوجها، فأعجب هو بها، لأنها كانت في غاية الجمال وإن كانت فقيرة وذات ولد، فتزوجها وعظم ابنها، بحيث أدبه وعلمه. وهنا يستعرض ابن شداد آراء العلماء في هذه القصة. فبعضهم يقول إن الإمام الشيعي هو الذي كان بسلمية من ولد القداح، مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى الولد اليهودي، ابن الحداد، الذي أصبح فيما بعد هو عبيد الله. وقد تلقى هذا الأخير أسرار الدعوة وعلاماتها من الحسين ولد القداح. فعرَّف الحسين هذا عبيد الله، ابن اليهودي، مواقع الدعاة أيضاً وأعطاه الأموال وولاه على الأعمال وأمر الوكلاء بطاعته، على اعتبار أن هذا الولد هو الإمام. ولإتمام عمله، زوج بنت عمه (بنت محمد أبي الشلعلع) لعبيد الله.
        وعبيد الله هذا هو الذي سيكون أول إمام فاطمي بالمغرب. وفي الأخير، يوضح ابن شداد القيرواني أن هذه المعلومات استقاها من قول أبي القاسم الأبيض العلوي([54]) وغيره من العلماء المختصين بأمور الدعوة الإسماعيلية([55]). كذلك ذكر مؤرخ المغرب أن بعض الناس، على قلة عددهم، يقولون إن عبيد الله قد يكون من ولد القداح. وتسفر المعلومات التي ذكرها ابن شداد الصنهاجي عن الشجرة الآتية:

عبد الله بن ميمون القداح
 

أحمد
 


  محمد أبو الشلعلع                                          الحسين
 

بنت زوجة عبيد الله                                     عبيد الله (بالتبني)

        يبين هذا النص المتعلق بأصل الفاطميين أن نشوء الدعوة الشيعية الفاطمية كان عبارة عن تمازج بين الفكر الزندقي والتأثير اليهودي، وكان هذا النجاح بفضل غطاء التشيع لآل البيت. ومن هنا يظهر أن معلومات ابن شداد ليست أصيلة، بل هي مستوحاة من الكتابات التي تأثرت بالحملة »الإعلامية« التي دشنها البلاط العباسي ببغداد، والتي وجدت رواجاً لها بفعل »التشهير« بها ونشرها على منابر المساجد. كل هذا لم يمر دون إدخال أقلام المؤرخين في هذا الفلك »السياسي«؛ فقليل من تفطن لأغراض هذه الحملة »الشرسة« على الفاطميين. إذ أدَّت »الإيديولوجية العباسية« دوراً كبيراً في توجيه قلم ابن شداد الصنهاجي، الذي كان مناوئاً، كعائلته الزيرية بالمغرب، للبلاط الإسماعيلي بالقاهرة المعزية. إن هذا النص التاريخي لابن شداد هو محاولة يائسة للـ»ـثأر« من دولة أعزت، ثم حطمت مجد أجداده من خلال تقليد بني زيري حكم المغرب، ثم إرسال القبائل البدوية لتحطيمهم.
       
"الجمع والبيان" ومؤرخو المغرب الأوسط
        لقي كتاب "الجمع والبيان في أخبار المغرب والقيروان" رواجاً كبيراً في الوسط العلمي بالمشرق، بحيث أصبح المرجعية الأساسية لكل مؤلف يكتب عن تاريخ »الغرب«. هذا، في حين لم يجد كتاب "الجمع والبيان" طريقه إلى المغرب، إذ لم يطلع عليه إلا الرحالة التونسي التيجاني بالقاهرة أو بدمشق خلال القرن الثامن الهجري. وقد بحث عنه ابن أبي دينار القيرواني بالمغرب، لكنه لم يجده؛ وهذا ما جعله يتأسف لذلك، إذ استلهمته المقتطفات التي نقلها عنه التيجاني في رحلته. وقد جعل الاستعمال الواسع لتاريخ ابن شداد الصنهاجي المصدر الأصليَّ يفقد أهميته، لأن المحتوى استعمله كبار مؤرخي المشرق، فيما يخص أخبار الغرب الإسلامي. وجعله فقدان أهمية المصدر الأصلي يدخل في دائرة الإهمال، وبالتالي التخلي عن نسخ مجلدات أخرى من الكتاب، وهذا ما جعله مفقوداً إلى غاية كتابة هذا المقال. وفي ما يلي أهم المؤرخين الذين استفادوا من كتاب "الجمع والبيان" في كتابة مؤلفاتهم:
        1  ـ  عز الدين بن الأثير (ت 630 هـ/ 1233 م) في كتابه "الكامل في التاريخ"([56]). ولعل هذا المؤرخ الكبير حصل على نسخة من كتاب "الجمع والبيان" عند مروره بدمشق أو بواسطة أخيه ضياء الدين، الذي كان من المقربين لصلاح الدين الأيوبي، وقد حدث هذا الاتصال في البلاط الأيوبي بين أمير العساكر الذي هو ابن شداد القيرواني وضياء الدين بن الأثير. وقد اعتمد مؤرخ الموصل بشكل أساسي على ابن شداد الصنهاجي لملء الفراغ الذي يلاحظ على تاريخ المغرب. كما ذكر في مقدمة "الكامل" نظم ابن الأثير "تاريخ ابن شداد" على طريقة الحوادث أو الحوليات (les annales)، ووزعها على كتابه: إذ جعل بعض الحوادث المغربية أهم مجريات بعض السنوات الهجرية. وغالباً ما يعيد ابن الأثير صياغة مجريات الأحداث، على منوال كتابه. ولا يشير صاحب "الكامل" إلى مصادره في أغلب الأحيان ما عدا إشارته إلى الطبري وغيره. ولا نجد إلا إشارة واحدة لعبد العزيز، الذي نرجح أن يكون هو عبد العزيز بن شداد الصنهاجي، صاحب "الجمع والبيان".
        2  ـ  جمال الدين علي بن ظافر الأزدي (ت حوالي 613 هـ/ 1216 م) في كتابه "أخبار الدول المنقطعة"، إذ استعمله على الخصوص في كتابة تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب، لأن ابن ظاهر الأزدي لم يشر إلى مصادره في هذا القسم، فإنه من الراجح أنه اقتبس معلوماته من كتاب "الجمع والبيان". على عكس ما ذهب إليه أندريه فريه (Andre Ferre)، محقق الكتاب، من أن مقارنة النص المحقَّق لكتاب "افتتاح الدعوة" للقاضي النعمان بن محمد (ت 363 هـ/ 947 م)، مع نص ابن الأثير وابن ظافر الأزدي تؤكد استفادة هذين الأخيرين من هذا المصدر الفاطمي، فإن دراسة النص تؤكد عكس ذلك تماماً. ذلك بأنه من المستحيل أن يكتب منظِّر الفكر الإسماعيلي في بلاد المغرب كتاباً ينفي النسب الإسماعيلي للعبيديين. ويسمح لنا التمعن في بعض محاور الكتاب بالتأكُّد من أن ابن ظافر الأزدي استفاد ـ كما هو حال ابن الأثير ـ من كتاب ابن شداد الصنهاجي. والدليل على ذلك هو أن النص نفسه المعادي للفاطميين قد نقله ابن ظاهر الأزدي: »أما النسب، فقد ذكر الشريف العابد الحسيني الدمشقي في كتابه أن المنعوت بالمهدي منهم هو أولهم، كان اسمه بسلمية سعيداً، وأنه سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي، وأنه من ولد ديصان الثنوي«([57]). فهذا النص تعرَّض له تقي الدين المقريزيّ نقلاً عن ابن شداد الصنهاجي كما رأينا.
         ـ  أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن بكر بن خلكان (ت 681 هـ/ 1282 م)، القاضي والمؤلف الشهير في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"([58]). لم يكتب ابن خلكان في كتابه المذكور أيَّ ترجمة لابن شداد القيرواني. فهل اعتبره من غير الأعيان؟ أو أنه لم يستطع أن يجمع ما يكفيه لتدوين ترجمة كاملة للمؤرخ المغربي؟ من الصعب الإجابة عن هذين السؤالين، ما دام ابن خلكان لم يوضح اختياره أو إقصاءه لبعض الشخصيات. لكن المعروف أنه رتّب كتابه على حروف المعجم مقدماً الفقهاء، فالحكام، ثم الشعراء. فاهتمامه الأول كان بفئة الفقهاء، ثم بفئة الحكام. فأين مقام فئة الأمراء »المؤرخين«؟ ذلك سؤال يصعب الإجابة عنه! المهم أن ابن خلكان اقتبس الكثير من الأخبار من كتاب "الجمع والبيان"، وذكر ذلك في كل ترجمة تتعلق بشخصية مغربية (كالترجمة التي خصصها للأمير الباديسي تميم بن المعز ويحيى بن تميم) ([59]). فهو يشير دائماً إلى مقتطفاته قائلاً: »ورأيت في كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان..."«([60]).
        4  ـ  أبو بكر بن عبد الله بن أيبك الداوداري (ت 713 هـ/ 1113 م) في كتابه "كنز الدرر وجامع الغرر"، الجزء الخاص بالفاطميين "الدرة المضيئة في أخبار الدولة الفاطمية". اقتبس منه الداوداري بعض المقتطفات الخاصة بنسب الفاطميين وابتداء دولتهم بأفريقية. والغريب أن هذا المؤلف كتب يقول: »قال صاحب "تاريخ القيروان" رحمه الله تعالى: إن المهدي هو عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السلام«([61]). ومن المعروف أن ابن شداد الصنهاجي كتب ضد الفاطميين وطعن في نسبهم، ولكن المرجح أن يكون الداوداري قد نقل أحد الآراء حول نسب الفواطم مما رواه ابن شداد الصنهاجي في كتابه. كذلك نقل الداوداري بعض الأخبار عن ابن شداد والتي تتعلق بالفاطميين بالمغرب([62]).
        5  ـ  أبو الفداء عماد الدين إسماعيل (ت 732 هـ/ 1331 م) في كتابه "المختصر في أخبار البشر"، إذ استفاد منه في عدة مواضع لكتابة تاريخ المغرب الوسيط إلى غاية نهاية ثورة الميورقيين. تختلف الأخبار التي ينقلها هذا المؤلف الأمير عما كتبه مؤرخو المشرق، بداية من ابن الأثير حول أحداث المغرب الوسيط. فقد رتب تاريخ ابن شداد على طريقة ابن الأثير حوادث كل سنة، ولهذا نجده يأخذ أهم الأحداث المغربية ويعطيها عناوين: جوهر يغزو المغرب، ملك المعز مصر، وفاة باديس بن المنصور، مجزرة الشيعة بالقيروان، انقراض الدولة الصنهاجية من غرناطة، استيلاء الفرنج على صقلية، الحرب بين عبد المؤمن والعرب، ذكر فتح المهدية إلى غير ذلك من أحداث الغرب الإسلامي([63]).
        6  ـ  شهاب الدين الزيري القاهري (ت 733 هـ/ 1333 م) في كتابه الضخم "نهاية الأرب في فنون الأدب". نقل الموسوعي القاهري تقريباً كل ما في كتاب "الجمع والبيان" في موسوعته، بل الأرجح أنه لم يغير أي شيء من الكتاب الأصلي ما عدا بعض الإضافات في بداية كل فقرة مثل: »قال ابن شداد، أو قال عبد العزيز بن شداد...«. فالجزء الرابع والعشرون من موسوعة شهاب الدين النويري هو عبارة عن كتاب "الجمع والبيان" ما عدا تاريخ الفاطميين بالمغرب، فقد وضعه في الجزء الثامن والعشرين، حتى يتسنى له كتابته مع تاريخ الفاطميين بمصر. فإذا أردنا إذن معرفة "تاريخ" ابن شداد الصنهاجي، نستطيع الرجوع إلى موسوعة النويري. وهذا لا يعني أنه قد نهب ما كتب ابن شداد، وإنما قام بضمه إلى موسوعته كما فعل مع كتب أخرى، لأن النويري ليس مؤرخاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما هو مصنِّف (compilateur).
        7  ـ  ابن كثير (ت 774 هـ/ 1373 م) صاحب "التفسير" المشهور باسمه، استفاد من كتاب "الجمع والبيان" في كتابه المعنون "البداية والنهاية". وقد ذكر أنه اقتبس منه نسب الفاطميين وبعض الأخبار المتعلقة بهم. وإن لم يشر صراحة إلى اسم ابن شداد الصنهاجي، فإنه يشير إلى مصدره بـ»قال صاحب تاريخ القيروان«([64]).
        8  ـ  شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ/ 1347 م)، صاحب التآليف العديدة، استغل بعض المقتطفات الواردة من كتاب "الجمع والبيان" في تصوير أخبار الغرب الإسلامي وشخصياته. ونرى هذه الاقتباسات بوضوح في كتابه "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام". ومثال ذلك ما كتبه حول اتفاق السلام الموقع بين الأمير الحمادي الناصر بن علناس، وصاحب المهدية تميم بن المعز بن باديس سنة 470 هـ/ 1078 م([65]).
        9  ـ  صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ/ 1363 م) في كتابه "الوافي بالوفيات"، إذ اقتبس منه عدة ترجمات لشخصيات مغربية. لكن يظهر أنه لم يطلع على كتاب "الجمع والبيان"، لأنه نقلها عن "وفيات الأعيان" لابن خلكان. كتب الصفدي ترجمة لكل من الأمراء الباديسيين، والغريب في الأمر أنه لم يذكر ابن شداد الصنهاجي إلا مرة واحدة، عندما كتب يقول: »على ما ذكر حفيده أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم في كتاب أخبار القيروان«([66]). فلا نجد تفسيراً لإقصاء صاحب "الجمع والبيان" من كتاب "التراجم" الضخم الذي ألفه الصفدي على الرغم من أن ابن شداد عاش فترة كبيرة من حياته بدمشق.
        10  ـ  ابن الفرات الحنفي (ت 807 هـ/ 1405 م) في كتابه "تاريخ الرسل والملوك". وقد ظل هذا الكتاب في أغلبه مخطوطاً في المكتبة الوطنية لفيينا (Vienna) بالنمسا. استعمله ابن الفرات في كتابة أحداث الغرب الإسلامي إلى غاية ثورة الميورقيين، مشيراً في كل مرة إلى كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان". وينقل صاحب "تاريخ الرسل والملوك" حكايات مهمة عن حياة ابن شداد الصنهاجي مثل ما ذكره حول حضوره بالبلاط الزيري بالمهدية([67]).
        11  ـ  التيجاني هو المؤلف المغربي الوحيد الذي اطلع على كتاب "الجمع والبيان" لابن شداد الصنهاجي واقتبس منه. ولولا أنه زار القاهرة ودمشق خلال رحلته التي دونها، لما حصل على ذلك. هذه الاستفادة من تاريخ ابن شداد القيرواني جعلت التيجاني يكتب عن»الجغرافية التاريخية« إن صح التعبير، حيث دون رحلته وأثراها بمعلومات تاريخية قيمة عن أفريقية والمغرب، مستخرجة من "الجمع والبيان" ومن بعض المصادر الأخرى كـ"النبذة المحتاجة في أخبار صنهاجة" لابن حماد الصنهاجي. إضافة إلى ذلك، تحدث التيجاني عن الفتح الموحدي لأفريقية والحروب الكبيرة بين الميورقيين والبلاط الموحدي أو نقل أخبارها. ونقل لنا صاحب الرحلة عن ابن شداد شهادتين مهمتين جداً: الأولى هي لصاحب "الجمع والبيان" نفسه عن فتح المهدية سنة 555 هـ، والثانية لأحد سكان المهدية عندما سافر إلى دمشق سنة 582 هـ([68]).
        12  ـ  تقي الدين المقريزي (ت 845 هـ/ 1441 م) مؤرخ مصر الشهير اعتمد على كتاب "الجمع والبيان" في كل ما يتعلق بتاريخ الفاطميين بالمغرب، لكن مؤرخ مصر كانت له موهبة كبيرة واطلاع واسع جعله يشير إلى تاريخ ابن شداد ويعتمد عليه بتحفظ، لأن هذا الأخير اشتهر لديه بنزعته المعادية للفاطميين. ونقل المقريزي قطعاً كاملة من كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان" في كتابيه "المقفى الكبير" و"اتعاظ الحنفا بتاريخ الأئمة الفاطميين الخلفا". ويعد المقريزي من أواخر من دونوا "تاريخ" ابن شداد الصنهاجي واطلعوا عليه. وباختفاء المقريزي اختفى معه لغز كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان"([69]).
       
الخاتمة
        بعد دراستنا المختصرة لحياة ابن شداد الصنهاجي ولكتابه "الجمع والبيان"، ما النتائج التي نستطيع الوصول إليها؟ أولاً يقدِّم ابن شداد مثالاً عن شخصية مغربية هاجرت إلى المشرق بعد أن كان العكس هو السائد خلال القرون الأولى للهجرة، لأن عدة قبائل وشخصيات مشرقية استقرت ببلاد المغرب والأندلس بعد عمليات الفتح. لكن ابن شداد الصنهاجي يقدِّم لنا في الوقت نفسه مثالاً عن وضعيتين متناقضتين، هما: اندماج مهني سريع، واندماج اجتماعي بطيء. فأما الوضعية الأولى، فكانت تقلده لمنصب أمير العساكر لفائدة صلاح الدين الأيوبي، بعد تكوينه في حلقة ابن عساكر؛ وأما الوضعية الثانية، فكانت اندماجه البطيء لكونه لم يستطع أن يتسلل إلى مختلف الفئات الاجتماعية لدمشق الأيوبية. بل إنه لم يحظ بتقدير المؤرخين وأصحاب كتب التراجم، إذ أنه تم إهماله. ولولا أنه كتب تاريخاً، لتم نسيانه. كما أن ابن شداد يقدِّم لنا مثالاً عن صفوة علمية عسكرية فقدت مكانتها الاجتماعية بفقدانها لمكانتهـا المهنيـة، لأنه صار لا يذكر بعد انسحابه من الحياة السياسية والحياة العسكرية؛ ودليلنا على ذلك أننا لا نعرف تاريخ وفاته، لأنه سقط في عالم النسيان. إنه يقدِّم لنا كذلك مثالاً حياً على ظاهرة تنقل العلماء (la circulation) في العالم الإسلامي الوسيط. هذا التنقل من وسط مالكي بالمغرب إلى وسط مختلف تماماً ـ شافعي أو حنفي على الأكثر ـ جعل ابن شداد الصنهاجي يلقى صعوبة في النفاذ إلى أهم الأوساط العلمية بدمشق. وتدل مكانته التي حصل عليها في الجيش الأيوبي، دلالة واضحة، على الدور الذي أدَّاه السلطان صلاح الدين الأيوبي بصفته موحِّداً وجامعاً لمختلف التيارات الدينية والفكرية للعالم الإسلامي.
        كان لكتاب "الجمع والبيان" الدور الكبير في ربط المغرب الإسلاميّ بمشرقه، إذ كان هو المرجع لكل من يريد الاطلاع على تاريخ المغرب والأندلس وصقلية. وهذا الكتاب هو الذي جعل المؤرخ الكبير عز الدين بن الأثير ينتقد من كتب قبله حول تاريخ المسلمين، لأنه كما قال: »الشرقي أهمل أخبار الغرب، والغربي أهمل تاريخ الشرق الإسلامي«.  فكان من كتاب "الجامع والبيان" أن أعطى له تاريخ العرب الإسلامي، وهذا ما جعل ابن الأثير يسمي كتابه بـ"الكامل في التاريخ". ولكن ـ ويا للأسف الشديد! ـ جعل الاستعمال الواسع لتاريخ ابن شداد، المؤرخين الذين جاءوا بعد المقريزي ينسونه، لأنهم وجدوا في كتابات »المشارقة« ما فيه كفاية لمعرفة تاريخ المشرق والمغرب في كتاب واحد. هذا الاستغناء عن الكتاب الأصلي جعله يسقط في طي النسيان مع نهاية القرن التاسع الهجري، حتى أن شمس الدين السخاوي، صاحب الاطلاع الواسع، لم يذكره في قوائم الكتب العديدة التي ذكرها حول تاريخ حواضر المغرب الإسلامي.
        وأخيراً، أثرت النزعة المعادية للفاطميين بالشام بوضوح في التوجه »الإيديولوجي« لابن شداد الصنهاجي، هذه النزعة غذاها صلاح الدين الأيوبي الذي أنهى حكم السلالة الإسماعيلية، وبعض الأوساط الدمشقية العلوية المعادية للمذهب الإسماعيلي الباطني، وهي التي عبر عنها المقريزي بـ»ـالنسابيين العلويين« الذين ـ كما ذكر المقريزي ـ بالغوا في القول بالنسب اليهودي للفاطميين أو العبيديين([70]). وقد تغذت هذه الأوساط بالكتابات التي سطرها العديد من الإخباريين والنسابين كابن مالك في كتابه "أسرار الباطنية"، والغزالي في "فضائح الباطنية".


([1])       حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، د. ت، مج 1، ص. 29.
([2])       Rosseevw de Saint-Hilaire, Histoire d’Espagne, Paris, 1938, vol. III, pièces justificatives IV, p. 541.                                                                      
([3])       Michele Amari, Storia der musulmani di Sicilia, Catania Prq; polini. rééd., 1933, vol. I, pp. 40-41 et vol. II, p. 486.                                                        
([4])       Carl Brockelmann, Geschichte der Arabischen Litteratur, Leiden, E. J. Brill, 1937, supplément I, p. 575.                                                                            
([5])        Hady Roger Idris, La Berbérie orientale sous les Zirides, Paris, Maisonneuve, 1959, vol. I, pp. XVIII-XIX.                                                   
([6])        Mohammed Talbi, « Ibn Shaddad », dans Encyclopédie de l’Islam, nouvelle édition, vol. III, pp. 957-958.                                                                         
([7])        محمد محفوظ، تراجم المؤلفين التونسيين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984، مج 3، ص. 150.
([8])      ابن الفوطي الشيباني، مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق محمد الكاظم، مؤسسة الطباعة والنشر ووزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، 1416 هـ، مج 1، ص. 231.
([9])         انظر النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق حسين نصار وعبد العزيز الأهواني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983، مج 24، صص. 160 ـ 161.
([10])       ابن الصغير، تاريخ الأئمة الرستميين، تحقق محمد ناصر وإبراهيم بحاز، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986، ص. 108.
([11])       انظر حول بناء مدينة أشير ووصفها: ابن حوقل، صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، د.ت.، ص. 89؛ البكري، المسالك والممالك، نشر الجزء الخاص بالمغرب البارون دوسلان، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1993، ص. 60؛ مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، نشر سعد زغلول عبد الحميد، كلية الآداب لجامعة الإسكندرية، الإسكندرية، 1958، ص. 170؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977، مج 1، صص. 202 ـ 203؛ انظر كذلك حول التنقيبات:
                   Chabassière « Le Kef el-Akhadar et ses ruines », dans Revue Africaine, 13, 1869, pp. 116-121; G. Marçais, « Recherches d’archéologie musulmane (Achir) », dans Revue Africaine, 310, 1922, pp. 21-38.
([12])        حول ثورة أبي يزيد النكاري، انظر: القاضي النعمان بن محمد، كتاب المجالس والمسايرات، تحقيق الحبيب الفقي وآخرون، جامعة تونس، تونس، 1978، ص. 492؛ العزيزي الجوذري، سيرة الأستاذ جوذر، تحقيق م. ك. حسين وم. شعيرة، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.، صص. 44 ـ 49؛ ابن حماد الصنهاجي،أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم، تحقيق ج. أ. البدوي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، صص. 33 ـ 44؛ عماد الدين إدريس، عيون الأخبار وفنون الآثار، تحقيق م. يعلاوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، صص. 416 ـ 444؛ ابن ظافر الأزدي، أخبار الـدول المنقـطـعـة، حقـق الجزء الخاص بالفاطمـيين أ. فيري،    =
=         مطبوعات المعهـد الفرنسي للدراسات الشرقية، القاهرة، 1972، ص. 15. انظر حصيلةً عن أهم المصادر في: إحسان عباس، »مصادر ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد«، ضمن أشغال الملتقى الأول لتاريخ وحضارة المغرب، تونس، 1970، صص. 113 ـ 129.
([13])       وردت هذه العبارة في عدة مصادر تاريخية منها: الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، نشر إبراهيم طلاي، مطبعة البعث، قسنطينة، 1974، مج 2، ص. 138؛ ابن خلدون، كتاب العبر، مؤسسة جمال للنشر، بيروت، د. ت.، مج 6، ص. 155؛ الشماخي، كتاب السير، طبعة حجرية، قسنطينة، د. ت.، ص. 355.
([14])       هذا هو السبب الذي ذكره ابن خلكان (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، د. ت.، مج 6، ص. 211).
([15])       المقريزي، كتاب المقفى الكبير، تحقيق محمد يعلاوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1991، مج 4، ص. 594.
([16])       المصدر نفسه، ص. 534.
([17])       بخصوص هذا النسب، تكاد المصادر التاريخية المغربية تجمع على النسب الحميري لصنهاجة وكتامة. ويعد هشام بن الكلبي (ت 204 هـ/ 819 م) من أقدم النسابين الذين روجوا هذه الفكرة. (انظر: هشام بن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، تحقيق محمد فردوس العظم، دار اليقظة العربية، دمشق، د. ت.، مج 2، ص. 295، حيث كتب يقول: » وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة ابني السور ابن سعيد بن جابر بن سعيد بن قيس بن صفي، فهم إلى اليوم وهم قبيلتان«).
([18])       ابن الفرات الحنفي، تاريخ الرسل والملوك، مج 1، ص. 17.
([19])         النويري، المصدر السابق، مج 24، ص. 319.
([20])           هناك عدة دراسات حول حياة الإدريسي، لكن يحبذ الاطلاع على بحثنا الأخير الذي كتبناه بالاشتراك مع أنليز ناف:
                   Allaoua Amara et Anneliese Nef, « Al-Idrisi et les Hammadides de Sicile: nouvelles données biographiques sur l’auteur du Livre de Roger », dans Arabica, XL-VIII-I, janvier 2001, pp. 121-127.
([21])           حظيت صقلية الإسلامية ببعض الدراسات، نذكر منها تلك الدراسة الكبيرة التي قام بها ميخائيل أماري Michèle Amari)) في كتابه الضخم (6 أجزاء)، الذي ذكرناه سابقاً؛ كذلك نشير إلى دراستين بالعربية: الأولى لأمين توفيق الطيبي، دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية، دار الكتب الوطنية، بنغازي، 1990؛ والثانيـة من تأليف: تقي الدين عارف الدوري، صقلية  علاقتها      =  
=                 بدول البحر المتوسط الإسلامية. من الفتح العربي حتى الغزو النورمندي (212 ـ 484 هـ/ 827 ـ 1091 م)، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت. كما تجدر الإشارة لرسالة دكتوراه قيمة قدمها لينرد شارل شيرالي، حول صقلية في العهد الفاطمي.
                   Leanard Charles Chirelli, Sicily during the Fatimid Age, The University of Utah, June 1982, 266 p.
([22])           مثل الأمير الحمادي عبد الله بن العزيز وأخيه الحارث، اللذين التقيا هناك بابن بشرون الصقلي.
([23])          أبو الفدا، كتاب المختصر في أخبار البشر، المطبعة الحسينية، القاهرة، د. ت.، مج 3، ص. 201. للإشارة، فإن الباحثة الناشئة أنليز ناف (Annliese Nef) تحضر رسالة دكتوراه حول »العنصر الإسلامي بصقلية النورمانية «(l’élément islamique en Sicile normande) بجامعة باريس العاشرة، نانتير (Nanterre).
([24])          التيجاني، الرحلة، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، الدار العربية للكتاب، تونس، 1981، ص. 347.
([25])           شمس الدين السخاوي، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشب، مكتبة الساعي، الرياض، 1989، ص. 173.
([26])           ابن الفوطي الشيباني، المصدر السابق، مج 1، ص. 231.
([27])           العماد الأصفهاني الكاتب، خريدة القصر وجريدة العصر، القسم الرابع، شعراء العرب وصقلية ومصر، نشر ع. الدسوقي، ع. ع. العظيم، دار نهضة مصر للطبع والتوزيع، الفجالة، د. ت.، ص. 167.
([28])         التجاني، المصدر السابق، ص. 14.
([29])           انظر حول هذه الإمارة: العماد الأصفهاني، المصدر الأسبق، ص. 167؛ وكذلك إحسان عباس، المرجع السابق، ص. 21.
([30])          ابن الفوطي الشيباني، المصدر السابق، مج 1، ص. 231.
([31])          المصدر نفسه، مج 3، ص. 84.
([32])         أبو الفداء، المصدر السابق، مج 2، ص. 96.
([33])           المصدر نفسه، مج 2، ص. 198.
([34])           يعتبرالهادي روجي إدريس (H. R. Idris, op. cit., vol. I, p. XVIII ) من الأوائل الذين ذكروا أن ابن شداد الصنهاجي مؤلف لكتاب تاريخي حول صقلية.
([35])           ابن الفوطي الشيباني، المصدر السابق، مج 3، ص. 84.
([36])           المصدر نفسه، مج 1، ص. 231.
([37])         حول ترجمة ابن اليسع: انظر عز الدين أحمد موسى، دراسات في تاريخ المغرب الإسلامي، دار الشروق، بيروت، 1983، ص. 43.
([38])           حول حياة الرقيق القيرواني، انظر: الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات، تحقيق ديدرينق، وإسبادن، 1972، مج 6، ص. 92؛ ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات والذيل عليها، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1973، مج 1، ص. 41؛ محمد بن محمد الأندلسي الوزير السراج، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، تحقيق محمد الحبيب هيلة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984، مج 1، ص. 359. فيما يخص الدراسات المعاصرة، فهي قليلة، منها ما كتبه عبد العزيز قلقيلة، البلاط الأدبي للمعز بن باديس، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1983، ص. 115؛ وما كتبه كذلك الشادلي بويحيى (Chedly Bouyahia, La vie littéraire  (en Ifriqiya sous les Ziridesn, Tunis, s.t.d, 1972, pp. 138-139؛ وقد قدم اسمه خطأ في "دائرة المعارف الإسلامية" (انظرٍ: Mohammed Talbi, « Ibn al-Rakik », dans (Encyclomédie de l’Islam, vol. III, p. 927                                                   .
([39])           الرقيق القيرواني، تاريخ أفريقية والمغرب، تحقيق ع. الزيدان وعز الدين أحمد موسى، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990.
([40])           حول عمليات فتح المغرب، هناك عدة بحوث. لكن تبقى ـ ويا للأسف! ـ ناقصة، نتيجة نقص المصادر التاريخية. (انظر على سبيل المثال: Hussain Monès, « La conquête de l’Afrique du Nord et la résistance berbère », dans Histoire générale de l’Afrique, Paris, Unesco/ Néa, 1990, vol. III, pp. 251-271; E. Lévi-Provinçal, « Arabica occidentalia, I-1: un nouveau récit de la conquête de l’Afrique du nord par les Arabes », dans Arabica, I, 1954                                         .
                   وهناك باللغة العربية عدة محاولات، منها دراسة لموسى لقبال بعنوان "الغرب الإسلامي، من بناء معسكر القرن حتى انتهاء ثورات الخوارج"، الشركة الوطنية للتوزيع، الجزائر؛ فيما يخص انتشار الإسلام بالمغرب، تكاد الدراسات تكون منعدمة ما عدا بعض المحاولات باللغات الأوربية والتي تبقى غير معمقة، وينقصها جانب التوثيق. نذكر على سبيل المثال:
                    Alfred Bel, La religion musulmane en Berbérie Esquisse d’histoire et de sociologie, Paris, Unesco/ Néa, 1990, vol. III, pp. 84-92; Belochi, La conversion des Berbères à l’Islam, Tunis, Maison tunisienne d’édition, 1981.
([41])           لم يحظ عصر الولاة هو أيضاً بدراسات جادة، اللهم إلا ما كان من بعض الكتابات العابرة. وقد قام المؤرخ والمفكر التونسي هشام جعيط بدراستين ممهدتين حول هذه الفترة باللغة الفرنسية: Hichem Djait, « La wilaya de l’Ifriqiya au II/VIII siècle. étude institutionnelle », dans Studia Islamica XXVII, 1967, pp. 77-121; Id. « L’Afrique arabe au VIII siècle 86-184/ 705-800 », dans Annales: économie, société et civilisation, année 28, n°3, 1973, pp. 601-621؛ وبالعربية هناك الدراسات التي قام بها الباحث الجزائري عبد العزيز فيلالي في كتابيه: المظاهر الكبرى لعصر الولاة ببلاد المغرب والأندلس، دار المعارف، تونس، 1991؛ والعلاقات السياسية بين الدولة الأموية في الأندلس ودول المغرب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1982. لكن البحث الجاد الأخير يحمل توقيع الباحثة المصرية نريمان في كتابها "مجتمع أفريقية في عصر الولاة" الذي هو عبارة عن رسالة دكتوراه دولة نشرها بالقاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.
([42])           حظيت الدولة الرستمية بتيهرت باهتمامات بعض الباحثين، نذكر منهم على سبيل المثال: Brahim Zarouki, L’imama de Tahratpremier Etat musulman du Maghreb (144-296), Paris, L’Harmattan؛ وانظر كذلك بحاز إبراهيم بكير، الدولة الرستمية (160 ـ 296 هـ/ 777 ـ 909 م), دراسات في الأوضاع الاقتصادية والحياة الفكرية، مطبوعات لافوميك، الجزائر، 1985.
([43])        أُسِّسَتْ دولة الأدارسة بفاس، أسسها إدريس بن عبد الله، والدراسات الحديثة غير مقنعة في أغلبها. (انظر على سبيل المثال سعدون عباس نصر الله، دولة الأدارسة في المغرب، العصر الذهبي (172 ـ 223 هـ/ 877 ـ 835 م)، دار النهضة العربية، بيورت، 1987. وتمتاز الدراسة التي قام بها إسماعيل العربي (دولة الأدارسة ملوك تلمسان وفاس وقرطبة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983) بالعمومية وعدم التعمق، لكن تاريخ الأدارسة المنحدرين من السلالة والذين حكموا الأندلس، حظوا بدراسة جادة من طرف المستشرق الأمريكي دافيد ج واسرستاين. (David J. Wasserstein, The Islamic Political Institition in the Ibirian Peninsula, Oxford, Calarendon Press, Oxford, 1993).
([44])           عن تاريخ صنهاجة بالمغرب الأوسط وأفريقية يجب الإشارة إلى دراسة كلاسيّة للفرنسي الهادي روجيه إدريس (La Berbèrie orientale sous les Zirides, 1959) ترجمها مؤخراً حمادي الساحلي، الدولة الصنهاجية. تاريخ أفريقية في عهد بني زيري من القرن 10 إلى القرن 12 م، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992، ج 2؛ كذلك ناقش التادلي بويحيى رسالة دكتوره حول الحياة الفكرية أو الأدبية بأفريقية الزيرية (Chedly Bouyahia, La vie littéraire en Ifriqiya sous les Zirides, Tunis, s.d, 1972).
([45])        لم تحظ الدولة الحمادية، التي أسسها حماد بن بلكين ـ ويا للأسف! ـ بدراسات معمقة. فما كتب عنها تميز بالسطحية وعدم التحليل للإواليات الاجتماعية للمغرب الأوسط. نشير هنا إلى عنوانين على سبيل المثال: عبد الحليم عويس، دولة بني حماد، صفحة مشرقة من تاريخ الجزائر، دار الشروق، بيروت، 1980؛ وإسماعيل العربي، دولة بني حماد ملوك القلعة ببجاية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1980. وقد جعلتنا هذه السطحية نقوم بدراسة تاريخ الحماديين بطريقة علمية وأكثر عمقاً، على اعتبار أنها ـ كما يطلق على ذلك فرنان بروديل (Fernand Braudel) ـ حقبة زمنية طويلة من التطور (une longue durée).
([46])           حظيت الدولة المرابطية أو المرابطون بدراسات واسعة ومتعددة، نظراً لاتساع دولتهم وحروبهم ضد نصارى الأندلس. فهناك الكثير من الدراسات، لكننا نكتفي بالإشارة إلى دراستين بالعربية وأخريين باللغات الأوربيـة. سعدون عباس نصر الله، دولـة المرابطـين في المغرب والأندلـس عهـد     =
=                 يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، دار النهضة العربية، بيروت، د. ت.، سلامة محمد سلمان الهرفي، دولة المرابطين في عهد علي بن يوسف بن تاشفين. دراسة سياسية وحضارية، دار الندوة الجديدة، بيروت، 1985؛ Vincent Lagardère, Les Almoravides jusqu’au règne de Yûsuf b. Tâsufin (1039-1106), Paris, l’Harmattan 1989; Jacinto Boshvila, Los Almoravides, Granada, Universidad de Granada, 1995.
([47])           اعتنى الباحثون بدراسة تاريخ الموحدين ونظمهم نظراً لتوفر العديد من الوثائق الإدارسة والمصادر المتنوعة، أنظر على سبيل المثال روجي لوتورنو، حركة الموحدين في الغرب في القرنين الثاني والثالث عشر، نقله عن الفرنسية أمين الطيبي، الدار العربية للكتاب، تونس، ليبيا، 1982؛ محمد المنوني، حضارة الموحدين، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1989؛ عز الدين أحمد موسى، الموحدون في الغرب الإسلامي تنظيماتهم ونظمهم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1991.
([48])           مثال ذلك ما ذكره التيجاني، (المصدر السابق، ص. 347) من أن ابن شداد »كان حاضراً إلى جانب الموحدين في حصار المهدية«.
([49])           عن مملكة النورمان الأفريقية، هناك دراسة حديثة جامعة حول الجدل الذي دار حول النورمان بالمهدية والتي أصدرها هنري بريسك، الأستاذ بجامعة باريس العاشرة (Henri Bresc, « Le royaume normand d’Afrique et l’archevéché de Mahdiyya », dans Le partage du monde: échange et colonisation dans La Méditerranée médiévale [s. d. M. Balard et A. Ducellier], Paris, Publication de la Sorbonne, 1998, pp. 347-361).
([50])         التيجاني، المصدر السابق، ص. 17.
([51])         المقريزي، المصدر السابق، مج 4، صص. 470 ـ 540.
([52])           المصدر نفسه، مج 4، صص. 534 ـ 540.
([53])         سلمية: بلدة تقع على بعد حوالي 50 كلم شمالي شرق حمص.
([54])           أبو القاسم الأبيض العلوي: ذكره ابن ثغري بردي في: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، د. ت.، مج 4، ص. 75، وقال إنه من أهل الدعوة. وهذا المؤرخ النسابة هو أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المكنى بأبي الحسن. هذا المؤلف الشيعي المعادي للإسماعيلية توفي بدمشق في 23 جمادى الأولى 398 هـ/ فبراير 1008 م.
([55])           حظي أصل الحركة الإسماعيلية بعدة دراسات متناقضة أحياناً، كما هو حال طبيعة المصادر التاريخية، ندعو القارئ لتصفح الدراسات الحديثة على الخصوص في هذا الشأن، مثال: Heinz Halm, The Empire of the Mahdi, Translated from the German by Michael Bonner, Leiden, E. J. Brill, 1996, pp. 1-95؛ انظر كذلك عرضاً لجميع الدراسات الخاصة  بالفاطميين في مقدمة الكتاب الأخير لأيمن فؤاد سيد، الدولة الفاطمية في مصر. تفسير جديد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2000، صص. 76 ـ 92؛ وانظر كذلك صص. 93 - 118 من الكتاب نفسه حول نشأة الحركة الإسماعيلية؛ كما أنه تم التطرق لأصل الحركة الإسماعيلية في آخر كتاب لميخائيل برات.(Michael Brett, The Rise of the Fatimids. The World of the Méditerranean and the Middle East in the Fourth Century of the Hijra. Tenth Century C. E. Leiden-Boston-Kِln, Brill, 2001, pp. 29-48).
([56])           ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار بيروت، بيروت، 1982، مج 9 و 11 الذين يذكرون تاريخ المغرب.
([57])         ابن ظافر الأزدي، أخبار الدول المنقطعة، تحقيق أندريه فريه، المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1972، ص. 1.
([58])           ابن خلكـان، وفـيـات الأعيـان وأنباء أبنـاء الزمـان، تحقيـق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، د. ت.، 8 أجزاء.
([59])           المصدر نفسه، مج 1، ص. 306.
([60])         المصدر نفسه، مج 6، ص. 211.
([61])         الداوداري، كنز الدرر وجامع الغرر، مج 6، الدرة المُضِيَّة في أخبار الدول الفاطمية، تحقيق صلاح الدين المنجد، المعهد الألماني للآثار بالقاهرة، القاهرة، 1961، ص. 4.
([62])         المصدر نفسه، ص. 108، 299.
([63])          أبو الفداء، المصدر السابق، مج 2، ص. 101، 109، 144، 149، 180، 198، 200؛ مج 2، ص. 19، 20، 27، 29، 30، 33، 34.
([64])         ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، د. ت.، مج 11، ص. 179.
([65])         الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1994، الجزء الخاص بحوادث 461 ـ 470 هـ، ص. 36.
([66])         الصفدي، الوافي بالوفيات، حقق الجزء العاشر علي عمارة وجاكلين سييليه، وايسبادن، 1980، ترجمة »تميم«، الترجمات المغربية موزعة على جميع أجزاء الكتاب.
([67])           ابن الفرات الحنفي، تاريخ الرسل والملوك، مخطوط بالمكتبة الوطنية بفيينا رقم 197 af/ 814. وقد اطلعنا عليه بميكرو فيلم  معهد البحث وتاريخ النصوص (irht) بباريس تحت رقم 13948. انظر على الخصوص، مج 1، ص. 17.
([68])           انظر التيجاني، المصدر السابق، ص. 14، 346، 347.
([69])           المقريزي، المصدر السابق، مج 4، ص. 523، ص. 534، 543 و554؛ وانظر كذلك للمؤلف نفسه، اتعاظ الحنفا في أخبار الأئمة الخلفاء، تحقيق هونتو بونز، مطبعة دار الأيتام السورية، القدس، د. ت.، ص. 151.
([70])           المقريزي، اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، تحقيق جمال الدين الشيال، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1967، ص. 37.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق