نقد الخطاب الديني
|
||
نصر حامد أبو زيد - مصر
|
||
بدأ الخطاب الديني التركيز على مفهوم الحاكمية من خلال كتابات سيد قطب مفكر جماعة الأخوان
المسلمين، خاصة في فترة الستينات، وبعد الصدام الكبير الذي وقع بينها وبين السلطة السياسية
في منتصف الخمسينيات تقريبا، وهو الصدام الذي أدى إلى حل الجماعة، ومحاكمة أعضائها، حيث تم
إعدام عدد من القيادات، وحكم على الأعضاء بالسجن لمدد متفاوتة حسب موقعهم التنظيمي، وإذا
كان الأخوان قد أنكروا ولا يزالون ينكرون علاقة التنظيم بحادث المنشية، بل يذهب كثير منهم
إلى أن الحادث كان "تمثيلية" مدبرة من جانب السلطة السياسية لإيجاد مبرر للقضاء على نشاط
الجماعة ومصادرة فكرها، فان نشاط أعضاء الجماعة في الحقيقة لم يتوقف، بل تحول إلى
"السرية".
وكان سيد قطب من أعضاء الجماعة الذي خاضوا تجربة السجن، لكنه لم يتوقف عن الكتابة، ولعل
هذه الفترة هي التي جعلت منه مفكر الجماعة والمعبر عن أيدلوجيتها، لذلك يميل الكثير من
الدارسين إلى القول بان التركيز على مفهوم الحاكمية في كتابات قطب بكل ما ترتب عليه من
تكفير للمجتمع، ومحاكمة كل الأنظمة والإنسان الاجتماعية والسياسية والفكرية في تاريخ
البشرية يمكن تفسيره بالاضطهاد والتعذيب الذي عانى منه الأخوان، ومعهم سيد قطب، في السجون
والمعتقلات. إنها أذن عقدة "الاضطهاد" هي التي جمعت بين قطب والمودودي، وجعلت الأول ينقل
عن الثاني.
، لكن هذا الرأي في الحقيقة يقدم تبريرا أكثر مما يقدم تفسيرا، خاصة بعد أن كشفنا في كثير
مما سبق أن مفهوم الحاكمية محايث للخطاب الديني الذي ساد تاريخ الإسلام الثقافي، وانه من
ثم كامن في بنية هذا الخطاب، يتجلى حينا ويتخفى حينا آخر، أن عقدة الاضطهاد قد تصلح لتفسير
الظواهر السلوكية عند بعض الشباب الذي حمل أفكار قطب، وتشربها داخل السوجونن وخرج بعد ذلك
يحولها إلى واقع ولو بالاستشهاد، وإذا جاز لعقدة الاضطهاد أن تفسر تجلي المفهوم في
خطاب قطب، فأنها لا تفسره في المصدر الذي اعتمد عليه قطب، خطاب المودودي، ويظل السؤال
معلقا ينتظر الإجابة.
*****
ولعله من المفيد في محاولة الإجابة عن السؤال أن نرصد بعض ملامح التغير في خطاب قطب قبل
انضمامه لجماعة الإخوان وبعد انضمامه لها، والقارئ لكتابي "معركة الإسلام والرأسمالية"
(1950)، و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" (1951) يدرك مدى انشغال الكاتب بقضايا الواقع
الملحة، ومحاولته البحث عن حلول لها في الإسلام، لكنه أيضا –القارئ– يستطيع بسهولة أن يجد
في نفس الكتابين الأصول العامة التي سيطرت على خطاب قطب بعد ذلك: مثل وضع النظام الإسلامي
في علاقة تعارض تام مع الثقافة الغربية، ومثل نعي الانفصام الذي وقع في الغرب بين الكنسية
والعلم، والهجوم على ممثلي الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي، خاصة سلامة موسى وطه حسين.
لكن الأهم من ذلك انه يرفض التراث الفلسفي العقلي في الثقافة الإسلامية، على أساس أن
للإسلام فلسفته الأصلية الكامنة في أصوله النظرية والقرآن والحديث، وفي سيرة رسوله وسنته
العملية، ما فلسفة ابن سيناء وابن رشد وأمثالهما ممن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام فليست سوى
ظلال للفلسفة الإغريقية لا علاقة لها حقيقة بفلسفة الإسلام، وحينما يقارن بين علماء الأصول
والمذاهب الفقهية من حيث موقف كل منها من إشكالية النص وعلاقته بالمصالح المرسلة نجده يقف
مع المالكية لأنهم يجمعون بين المصلحة والنص، ويرفض اجتهاد الطوفي لتقديمه المصالح المرسلة
على النص، كما يرفض موقف الشافعية الذين لا يعتدونها.
لكن هذا الموقف "المعتدل" من علاقة النص والواقع سيتراجع عنه قطب بعد ذلك لحساب مبدأ أثير
–سنناقشه فيما بعد– لدى الخطاب الديني المعاصر بشكل عام وهو مبدأ لا اجتهاد مع النص.
إذا كانت تلك هي الثوابت في خطاب قطب، فان متغيراته تتحدد في الإلحاح على القضايا الساخنة
في الواقع والتي كانت شاغل كثير من القوى السياسية والاجتماعية، بل كانت شاغل الخطاب
المصري والعربي على مستوى الفكر والأدب، ناهيك عن الخطاب السياسي. كانت تلك هي قضايا
الاستعمار والإقطاع والظلم الاجتماعي والسياسي، وكان ثمة وعي بالترابط بين هذه القضايا.
يقول قطب: "يدرك الاستعمار إن قيام حكم إسلامي سيرد الدولة إلى العدالة في الحكم وعدالة في
المال فيقلم أظافر ديكتاتورية الحكم واستبداد المال والاستعمار، يهمه دائما أن لا تحكم
الشعوب نفسها لأنه يعز عليه حينئذ إخضاعها، فلا بد من طبقة ديكتاتورية حاكمة تملك سلطات
استبدادية، وتملك ثروة قومية، هذه الطبقة هي التي يستطيع الاستعمار أن يتعامل معها."
وتحقق عدالة توزيع الثروة في الإسلام، فيما يرى قطب، في مجموعة من الإجراءات التي لا
تتعارض مع الحكم الشيوعي أو الاشتراكي، بل إن هذه الإجراءات كفيلة أن تقدم للبشرية مجتمعا
من طراز آخر، هو المجتمع الإسلامي، الذي قد "تجد فيه الإنسانية حلمها الذي تحاوله الشيوعية
ولكنها تطمسه بوقوفها عند حدود الطعام والشراب، وتحاول الاشتراكية، ولكن طبيعتها المادية
تحرمه الروح والطلاقة."
وبصرف النظر عن ذلك الفهم السطحي القاصر لكل من الاشتراكية والشيوعية، فان قطب لا يرى
تعارضا بنيهما وبين الإسلام إلا فيما يتصل بالحقيقة في جانبها الروحي، وهذا قريب إلى حد
كبير من طرح الميثاق الوطني لثورة يوليو للاشتراكية العربية، بل إن الإجراءات التي يطرحها
قطب لتحقيق عدالة الثروة في الإسلام لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحققت في مرحلة الستينات.
إن الإسلام –فيما يرى قطب– يضع في يد الدولة سلطات واسعة "لتحدد الملكيات والثروات، ولتأخذ
منها ما يلزم لإصلاح المجتمع وتدع ما يضر، ولتتحكم في إيجار العقارات، وفي نسب الأجور،
ولتؤمم المرافق العامة، ولتحرم الربا والربح الفاحش والاستغلال، هذا الإسلام لا يوافق
الطبقات المستغلة ولا يضمن معه المستغلون البقاء."
ويتجاوز قطب أحيانا هذا الطرح العام ويقدم حلولا تفصيلية، فحل مشكلة الغلاء مثلا ميسور:
"أن تتحكم الدولة في التصدير والاستيراد، وان تشتري لحسابها كل المحصولات التي تصدر إلى
الخارج وفي أوائلها القطن بسعر يجزي الزراعة، ثم تبيعها هي لحسابها بالأسعار العالية، فأما
الحصيلة الناشئة عن الفرق، فتساهم بها في تخفيض سعر الواردات حين تباع للمستهلك، وتسد بها
الفرق بين ثمن شرائها المرتفع وثمن بيعها المناسب للجماهير."
هذا هو الشق الأول الخاص بعدالة المال في الإسلام، أما الشق الثاني الخاص بعدالة الحكم فهو
يتحقق بتطبيق مبدأ الشورى بطريقة عصرية، أي بالديمقراطية حيث الشعب هو مصدر السلطات،
"فالحاكم في الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد هو إرادة المحكومين، والبيعة الاختيارية هي
الطريق الوحيد لتلقي الحكم، والواقع التاريخي قام على هذا المبدأ."
وتتحقق البيعة بالانتخاب الحر، ولا تتحقق الحرية الحقيقية إلا بنفي الاستغلال الاقتصادي،
وما يترتب عليه من قهر اجتماعي أولا: "كل ما يحتمه الإسلام هو إزالة القيود التي تجعل
الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأي في الآمة، فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب
العمل أو صاحب السلطان كما هو واقع الآن."
كيف حدث التحول في "أولويات" الخطاب الديني عند قطب؟ وكيف عبر هذا التحول عن عداء واضح لكل
إنجازات يوليو –وصل إلى التجهيل والتكفير– وهي الإنجازات التي كانت مطلب ذلك الخطاب؟
ولكن علينا أن نكون على بصيرة من أن التحول كان تحولا في "الأولويات" لا في المنطلقات،
أصبحت الأولوية لقضية العقيدة –ولم تكن بالقطع غائبة– على قضية العدل وأصبح الخطاب يتضمن
رفضا قاطعا لطرح أية اجتهادات تقدم على أساس أنها من قبيل التضليل عن الهدف الأسمى وهو
إقرار المجتمعات البشرية بالعقيدة، وأصبح من واجب أصحاب الدعوة الإسلامية أن يرفضوا
السخرية الهازلة في ما يسمى الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل
شريعة سواها، من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد، التلهية باستنبات البذور في
الهواء. وهذه الدعوة في حقيقتها موجهة ضد فريق من علماء الدين –بعضهم كان من الأخوان–
تعاونوا مع رجال يوليو، لكن الأهم من ذلك أنها تعتمد على مبدأ "الحاكمية" فلا اجتهاد ولا
تشريع إلا بعد الإقرار به وسيادته بوصفه لب العقيدة وجوهرها.
وكما اختفت قضية العدل الاجتماعي، أو تأجل الفصل فيها إلى ما بعد الإقرار بالحاكمية، كان
من الطبيعي أن يختفي العدل السياسي نهائيا، فمفهوم الحاكمية ذاته –كما سبق أن شرحنا– ينفي
التعددية الفكرية والسياسية، ويعادي الديمقراطية: "إن هناك حزبا واحدا لله لا يتعدد وأحزاب
أخرى كلها للشيطان وللطاغوت."
إن طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفا شبيهة بتلك التي طرح فيها المفهوم أول مرة
مع الفارق طبعا بين الظرفين في الزمان والمكان وتعقد الواقع، ولكنه الصراع على سلطة الحكم،
ولجوء أحد طرفي الصراع إلى نقله من إطار الصراع الأرضي إلى صراع ديني يسمح له بتزييف وعي
الناس وتخديرها للوصول إلى السلطة.
ومن الخطأ البين تصور أن الصراع الذي وقع بين الإخوان وبين الثورة كان صراعا حول الدين أو
العقيدة، بل كان صراعا حول السلطة السياسية، أو حول الحاكمية بمعنى حكم المجتمع والتحكم في
إدارة الوطنية الأخرى التي اختلف معها وقهرها بعنف.
إن تحول أولويات الخطاب عند قطب ناتج عن تحقيق نظام يوليو لكل مطالب الخطاب في مرحلة
التقائه بالخطاب العام المسيطر لمجمل فصائل الحركة الوطنية، فكان من الطبيعي أن تفسح
المجال لأسس هذا الخطاب ومنطلقاته الأيديولوجي لخطاب قطب يكشف عن نفسه في جلاء لا يحتمل
اللبس لدى القراءة التي تتجاوز القشرة السطحية دون أن تتعمق في الأغوار البعيدة.
وقد مر بنا أن رفضه لتطوير الفقه الإسلامي –وهو ما اعتبره بمثابة استنبات للبذور في
الهواء– كان رفضا لتعاون فريق من العلماء مع نظام يوليو. وبالإضافة إلى ذلك فانه يتوجه
بخطابه بشكل مباشر إلى الشعارات التي صاغها النظام في مرحلة الستينات وهي شعارات : الحرية
والاشتراكية والوحدة.
وباستثناء شعار الحرية يتوجه خطاب قطب لتحطيم هذه الشعارات، نافيا عنها كل مشروعية، ما
دامت لا تناسب -في رأيه– العقيدة/الحاكمية. إن الاشتراكية –أو العدالة الاجتماعي – والوحدة
–التي تقوم على أساس القومية العربية– إن هي إلا طواغيت أرضية وأصنام جاء الإسلام ليحطمها.
إن محمداً "كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع القبائل العربية التي
أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من
الإمبراطوريات المستعمرة، الرومان في الشمال والفرس في الجنوب."
وربما قيل انه كان في استطاعته –محمد صلى الله عليه وسلم– أن يرفعها راية اجتماعية، وأن
يثيرها حربا على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء
إلى الفقراء، ولأنه لم يفعل ذلك، بل أطلقها دعوة للعقيدة، فليس من حق أحد أن يفعل غير ذلك
لأن العالم يعيش في جاهلية كتلك التي جاء الإسلام ليواجهها، بل أسوأ.
هذا خطاب موجه لنظام يوليو في الستينات ولعبد الناصر تحديدا، وهو النظام الذي استدعيت
مقولة "الحاكمية" لمحاربته.
|
||
المقطع أعلاه من الطبعة الصادرة عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب 2007. من
صفحة 70 وحتى 77. انظر صورة الغلاف. ويتضمن المقطع أعلاه مجموعة من الإشارات إلى مراجع
تم حذفها هنا لارتباطها بمراجع سبق ذكرها في الكتاب، ونشرها هنا سيكون على
شكل: السابق نفسه، ص ....
|
||
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق