فلسفة
التاريخ عند توينبي
تتكون منظومة
توينبي الفلسفية من مجموعة من المفاهيم الأساسية: التاريخ والحضارة، الدين والتحدي
والاستجابة تلك هي المفاهيم الرئيسة التي ينتصب فوقها بنيان توينبي الفلسفي
التاريخي في كتابه "دراسة التاريخ" الذي قسمه على ثلاثة عشر قسماً هي: المقدمة،
تكوين الحضارات، نمو الحضارات، انهيار الحضارات، انحلال الحضارات، الدول العالمية،
الأديان العالمية، عصور البطولة، الاتصال بين الحضارات مكانياً، الصدام بين
الحضارات الغربية، الهامات المؤرخين.
غير أن توينبي قد عدل هذا التقسيم في موجزه الذي أصدره
في نهاية عام 1972م، إذ ضم الموجز احد عشر قسماً هي: شكل التاريخ، وتكوين
الحضارات، ونمو الحضارات، وانهيار الحضارات، والدول العالمية، والكنائس
"الأديان" العالمية، وعصور البطولات والاتصالات بين الحضارات مكانياً،
والاتصالات بين الحضارات زمانياً ولماذا يدرس التاريخ([1]).
ويهمنا هنا أن نعرض الخطوط العامة لفلسفة التاريخ عند
توينبي، التي سوف نبحثها بالتفصيل في الفصلين التاليين.
أولاً:-
معنى التاريخ وحركته وغايته
كل فلسفة للتاريخ هي بمعنى من المعاني محاولة للإجابة عن
السؤال المركب، ما هو التاريخ، وما شكل حركته، والى أين يتجه؟
وبهذا المعنى يعد توينبي احد فلاسفة التاريخ، لكونه حاول
الإجابة عن ذلك السؤال الفلسفي، متجاوزاً بذلك اختصاص المؤرخ، ويذكرنا موقف توينبي
من والدته واختصاصها في التاريخ بموقف سقراط من أمه واختصاصها في القبالة وتوليد
النساء، كما جعل هذا الأخير من طريقة أمه في القباله منهجاً فلسفياً عاماً في
توليد الأفكار من عقول الرجال، فكذلك فعل توينبي عندما سلك طريق أمه في مهنة
التاريخ (إنني مؤرخ لان أمي كانت قبلي مؤرخة) هكذا قال توينبي"، لكنها كانت
تحب الوقائع التاريخية لذاتها، إما أنا فأحبها لا لذاتها وإنما لدلالتها على أمور
وراءها، أحبها لانها تكتشف عما استغلق فهمه من طبيعة الكون ومعناه"([2]).
هكذا كان طموح توينبي كما كان طموح ابن خلدون قبله
الانتقال من ظاهر التاريخ الذي لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من
القرون الأولى، إلى باطن التاريخ الذي هو نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها،
وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها، لقد رغب توينبي في النظر إلى ميتا التاريخ، ما
وراء الظواهر والوقائع بهدف الكشف عن طبيعة التاريخ ومعناه، وتعرف مكاننا في هذا
الكون.
فكيف فهم توينبي التاريخ ومعناه؟
لقد انطلق توينبي في فهمه للتاريخ وفي تسويغ عمله, مؤرخاً
عالمياً، من زاوية نظر دينية مسيحية واضحة،وهذا ما أفصح عنه جوابه عن سؤال لماذا
يدرس التاريخ؟ بقوله: "أن المؤرخ يستجيب في دراسة التاريخ إلى نداء الله له
بتتبع خلقه، بالسعي لمعرفته تعالى... وإسهام المؤرخ في التراث الإنساني هو أن يقدم
لنا صورة لإبداع الخالق في حركته الدائبة، داخل إطار هو على وفق تجربتنا البشرية
عنه ذو ستة أبعاد هي الزمان بأبعاده الثلاثة، والمكان والحياة والروح القدس، وأنها
لتتحرك وهي تمارس ما قدر لها من التحرر الروحي إما صوب خالقها، أو بمنأى عنه"([3]).
على هذا النحو تتجلى نظرة توينبي اللاهوتية للتاريخ،
فالتاريخ في معناه، هو "صورة لإبداع الخالق" وفي حركته هو مسار خطي وسعي
حثيث صوب الغايات السامية للوجود الإلهي، وتوينبي بذلك حافظ على النظرة الخطية
للتاريخ الذي ترسخت في التراث التوراتي المسيحي منذ أوغسطين (354-430م) وجان
بوسويه (1627-1704) ومن ثم يصعب الاتفاق مع أولئك الدارسين الذين يصنفون توينبي
ضمن القائلين بالنظرية الدورية للتاريخ على نحو قطعي، وربما كان مرد سوء الفهم هذا
إلى الخلط بين مفهومي التاريخ والحضارة عن توينبي، أن التاريخ سياق متحرك في حركة خطية أودعتها فيه العناية
الإلهية، لكن الحضارات هي ظواهر متعاقبة تظهر وتزول فوق هذا السياق، يقول توينبي
"إذا كانت الديانة عربة فانه يبدو أن العجلات التي تسير بها نحو السماء، هي تعاقب الحضارات
على الأرض"([4]).
لقد جعل توينبي من الدين جوهر التاريخ ومعناه وغايته،
وجعل من الحضارات مظاهر لإيقاع حركة التاريخ الدائبة يتمثل في التحدي والاستجابة،
السلب والإيجاب التوافق والانحراف، ومسيرة التاريخ تنبع من انتقال مجموعة من الناس
من السلب إلى الإيجاب، وكل ما يستطيع التفكير التاريخي إن يفعله هو متابعة الظروف
التي حصل فيها التغيير والنتائج التي تمخضت عنه، إما لماذا هذا التغيير في هذه
الظروف فهو لغز يختفي في حرية الاستجابة الإنسانية، وقد لاحظ البرت حوراني، أن هذه
الازدواجية، من اليان واليانج، التحدي والاستجابة، السلب والإيجاب، التي تتجلى
بصور متعددة في نظام توينبي.. "كالانسحاب والعودة، والإبداع الجمود،
والازدهار والانحلال، والتبديد والحشد هي مثل واحد على ولع توينبي بالازدواجية"([5]).
ثانياً:
الحضارات وتعاقبها
الحضارة هي وحدة الدراسة القابلة للفهم عند توينبي،
ومعنى الحضارة هنا، هو الإطار الواسع الذي يضم عدداً من المجتمعات تشترك في عقيدة
دينية واحدة ودولة عالمية واحدة وقيم حضارية متقاربة، إذ ينتقد توينبي أولئك
المؤرخين الذين يجعلون من الأمم أو القوميات ميادين أساسية لدراستهم، وربما كان
يقصد بذلك النقد، هيجل الذي جعل من الأمة الألمانية منطلق وغاية فلسفته في
التاريخ، إن توينبي يرى انه من الصعب في ظروف العالم الحديث النظر إلى تاريخ دولة
أو امة مفرداً، بمعزل عن التاريخ العالمي، فتاريخ بريطانيا الحديث مثلا تصعب دراسته
وفهمه خارج الإطار العالمي للحضارة الحديثة، فما التجارب التي مرت بها بريطانيا
سوى تجارب شاركت فيها الأمم الأخرى، ومن ثم فان ميدان الدراسة القابل للفهم بذاته،
هو مجتمع يضم عدداً من الجماعات من النوع الذي تمثله بريطانيا، فرنسا واسبانيا
وهولندا والبلاد الاسكندنافية وغيرها([6]), يقول توينبي "لاشك أن المجتمع الذي تنتمي إليه
بريطانيا العظمى، يمتد بامتداد سطح الأرض المسكون والصالح للملاحة كما أن الصفة
العالمية للمجتمع نفسه، تتجلى في المستوى السياسي والاقتصادي، وان كان أقل
انتشاراً على المستوى الثقافي"([7]).
من
ذلك يستخلص توينبي انه لكي نفهم (الأجزاء) يجب أن نركز اهتمامنا أولا على الكل،
لان هذا الكل هو ميدان الدراسة القابل للفهم, لكن ما هي هذه (الكليات) التي تؤلف
ميادين الدراسة عند توينبي، وكيف نكشف حدودها المكانية والزمانية؟ أنها الحضارات
أو المجتمعات الكبيرة، التي ظهرت في التاريخ منذ نحو ستة ألاف سنة، ويميز توينبي
بين الحضارات والمجتمعات البدائية، ففي حين يمتد تاريخ المجتمعات البدائية التي
يفوق عددها 650 مجتمعاً والتي ما زال معظمها قائماً حتى ألان يمتد تاريخها إلى
أكثر من ثلاثمائة ألف سنة خلت منذ أن استقام الإنسان بشراً سويا([8]),يرى
توينبي "أن عمر الحضارات لا يتجاوز ستة ألاف سنة ويحدد توينبي موضوع دراسته بـ "تاريخ الإنسان" في "مجتمع متمدن"
وهذه المدة لا تعادل مقارنة بالمدة الكاملة لحياة الإنسان على الأرض سوى اثنين في
المائة من تلك المدة أو جزء واحد من خمسين جزءاً تكون الحياة الجنس البشري، ومن ثم
فانه لأغراض دراستنا يقول توينبي نستطيع عدّ حضاراتنا معاصرة بعضها بعضاً" ([9]).
ويخلص توينبي إلى أن الحضارات تتعاقب بالمعنى الزمني، أما
في المعنى الفلسفي، فإنها كانت وما زالت وسوف تظل متعاصرة الواحدة مع الأخرى، فهي مجتمعة
بنت الأسرة ذاتها، والفروق بالأعمار بينها فروق تتناهى في الصغر إذا ما قورنت
بالعهد الطويل الذي عاشتها الأسرة الإنسانية قبل مولد الحضارة, والدين هو الطاقة
الحيوية الدافعة للحضارات في نموها وازدهارها، وخاصية الحضارات النامية هي قدرتها
على النمو، ليس بالمعنى الاقتصادي أو المدني وإنما بالمعنى الروحي. ولقد جعل
توينبي هذا النمو المطرد للطاقة الروحية في الحضارات المتعاصرة المتعاقبة الموضوع
الرئيس للتاريخ الإنساني كله"([10]).
ثالثاً:
حضارات توينبي
اختلف الدارسون بشان عدد حضارات توينبي فيرى بعضهم أنها
21 حضارة([11]) ذهب بعضهم الأخر إلى إن عددها (26 حضارة)([12]) ويذهب
رولان بريتون في كتابه (جغرافيا الحضارات) إلى أن "توينبي، قد تمكن من تعديل تصنيفه للحضارات من 21
حضارة في الجزء الأول في دراسته للتاريخ إلى 38 حضارة في كتاب التاريخ عام 1975"([13]).
يقول توينبي في الجزء الأول من كتابه دراسة التاريخ "أن
إحدى وعشرين حضارة ولدت على قيد الحياة واستمرت في نموها، ثلاثة عشرة حضارة اضمحلت
وسبع من الثماني في طريقها إلى الانحلال، أما الثامنة أي الحضارة الغربية فلعلها على
وفق علمنا قد بلغت ذروتها"([14]).
والحضارات هي الحضارة المصرية، السومرية، البابلية الآشورية،
الحيثية، السريانية، المنيوية الهلينية، الإسلامية (العربية- الإيرانية)،
الهندوكية البوذية الهندية، الصينية، حضارة الشرق الأقصى، (الكورية اليابانية)،
الانديانية، المايانية، المكسيكية، اليونانيفية، الارثوذكسية البيزنطية
الارثوذكسية الروسية، الحضارة الغربية, أضافة إلى عدد من الحضارات المتحجرة
والمجهضة والعقيمة، ومن الحضارات المتعطلة يذكر توينبي حضارات (البولينزيون
والاسيكمو والبدو)([15]) ويذكر الحضارة اليهودية والمينوفستية، والزرادتشية
(المجوسية) من الحضارات المجهضة ويرى توينبي أن جميع الحضارات قد مرت بثلاثة أجيال متعاقبة حضارات
الجيل الأول وحضارات الجيل الثاني وحضارات الجيل الثالث، وربما كان قد تأثر فكرة
ابن خلدون في تعاقب ثلاثة أجيال في الحضارة الواحدة.
لقد صاغ توينبي لوحة نموذجية مفصلة للحضارات من حيث هي عدد
من الكيانات المجتمعية الكبيرة الحجم تتميز بالاصالة الدينية والوحدة الاجتماعية
والسياسية كما يقدمها بوصفها متعضيات جماعية حية، تمر في مراحل قبل الولادة، إلى التكوين
والنمو والنضج والدولة الشاملة ومن ثم الانحطاط والزوال، وكل حضارة من الحضارات
ترتبط بجيرانها من الحضارات الأخرى عن طريق التناسل في الزمان والتعايش في المكان
أنها أشبه بعلاقات القرابة في حياة الكائن البشري، الإباء والأبناء والأحفاد، وعلى
الرغم من أن
هذا المفهوم دوري مختلف، لكنه يستخلص من حياة البشرية، مثلما يستخرج من الأجيال
مجاميع اجتماعية ثقافية تتعاقب في شبكات أو شجيرات على غرار الأنواع البيولوجية, ويمكن
لنا تلخيص أجيال حضارات توينبي بالاتي:-
1-
الحضارات الاصلية: وتضم سبع حضارات من حضارات الجيل
الأول المصرية الأندية الإيجية، السومرية الاكادية الانديزية، الصينية، المزو- أمريكية.
2-
إما حضارات الجيل الثاني المتفرعة فتضم مجموعتين
المجموعة الأولى.
الحضارة السورية، المنتمية إلى الحضارات المصرية،
والسومرية الاكادية، الإيجية والحيثية (المينوية) والحضارة الهندية، المنتمية إلى
الحضارة الاندوزية والمجموعة الثالثة تضم الحضارات الغربية البيزنطية، الإسلامية
المنتمية إلى الحضارتين الهلينية والسورية، والحضارة الغربية الحديثة, وفي سبيل
مزيد من الإيضاح أراد توينبي إن يكتشف صلة النسب بين الحضارة الغربية المسيحية
المعاصرة، والحضارة الهلينية القديمة، فإذا كانت الهلينية تتصل بصلة البنوة
بالحضارة المينوية، فان الحضارة المسيحية الغربية تتصل كذلك بصلة البنوة بالحضارة
الهلينية، ومن ثم فان الحضارة الغربية الحديثة هي الحفيد الشرعي للحضارة المينوية
اليونانية القديمة, ومن الملاحظ أن توينبي يرد جميع الحضارات إلى الأديان إذ وراء
كل حضارة من الحضارات القائمة اليوم ديانة عالمية، فالعقائد العالمية هي التي تسير
مجرى التاريخ وإذا كان هناك مستقبل لحضارة ما من الحضارات الخمس التي أعدها
الوحدات التاريخية لمجتمعات العالم المعاصر، فذلك في حدود هذه الأديان وبسبب منها
والحضارات المعاصرة هي: الحضارة المسيحية الغربية (أوروبا وأمريكا) والحضارة
المسيحية الشرقية "الأرثوذكسية وروسيا ودول البلقان، والحضارة الإسلامية،
العربية الإيرانية والحضارة الهندية، الهندوكية وبوذية الهينايان، والحضارة في
الشرق الأقصى أو بوذية الماهايانا اليابان وكوريا.
والحضارات الدينية تنسب بالبنوة إلى حضارات الإباء والأجداد،
على غرار ما وجد من انتساب المسيحية الغربية إلى الحضارة الهلينية، التي انحدرت من
أرومة الحضارة المينوية السلف الأصلي الأول, ومجمل علامات البنوة حسب توينبي تتحدد
في: أولاً: دولة عالمية (مثل الإمبراطورية
الرومانية) والخلافة العباسية. ثانياً: مدة فراغ ينشق فيها الكيان الحضاري إلى
البروليتاريا الداخلية، والبروليتاريا الخارجية ومن البروليتاريا الدخلية تظهر
العقائد الدينية، وتنهض طبقة خلاقة برسالتها، ومن البروليتاريا الخارجية والهجرات
تظهر طبقة المحاربين والبرابرة.
وسنلاحظ فيما بعد كيف يخفق توينبي في تطبيق مخططه النظري
هذا على الحضارة العربية الإسلامية.
وفي
سياق دراسته المقارنة للحضارات المذكورة شدد توينبي على أهمية الإرادة في مجابهة
التحديات المختلفة، لان قانون التحدي والاستجابة، هو المحرك الفاعل في نمو
الحضارات وتطورها وتعاقبها، ويعني النمو عند توينبي نقل مجال العمل والتحدي من
التحدي الخارجي إلى الداخلي، وهو تقدم نحو تقرير المصير، لكن كيف تستجيب أحدى
الحضارات للتحدي بينما تعجز حضارة أخرى عن ذلك؟ الجواب يتمثل بوجود أقلية مبدعة في
الحضارة الناجحة، فرد أو نخبة خلاقة تتحمل عبء التحدي في إثناء انسحابها عن
المجتمع وعزلتها والتفكير في خلاصه ثم تعود إلى صميم المجتمع وقد حلت المشكلة
لتقوده إلى خلاصه فتجر وراءها كل الجماهير
غير المبدعة بقوة التقليد أو المحاكاة.
وكل
هذه القضايا سوف نتناولها بالتفصيل في الفصل الأتي، بقي أن نشير إلى أن توينبي في
فلسفته للتاريخ قد مزج بين نظريتين لمعنى التاريخ وحركته وغايته نظرية العناية الإلهية،
التي ترى إن التقدم "الديني" هو الذي يعطي للتاريخ معنى أكثر من التقدم
الإنساني، هذه النظرة التي ترى التاريخ يتحرك في خط مستقيم إلى غايته المنشودة
والنظرة الأخرى، هي النظرة الدورية للحضارات، وهي لا تختلف كثيراً عن نظرة ابن
خلدون وشبنجلر في عد الحضارات كائنات عضوية تولد وتنمو وتزدهر وتزول بفعل الوثبة
الحيوية أو قصورها، فقد ماتت حضارات توينبي كلها ما عدا سبعاً لم تدفن بعد،
والفارق بين شبنجلر وتوينبي هو إن شبنجلر يلقى مرآته بعد الوفاة، إما توينبي فيصعد
صلاته ساعة الحشرجة، الأول علماني حتمي لا يؤمن بالمعجزة، والثاني مسيحي يؤمن بإمكان
حدوثها. إن هذه النظرة المزدوجة للتاريخ والحضارة عند توينبي يلخصها النص الذي
كتبه توينبي عام 1940 في محاضرة بعنوان "المسيحية والحضارة" بقوله: "إذا
كان الدين مركبة، يبدو إن الشيء الذي يحملها نحو السماء هو سقطات الحضارة الدورية
على الأرض، وتبدو حركة الحضارات دورية ومتكررة، بينما حركة الدين ماضية في خط واحد
صاعد ومستمر"([16]), لكن هذه النظرة الدينية للتاريخ والحضارة عند توينبي
كانت موضع انتقاد عدد كبير من النقاد فهذا الناقد الأمريكي باتريم سوركن، يرى أن تركيز توينبي على العامل الديني أنساه الاهتمام بظواهر
أخرى مثل القيم والفلسفة والعلم والقانون، إذ بدت الاستنتاجات التي خرج بها عن هذه
الظواهر مصطنعة تصدر عن شخص هاو، أكثر منه مؤرخاً للحضارات([17]), في الواقع لقد كانت فلسفة توينبي بمثابة صرخة احتجاج
أخلاقي ضد قيم الحضارة الغربية الحديثة وما بلغته من انحطاط روحي وتفسخ أخلاقي،
وسيادة الآلية والنزعة الاستهلاكية، احتجاج ضد التعصب القومي وتعظيم ألذات ودعوة
إلى حضارة عالمية دينية جديدة, لقد جاء احتجاج توينبي وتشاؤمه التاريخي، بعد أن اختفت الرسالة الانجلوساسكونية العرقية، وبعد أن ذوت فكرة الأيمان بالسيادة الإمبراطورية، ليبعث الأمل
من جديد في إحياء القيم الليبرالية الجديدة للحضارة الآفلة، كان توينبي قد أعاد عدّ
تقدم السلوك المهذب جزءاً من الحضارة، ولكنه كان يقول إن التقدم لا بد من أن
يختفي... في الأقل بشكله العلماني وبدلاً من ذلك، ستبقى عقيدة روحانية عامة من
الحب والإنسانية والجماعية والسلام والتعاون التي تمتد وتتخطى جميع الحدود
الثقافية والسياسية لتعم العالم كله.
على هذا النحو نظر توينبي إلى التاريخ الحضاري العالمي
ودرس الحضارة الغربية في القرن العشرين فوجدها تتردى في أزمة خطيرة، وحاول البحث
عن حلول ناجعة لها لقد فكر توينبي بالمشكلة نفسها التي فكر بها جميع فلاسفة
التاريخ منذ هيجل حتى البرت اشفيتسر، إنها أزمة الحضارة الغربية وفيما حسب هيجل الأزمة
سياسية قومية، فحاول حلها ببعث الدولة البروسية الجرمانية الشمولية، وأيده في ذلك
نيتشه وشبنجلر بالدعوة إلى تحطيم الحضارة الغربية المتفسخة، لفسح المجال لميلاد
نظام الإنسان الأعلى، حامل الحيوية الجرمانية الخلاقة وبينما كان يرى ماركس أن
جوهر ألازمة اقتصادي سياسي كان توينبي مع نخبة واسعة من فلاسفة القرن العشرين يرون
أن
أزمة أوروبا هي أزمة أخلاقية روحية دينية, وكما جاءت الوجودية أقوى صرخة احتجاج ضد
قيم البرجوازية وعقلانيتها، وطغيان المال والدولة الشمولية والصنمية(*)... الخ، كذلك جاء نقد توينبي لأوثان
الحضارة الغربية كما يسميها القومية، والتقدم المادي، والمال والسوق والاستعمار
والعنف والحرب... الخ ومثل هذا النقد والاحتجاج هو ما عبر عنه كولن ويلسون، والبرت
اشفيتسر وماركوزه واريك فروم وبرجسون وكارل يسبرر، وذلك بتنويعات مختلفة على الوتر
ذاته.
(*) في رسالة الماجستير
الموسومة بـ( الوجود والماهية في فلسفة ساتر) بأشراف ا.د. أحمد نسيم برقاوي, كلية
الآداب جامعة عدن 1995. أوضحنا بان الوجودية جاءت كأقوى صرخة احتجاج ضد قيم
البرجوازية وعقلانيتها الزائفة, صرخة لإنقاذ الإنسان الفرد من الطغيان السياسي الا
عقلاني, الذي يستند على مبدأ القوة والعنف وهيمنة السلطة إنقاذ الإنسان من طغيان
الأنظمة الدكتاتورية البليدة, التي تحيل البشر إلى رعايا وتعاملهم كقطعان
الحيوانات إنها صرخة لإنقاذ الإنسان من الصنمية البضائعية والتشيئة الاستهلاكية
والنزعة الجمعية وأوثان الدول البوليسية وكابوس الرأي العام والايدولوجيا الشمولية
والتقليد الأعمى وعبئ الموتى الثقيل, الباحث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق