الدولة التقليدية
جمال بالمدن
تمهيــد:
يشهد
الفكر العربي الحديث والمعاصر جدالا متواصلا منذ القرن التاسع عشر اشتركت فيه
مختلف التوجهات الفكرية، حول مسألة محورية هي رصد وضعية التأخروالتخلف الحاصل
في المجتمعات العربية والتفكير في سبل تجاوزها وتخطيها.
منذ
أكثر من قرن والمفكر العربي حائر يبحث عن مخرج ويبحث في جميع الاتجاهات، وفي كل مرة ينتهي به الأمر إلى الجدار المسدود، وأحيانا
يعتقد أنه قد اكتشف الحل، وأنه قد أمسك بأول الخيط، ولكن سرعان ما يدرك أنه قد
أخطأ الهدف.
ذلك
لأن الحكم على مجتمع ما بالتخلف واللاعقلانية يكون بالضرورة بالمقارنة مع مجتمع أخر
يتميز عنه بالتقدم والعقلانية.
وهذه
الوضعية التي نعيشها تصب بطريقة أو بأخرى في مجرى الحداثة، هذا المفهوم الزئبقي
المتلون بألوان مختلفة بفضل طبيعته يصعب وضع تعريف شامل مانع له، وأمام هذه
الوضعية التي يتعذر فيها وضع تعريف محدد أو حتى الإشارة إلى ميسم من مياسمها، نجد الأستاذ
عبد الله العروي يعتبر أن هذا المفهوم يستغرق مؤلفاته بأكملها، حيث يقول: "إن
ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة"[1] فالحداثة في نظره واقع
تاريخي، ومبادئ تتشكل فيما بينها لتنتج الحداثة، والحداثة هنا هي بالمعنى الذي
عرفته أوروبا في مرحلة التحول الأوروبي إلى الحداثة أي ما بين القرنين السادس عشر
والثامن عشر.
لهذا فالنهضة العربية مرهونة بتحول المجتمعات
العربية إلى حالة الحداثة والتحول ابن الحداثة، يعني اعتناق الفكر الغربي الحديث
بمعقولاته الأساسية وهي العقلانية والتقدم والنقد ومسئولية الإنسان على نفسه،
وانطلاقا من هذه القناعات، يحاول العروي معالجة مشكل النهضة العربية الذي إن
قارناه بما وقع في أوربا، يمكننا أن نقول أنه لا يزال في مرحلة بداية البداية، ويحكم على التراث العربي
الإسلامي وهو واع بأنه يحكم عليه باستخدام مفاهيم خارجة عنه، لكنه يرى بأن هذا
الموقف صحيح، لأنه يتأسس على مقولة "وحدة العقل الإنساني" و"مفهوم التقدم".
وبما
أن سؤال "الحداثة" عند الأستاذ عبد الله العروي من ألغز الأسئلة، ذلك لأنه
يستوعب كل كتب سلسلة المفاهيم (الأدلوجة، الحرية، الدولة، التاريخ، العقل)فإننا سنحاول
من خلال بحثنا هذا، معالجة بعض أسس الحداثة عنده، لأننا لا نستطيع الإلمام مهما
حاولنا بكل كتب السلسلة.
وبما
أن هناك علاقة جدلية بين مفاهيم الحرية والدولة والعقلانية، حيث يقول العروي:
"صحيح أني سقت أحكاما على الدولة المغربية لا تستقيم إلا في نطاق مفهوم
الحرية، وأحكاما على الحرية لا تستقيم إلا في نطاق الدولة"[2]، كما أن الفكر السياسي لا
ينضج في أي مجتمع كان إلا بعد أن يتمثل بجد المفاهيم الثلاثة: الحرية والدولة والعقلانية،
في أن واحد،وبما أن الأمر كذلك، فإننا سنحاول في بحثنا هذا الاقتصار على البحث في
مفهوم العقل لأن العقلانية هي المدخل الضروري لأي حداثة ممكنة، بالإضافة إلى مفهوم
الدولة الذي سيكون موضوع الفصل الأول ليكون مفهوم الحرية موضوعا للفصل الثاني.
مقدمـة
عامـة:
حاول
العروي في كتابه "مفهوم العقل" معالجة الإشكالات التي تطرحها القراءات
الجديدة والعناية الراهنة بالمسألة التراثية التي تنحو بدورها منحى توفيقي جديد،
فما يحصل في الثقافة العربية المعاصرة من رجوع إلى الدفاع عن معقولية التراث في
وجه تيارات الفكر الغربي الحداثي، يشكل في نظره تراجعا وعجزا عن تجاوز مشكل طرح
منذ زمن، فدعا إلى ضرورة اجتثاث الفكر السلفي التوفيقي من محيطنا الثقافي
"لابد إذن من امتلاك بداهة جديدة وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي
حاجز تراكم المعلومات التقليدية لا يفيد فيها أبدا النقد الجزئي، بل ما يفيد فيها
هو طي الصفحة... هذا ما أسميته ولا أزال اسميه بالقطيعة المنهجية ".[3]
ذلك لان هذه القطيعة في نظر العروي حصلت وتكرست
منذ قرنين، ولكي يستطيع الفكر العربي تحصيل التقدم وولوج مراتب الحداثة، عليه
الاكتفاء من الكلام عن القطيعة والشروع في العمل بها وذلك بعد الوعي بضرورتها،
"علامة الفكر الحديث هي أنه يجعل من كل قضية مسألة معرفية، لا يوجد فكر حديث
وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد، هذه هي الثورة الكوبيرنيكية، فلا يكفي
الكلام عليها يجب الكلام بها"[4] .
لأنه
لا يمكن تحصيل معرفة موضوعية أو أي دراسة علمية إذا بقي الدارس في مستوى التراث،
لهذا يمكنا القول بأن الكتاب من بدايته إلى نهايته يشكل مرافعة قوية في إبراز
ضرورة هذه القطيعة ولزومها، لرفع المفارقات السائدة في الواقع، بحيث عمل على
البرهنة الرامية إلى المزيد من رسم حدود العقل الإسلامي فبعد نقده للمرجعية
الفكرية لمحمد عبده (علم الكلام، المنطق، الفلسفة)، ينتقل إلى نقذ المدونة
الخلدونية، ليكشف عن مكامن الحصر فيها.
ليخلص
من تحليله للعقل العربي، إلى كونه بنية محددة وذهنية عامة، نعثر عليها لدى المتكلم
والفيلسوف واللغوي والمتصوف، نموذج هذه الذهنية هو محمد عبده، لأن تلك البيئة لا
تكفي بتحديد العقل بالمعقول، بل تجعل هذا الأخير هو السابق، وهذا المعقول هو
"العلم المطلق" الذي تشكل في الذاكرة الإسلامية من الخبر والسنة والكشف
وسر الإمام، كلها أسماء يجمعها ناظم واحد في نظر المؤلف، هو السعي لعقل المطلق.
فالعقل سواء أخذناه في معناه اللاهوتي (الدين الإسلامي)
أو أخذناه في معناه الكلامي (الرأي والتأويل والاجتهاد) أو حتى عند الفلاسفة فإنه كفعالية إنسانية أو فوق إنسانية
يبقى دائما مسبقا بنص أو خبر أو علم، فالنص في المرجعية السلفية مرجعية محمد عبده،
حسب العروي مرآة العقل والكون معا.
المهم في كل هذا أن معنى العقل لا يتطابق أبدا
والمعنى الذي نمنحه للعقل اليوم، وهذا هو أساس كل المفارقات، أساس يسميه العروي
"عقل الزمن" فالمشكل يتعلق بالكلام كعلم (نمط على مثاله تأسس سائر
العلوم الأخرى) حيث لم يتمكن محمد عبده من "عقل مقتضيات الزمن" فنقد علم
الكلام بذهنية كلامية، وحد العقل بالمعقول، والمعقول بعلم سابق على العقل فعلم
التوحيد حسب المؤلف هو علم الكلام والكلام هو علم المطلق.
لهذا فالعروي يرى بأنه لم يتمكن من إدراك محدودية
المرجعية التي استند إليها فقد كان مطلعا فعلا على كثير من معطيات الثقافة
المعاصرة له، لكنه لم يستوعب القطيعة التي بلورتها الحداثة في علاقتها بالثقافات
الوسطى والثقافات القديمة، فأنتج نصوصا حاول فيها إحياء جوانب من منظومة التراث
كوسيلة لمواجهة الجديد المعاصر له وهذا ما رفضه العروي كحل لمشكل النهضة، وفي سياق
مزيد من البرهنة، على استحالة منطق الإحياء والبعث والتجديد من الداخل، وكذا
استحالة الحلول الوسطى التوفيقية التي تخلط بين الأزمنة والعصور والمفاهيم، أما
القسم الثاني من كتاب مفهوم العقل
فقد خصصه العروي لإبراز حدود ومحدودية
العقل الإسلامي وتجلياته ذات الطابع العملي.
إن
العقل في نظام الفكر الإسلامي بالنسبة للمؤلف واحد، والخلافات داخل فكر الثقافة الإسلامية، بين الفقه
والفلسفة والكلام والتصوف، رغم عنفها في بعض اللحظات ظلت "على الأطراف والتخوم
لا على المعاقل والحصون"[5].
فوظيفة
العقل في مختلف تجليات ومظاهر العقل الإسلامي تتجلى في عملية التأويل باعتبارها
عملية "تطلع إلى الأول والأولي، عقل والاسم" حيث يكون العلم هو
"فقه الأوامر" فالعروي يرى بأن ابن خلدون لم ينجح في تحديد المفاهيم
وتخليصها من إرث المتكلمين لأن المفاهيم ظلت مشحونة بالاعتبارات الأخلاقية
والدينية"[6].
فإذا كان ابن خلدون قد استفاد مما يسميه العروي "المتاح للإنسانية جمعاء"
في زمنه، فإنه لا يمكننا أن نستنجد به اليوم "فالعقل عنده وعند سائر المفكرين
المسلمين إذا يحاصر الوهم، وينفيه عن مجال النشاط البشري يحد ذاته بذلك، يمنع
العقل ذاته بمحاصرة الوهم من الزيادة في التعقل، فلا تتعدى العبارة اللفظ ولا
يتعدى الرمز الحرف"[7].
صحيح
أن ابن خلدون في نظر المؤلف كان رائدا في عنايته بالجانب العملي التجريبي، إلا أنه
حسب المؤلف "حصر معنى العقل في التعقل والتعقيل وحصره هذا هو حصر الجميع، ومن
يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده فيتيه في المفارقات"[8]
وما
دام ابن خلدون يمانع في قيام منطق للعقل البشري دون وحي والهام فقد غير العقل
التجريدي بالعقل التجريبي، لكن دون أن يقوم بتطوير هذا الأخير إلى عقل سلوكي يعم
كل أوجه المعاملات البشرية داخل المجتمعات.
I الدولـة التقليديـة فـي العالـم العربـي:
عمل
عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الدولة" على محاولة تحليل الجذور
التاريخية لنظرة المجتمع العربي إلى السلطة، والتساؤل عن محددات السلوك السياسي للفرد
وعن علاقة الحاكم بالمحكوم. "كل
تفكير حول الدولة يدور إذن حول ثلاثة: الهدف، التطور، الوظيفة"[9]. للكشف عن آليات الانتقال
من الطوباوية إلى الواقعية في موضوع الدولة، وتجاوز التفكير إلى التنظير فيه
"ما أكثر من فكر وما اقل من نظر"[10].
-
يعتبر العروي أن أهم مؤثر على نفسانية الغرب الذي ساهم في بلورة نظرته هو نوعية
التفكير التي اعتمدها فقهاء الإسلام والتي تندرج ضمن الدولة الشرعية. عن النظام الذي يجب أن يكون حسب مقصد الشريعة الأسمى
والذي لم يتحقق في نظرهم إلا نادرا... كل من يصف الأشياء كما يجب أن تكون يعبر
عنهم جزء من المواطنين،... فيقدم حلالا يعدوا أن يعكس المشكلات القائمة. فلا يهتم
بالدولة الحالية لأنها غير شرعية في نظره" [11] وبهذا تصير نوعية التفكير
هذه المؤثر الأساسي على نفسانية الفرد لدرجة أن تلك النفسانية، أصبحت أحد الأسباب
الرئيسية للشكل الذي تبدو به الدولة وذلك عن طريق التربية العائلية في البيت
والتعليم المنظم في المساجد وكذا بالتهذيب الخلقي والذهني في الزوايا، قادت تلك
التربية المتوارثة جيلا عن جيل إلى تكوين فكرة خاصة في علاقة الحاكم بالمحكوم أي عن السياسة والدولة.
- يرى
العروي أن البحث في الجذور التاريخية للدولة العربية الإسلامية أمر صعب لان التأليف
التاريخي لم يبدأ إلا في مرحلة متأخرة نسبية على زمن الدعوة.
لهذا رجع إلى المؤلفات الشرعية في الموضوع التي
وجد أنها لا تحلل واقعا ولا تأبه به بل تتصرف موضوعاتها إلى الحديث عن مقاصد
الشريعة وإسلام السلف الصالح الذي لم تشبه شائبة.
لهذا
هي مؤلفات إيديولوجية تتحدث عما ينبغي أن يكون وبالتالي نظرا لهذا المضمون المثالي
لها أثرت تأثيرا سلبيا على السلوك السياسي للفرد العربي "إن وصف واقع الدولة الإسلامية
حتى لو كان سهلا لا يفي وحده بالغرض.
إذ لا بد من إدراك المادة الخام التي بها وعليها
تجري السياسة، أي نفسانية الفرد، فكرته عن الحكم والدولة. كل هذا ناشئ عن تربية لا
تقوم بها الدولة وحدها، بل لا تقوم بقسطها الأكبر: المسئولين عنها هم الأب في
البيت، والإمام في المسجد، والشيخ في الزاوية وهؤلاء متأثرون بالمؤلفات الشرعية،
بتخيلات الدولة النموذجية بما نسميه الطوباويات الإسلامية"[12]
يعتبر
العروي أن الدولة الإسلامية مركب من عناصر مختلفة:
العنصر العربي، العنصر الإسلامي، والعنصر الأسيوي،
كما أنها نشأت في مجتمع قبلي، إلا أن نشأتها الطبيعية لا تعني أن العرب لم يعرفوا
النظام الملكي في اليمن أي نظام العائلة والملكية والدولة، وبعد الفتوحات وجدت
الدولة الإسلامية نفسها أمام التراث الفارسي، والبزنطي، تراث الدولة الأسيوية المتينة
سعى أساس الحق الالاهي والسلطة الفردية.
وبهذا تكون
الدولة الإسلامية حسب العروي مكونة من خلية من العناصر المتباينة: لكل عنصر منها
أهدافه الخاصة بحيث يهدف العنصر العربي إلى الحفاظ على التوازن بين القبائل والأسر.
ويهدف العنصر الإسلامي إلى مكارم الأخلاق ومقاصد الشرع، بينما يهدف عنصر التراث الساساني الأسيوي إلى
خدمة الأهداف الدنيوية.
-
وبهذا الخصوص يورد المؤلف تحليل "عبد الرحمان ابن خلدون" لأنه قدم نظرية
تاريخية انطلاقا من تحليل الدولة الإسلامية. كما أن منطلقاته استوعبت مختلف
الاتجاهات الفقهية والفلسفية والتاريخية وحتى الصوفية، ينتصف في مبتغى الاتجاهات
الفقهية والفلسفية والتاريخية. لقد فكر بحسب هذه الاتجاهات كلها، فوفر لنا في آخر
تحليل
الأرضية المشتركة بينها"[13] ، يؤكد ابن خلدون على
تساكن العناصر الثلاثة فيما يسمى بالدولة الإسلامية، التي تعاقبت بلاد الإسلام،
فميز بين ثلاثة أنواع من الأنظمة: الملك الطبيعي: حمل الكافة على مقتضى الشهوة. في
الملك السياسي حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي. ومن ثم الخلافة: حمل الكافة على
مقتضى النظر الشرعي. فاعتبر السياسة العقلية هي السياسة التي تقوم على العقل من
دون هداية ربانية وقسمها إلى نوعان:
1 - نوع يراعي مصلحة العموم.
2 - ونوع
هدفه تحقيق مصلحة لسلطان نرتب هذه الأنماط، بحيث جعل الحكم الطبيعي المناسب
للعمران البدوي في الأسفل، ويليه الملك السياسي والسياسة العقلية التي تخدم مصلحة
الفرد الحاكم وجعل في قمة الترتيب، الخلافة لأن هدفها تحقيق المقاصد وسعادة
الدارين، كما بين نظاما آخر تكلم عنه الفلاسفة من جهة الفرض والتقدير، لأنه مستحيل
التحقيق، بهذا تبقى الخلافة هي النظام الأمثل.
يعتبر
ابن خلدون أن هذا التنميط يعكس التتابع الزمني على مستوى التاريخ الكوني، أما على
مستوى التاريخ الإسلامي فهناك اختلاف لأن الإسلام هو الذي حضر العرب وبالتالي انتقلوا
إلى الخلافة مباشرة من الحكم الطبيعي إلى الملك السياسي أو السياسة العقلية
الفارسية. فكان لهذا الانتقال أثر كبير في تطور الفكر السياسي لأن الانتقال من حكم
طبيعي الوازع فيه هو الحاكم إلى نظام الخلافة الوازع فيه هو الدين. هذا ما اعتبره
مستحيلا لانه خرق لقوانين التطور الطبيعي، إذ يفترض الانتقال من الحكم الطبيعي الى
الخلافة انقلابه في الطبيعة البشرية وهذا ما يفسر السهولة انقلاب الخلافة الى
عصبية يقول ابن خلدون "... ثم ذهب معاني الخلافة ولم يبقى منها إلا إسمها
وصار ملكا بحثا"[14].
الدولة
الإسلامية عند ابن خلدون ملك طبيعي مبني على العشوائية، تطبيق الشريعة
كهدف أخلاقي، فيدخل ضمن السياسة، إذ لا بد من
جزء من الشريعة مهما كان استبداد الدولة، وهكذا انتقل ابن خلدون من وصف الواقع إلى
تكوين مفاهيم نمذجته: الملك وأخلاقه هو السياسة بهذه المفاهيم المجردة اكتشف ابن
خلدون الأرضية المشتركة التي وقف عليها الفقهاء والمؤرخون والفلاسفة: "هذه
ثلاثة أشجار بنيت في تربة واحدة تربة الواقع الذي ثم الإجماع حول مواصفاته والذي
لخصه ابن خلدون بوضوح نادر"[15] لهذا لا بد من الإشارة إلى
كل موقف على حدة.
موقـف
الفقيـه:
طالما
عاش الفقهاء بتناقض بين الواقع والمثال، لأنهم يتشبثون بالخلافة في واقع بعيد عنها، مما ينتج عنه تجاهل الواقع، لأن الواقع في أذهانهم
عاره والخلافة هي الجوهر الثابت لهذا "لعبوا دورا مهما في محاربة الشعور باليأس
والإحباط لأنهم يعيشون على أهل خرق العدة لكن أمام الواقع"[16].
لم
يعد من المتيسر حتى تطبيق الشرع وفي حالة ما إذا طبق فإن النظام الناتج، لا يكون
خلافة وهذا ما يفسر وضعهم لخلافة الأمويين في الأندلس والموحدين في المغرب
والفاطميين في مصر، لأن تطبيق الشريعة لخدمة أهداف الدولة غير توظيف الدولة لخدمة
أهداف الشريعة والتي على رأسها تحقيق مكارم الأخلاق.
موقـف
المـؤرخ الأديـب:
يختلف
موقف المؤرخ الأديب عن موقف الفقيه، لأن المؤرخ لا يميز بين شرع النبي وعقل سقراط،
كما تدل على ذلك كتب الآداب السلطانية التي تنيرالسبيل للحاكم. إن مضمون كتب الآداب
السلطانية التي تعبر عن موقف المؤرخ الأديب يتلخص قول العروي "يضرم السلطان
الشريعة قاهرا لأنها تخدمه بادن"[17] فقد يوصى السلطان بالعدل
لأن العدل أساس استمرار حكمه ودوام سلطته لا لأن
العدل خدمة مكارم الأخلاق ومقاصد الشريعة، أن الظلم في رأي المؤرخ مجازفة بالملك،
لهذا نجد في كتب الآداب السلطانية حكما تسير في اتجاه أسداء النصح للملك "وهي
في الغالب مأخوذة من حكم الفرس أو الروم أو الهند"[18] لأن المؤرخ يعد إن الدولة
امتلاك أمر آخرين وأن الحاكم يتحكم في رقاب الناس.
لأن
الطبيعة الحيوانية في الإنسان تدفع الحاكم إلى التسلط وقمع المحكوم، لهذا يهدف
المؤرخ كالفقيه مسايرة السلطان ويتعايش معه.
موقـف
الفيلسـوف:
يشترط
الفقيه تطبيق الشرع وهو يحلم بالخلافة ويسعى المؤرخ إلى عقلنة السلطة، بتطبيق
العدل أما الفيلسوف فإن يأسه يسلك به مسلكا آخر وأي دولة يتغلب فيها الطبع
الحيواني على الفعل، يفر الفيلسوف بنفسه إلى العزلة والانفراد لأن العاقل من قادته
حكمته إلى هجر المدينة الظالم أهلها لينجو بنفسه من عالم السطوة والقبور، هذا مؤشر
لا يختلف في عمقه عن طوباوية الفقيه وواقعية المؤرخ، لأن موقف الفيلسوف نتيجة
جدلية لموقفي الفقيه والمؤرخ.
إن
موقف الفقيه قبول مؤقت بواقع السلطة أما موقف الفيلسوف فهو رفض مطلق لهذا الواقع، إن
هذا الرفض دليل على العجز المطلق عن فهم الشيء المرفوض.
لهذا فالعروي يرى بأن الفلاسفة المسلمين ليست
لهم سياسة عقلية لأن خطابهم الفلسفي موجه إلى الوجدان الفردي.
1)
دولـة التنظيمـات:
يعتبر بأنها
عملت على تقوية الدولة العربية الإسلامية اقتصاديا وتجهيز وسائلها عسكريا، لكنها
لم تستطع جعل الفرد يرى فيها تجسيما للإرادة العامة وتجسيما للإدارة العامة
وتجسيدا للأخلاق، ومشبع القيم الخلقية وان تجعل
منها مجالا لتربية النوع الإنساني، بحيث يرتفع من رق الشهوات إلى حرية العقل،
بمعنى أنها لم تساهم سوى في تكريس طوباوية الفقهاء بحيث لم يصل الفرد إلى تمثل
نظرية الدولة. ذلك لأن الدولة الاستعمارية كانت صليبية واستعمارية توسعية
وامبريالية في نفس الوقت، فعارضت مصالح الفقهاء أنصار الشريعة ومصالح النخبة
الحاكمة.
لذلك يرى العروي أن ما يفصل الدول الاستعمارية
عن الدولة السلطانية إلى سبقتها هو أنها كانت قريبة من المجتمع الإنتاجي، بحيث أنها
قامت على مفهوم المنفعة العمومية الذي قرب بلا شك السلطة السياسية من المجتمع الإنتاجي
، فأصبحت الدولة تتظاهر بأنها لا تعدو أن تكون أداة في خدمة التجهيز فتضمن لهم الأمن
والعدل، تكافئ النافع وتعاقب المسيء، وتصرف الظروف في تجهيز البلاد بالطرق والموانئ
كل هذا قرب بين الدولة كجهاز سائد وبين الإنسان المنتج.
والواقع أن المجتمعات العربية والتي عرفت
فعلا الأصل، كانت محكومة بأقلية تتميز عنها باللغة والجنس والعقيدة، فكانت هذه هي
النظرة التي حكمت تصور الحركة الوطنية في البلدان العربية، فهي لم ترى في الدولة
الاستعمارية مزاياها الاقتصادية والإدارية بقدر ما رأت فيها سلطة الأجنبي المستعمر
أمام انزواء الشرع من معظم مظاهر الحياة العامة، امتزجت الحركة الوطنية التي كانت
تهدف إلى انتزاع السلطة من الأجانب بالحركة السلفية التي كانت تهدف إلى جعل
الشريعة مصدر التشريع.
اعتبر العروي أن هذا الاختلاف في الأهداف بين
الحركة السلفية والحركة الوطنية، كان من
شأنه أن يمكن الحركة الوطنية من إبداع نظرية دولة تختلف تماما عن نظرية الفقهاء
إلى السلطة، ذلك بسبب تبنيها لأهداف سياسية قريبة التحقق كتعويض الحكام الأجانب بحكام
أهليين عوض الأهداف العقائدية البعيدة التي تصبوا إليها الحركة السلفية[19] إلا أن استعمار الأجانب
بالحكم أي استمرار النمط المملوكي، كما أنها لم تقترب من آليات الدولة الاستعمارية
ولم تتعرف عليها لأنها كانت منغمسة في المجتمع تعايش أزماته وانحطاطه وبالتالي لم
تتمثل واقع الدولة كما ينبغي أن تكون (تلبي مطالب ضحايا البؤس والحرمان) وبهذا حسب
العروي لم تتمكن من إبداع نظرية الدولة.
وبهذا
فإن الدولة العربية إلى حدود هذه المرحلة فهي دولة لا حداثية حسب العروي لأن
مفكريها، لم يستطيعوا إدراك موضوعيتها ولم يستطيعوا الانتقال إلى مستوى التنظيم في
الموضوع، إن هذا الحكم لا يمكن أن يتم إلا بالقياس مع دولة أخرى حديثة وهذه الدولة
لم تظهر إلا في الغرب وخاصة تصور ماكس
فييبر للدولة الذي قام بتركيب نموذج الدولة الحديثة في الفكر السياسي المعاصر يقول
ماكس فييبر أن البيروقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحويل العمل الجماعي إلى عمل
اجتماعي معقول ومنظم ... إنها تشجع طريقة عقلانية في الحياة"[20].
فالعروي
يرى بأن القيمة المؤسسة للغرب الحديث هي إذن العقلانية "أي عملية تطبيق العقل
المجرد الرياضي على مظاهر الحياة بهدف توفير الجهد ورفع الإنتاج المادي والذهني...
البيروقراطي هي إحدى نتائج العملية والدولة الحديثة بصفة عامة هي مجموع أدوات
العقلنة في كل دروب الحياة"[21]
إذا
كانت هذه هي نظرة العروي إلى الدولة العربية في مراحل سابقة، فماذا يمكننا القول
عن نظرته لواقعها الحالي؟
II – واقـع الدولـة العربيـة القائمـة.
عرفت
دراسة عبد الله العروي لوقع الدولة العربية القائمة اهتماما بالوجه الأدبي دون
الوجه المادي، ذلك أن الدولة في نظره ذات وجهين مادي وأدبي، فالوجه المادي هو مجال
على السياسات الذي يهتم بدراسة سبل تقوم الجهاز وبديمقراطية الحياة العمومية
والخصوصية.
والتي
يرى أنها تتم تحت عناوين مختلفة (إنماء سياسي، عقلنة، مشاركة، حديث) وهي كلها في
نظر العروي مستعارة من ماركس فييبر، لأن الجهاز المادي وحده غير كافي لضمان
الاستقرار في عالم تتصور فيه النزاعات العقائدية وتتحارب فيه الدولة باعتماد الضغط
النفساني والفكر الإيديولوجي، لهذا فان الدولة حسب العروي التي لا تملك الإيدولوجيا
تضمن لها ولاء وتبعية المواطنين بدون شك مهزومة.
يعتبر
العروي أن تكوين المجتمع السياسي يستلزم إيجاد نظرية الدولة، وهي حينما يصبح في
مكان الفرد أن يرى في الدولة تجسيدا للإرادة العامة وتجسيدا للأخلاق على أساس أن
هذه الدولة منبع القيم الخلقية ومجال تربية النوع الإنساني، حيث يرتقع من رق
الشهوات إلى حرية العقل "تشيد الدولة الحديثة" مرتبط بالمنظومة
المذكورة.[22]
بحيث أن مفهوم المجتمع السياسي يستلزم الشرعية والإجماع وبهذا الخصوص لابد من البحث في الذهنيات والسلوك وبالتالي حول
موقف الفرد من الدولة بمظاهرها.
"إن
الدولة العصرية لا يمكن أن تعود رمز مجتمع
سياسي إلا إذا أوجدت إيديولوجية أولوية"[23] الأن الإيديولوجية بمثابة
ركيزة معنوية للدولة، وبالتالي فغيابها يؤدي إلى عدم ذوبان الدولة بشكل كلي في
الجهاز، لأن العروي يعتبر أن وجود جهاز قوي متطور لا يعني وجود دولة قوية كذلك
مثال الدولة الاستعمارية كانت ضعيفة بالرغم من أن جهازها قوي ومتطور ، نفس
الملاحظة يسحبها المؤلف على الدولة المعاصرة أيضا بحيث أن هذه الأخيرة تتميز بجهاز
قوي متطور بل هو القطاع الأكثر تطور ومع ذلك يبقى وجودها كدولة بالمعنى الصحيح في
الكثير من الكيانات العربية يبقى موضوع شك وتساؤل.
ليخلص
العروي إلى اعتبار أن السلوك المورث لدى الأفراد لا يوافق الدولة الحديثة لأن
تكوين مجتمع سياسي يستلزم إيجاد نظرية الدولة، وبما أن الأفراد يتبنون الطوباوية،
التي من طبيعتها حجب الواقع والوقوف حاجزا أمام إدراكه، فلا سبيل لإنتقاده
وبالتالي فانعدام النقد يؤدي بشكل ما إلى ظهور النظرية .
يرى
عبد الله العروي أن الدولة الحديثة لا تنشأ وتتقوى إلا بإقامة بيروقراطية عصرية
تجسد العقلانية (حلول العقل في تنظيم السلوك فيصير بمثابة معيار موضوعي تقدر بها
حداثة أي مجتمع كان.
من هنا تفهم سبب الاهتمام بدراسة البيروقراطية
خاصة في المجتمعات الغير العربية، لقد بدأ الاهتمام بهذه المسألة في السنوات
الأخيرة، فأنجزت دراسات تمهيدية حول البيروقراطية في كل من مصر ولبنان بهدف تقييم
مدى حداثة هذين البلدين ذلك بالنظر إلى مدى تطابق طبقة الموظفين مع هذا المفهوم،
وكانت النتيجة في كلا الحالتين أن البيروقراطية القائمة في كلا الحالتين، لا تجسد
العقلانية بقدر ما تحافظ على العلاقات الموروثة "مازال الناس ينظرون الى
الوظيف العمومي كهبة لا كخدمة مازالت العلاقات بين الموظفين علاقات إحساس وولاء
..."[24]
إذا
كانت الدولة الحديثة لا تنشأ وتتقوى إلا بإقامة بيروقراطية عصرية تجسد العقلانية
فإن الفكر السياسي لا يتقوى في أي مجتمع كان إلا بعد أن يتمثل بجل المفاهيم
الثلاثة الحرية، الدولة، العقلانية في آن واحد.
يعتبر
العروي أن تحقيق هذه المفاهيم الثلاثة في آن واحد أمر صعب لكن الحديث عليه منذ
البداية بالاستحالة سيصبح فعلا من المحال ، لأن الفكر العربي المعاصر يجعل التأمل
في الحرية من شأن الفلسفة الماورائية الأخلاقية والتأمل في العقل من شأن فلسفة
العلوم، والتأمل في الدولة من شأن الإيديولوجية السياسية، إلا أننا إذا نظرنا
للأمر من زاوية أخرى وهي زاوية الفصل والشرخ القائم بين المجتمع والدولة، لكان
الأمر نتيجة طبيعية له "يتولد هذا الخصاص من واقع اجتماعي تتساكن فيه الدولة
والفرد كعنصرين متقابلين متعارضين"[25] وهكذا حسب العروي فإنه إذا
كانت النظرية كما اشرنا تمكننا من
إدراك
الواقع وذلك بتجاوز التساكن بين الفرد والدولة فإنها تمكننا أيضا من تجاوز تخصص
المفاهيم لمجالات اجتماعية وفكرية متباعدة.
ليخلص العروي في النهاية إلى القول بأن الفكر
العربي والكيان السياسي العربي المعاصر عاش ولا يزال يعيش مفارقة
عجيبة"...نصل الآن إلى المفارقة الكبرى لا بد لتحقيق الوحدة من جهاز دولة، كل
عمل وحدوي يقوي البيروقراطية الإقليمية التي تتبناه يقوي بالضبط الجيش والإدارة
والاقتصاد ووسائل الإعلام، لكن من جهة أخرى يفتقر الكيان الإقليمي إلى ايدولوجيا
عضوية يبررها وجوده لأنه مرتبط بطوعى تنفي الشرعية مبدئيا عن جميع الكيانات
الإقليمية"[26].
كما حدد سببها في غياب نظرية عامة
للدولة، هذه الأخيرة قد تقوي الكيان السياسي القائم بإعطائه الشرعية والضرورة، كما
أنها يمكن أن تهدينا إلى طرق واقعية لتحقيق الوحدة ومزاوجة الدولة بالحرية
والعقلانية.
كما تثبت النظرية حسب العروي أن الحرية
خارج الدولة طوبي ضائعة، وأن الدولة بلا حرية ضعيفة متداعية، وبالتالي ما هو واقع
الحريات الفردية داخل المجتمعات العربية الإسلامية؟ إلى أي حد استطاع الفكر العربي
الإسلامي تمثل الحرية كمفهوم لا شعار؟
1 – مفهـوم الحريـة فـي
المجتمـع العربـي الإسلامـي التقليـدي
يعتبر "مفهوم الحرية"
عند عبد الله العروي بعتبارها كشعار ومفهوم وتجربة، فهي كمفهوم غير متواجدة في الثقافة
العربية الإسلامية الكلاسيكية، وحتى إن وجدت بذورها غير مكتملة، أما كتجربة فهي
موجودة، كما أنها رفعت كشعار في جميع بقاع العالم الإسلامي العربي، بحيث أن كلمة
الحرية لا توجد في الثقافة العربية الإسلامية إلا كترجمة اصطلاحية لكلمة أوروبية، بل
لم تكن تستعمل في المجتمع الإسلامي التقليدي، إلا في مناسبات خاصة.
كما أن القاموس يخلو من كلمة "حرية"
لهذا فالعروي فتحه تحت إحدى صفاتها وهي حرر، "أشار علينا بفتح القاموس في
مادة حرر"[27]،
أما المصدر الأصلي لكلمة حرية فإنها استعملت
للتميز بين من كان حرا من الولادة، وبين من كان عبدا ثم اعتق، كما أنها
استعملت من طرف علماء الكلام، وبما أنه علم يهتم بشؤون العقيدة الإسلامي،
فإنه ربطها بالمجال الديني فطرحت مجموعة من الإشكالات بخصوصها، كإشكال علاقة الإرادة
الفردية بالمشيئة
الإلهية، ومسألة الاختيار البشري بالقدر الرباني.
ومن هنا يمكننا القول بأنها طرحت في إطار ديني
صرف، وبالتالي مجال غيبي ميتافيزيقي، بل حتى الفقه الإسلامي كان لا يخرج عن هذا
السياق، بحيث طرحها في باب الرق والحجر وكفالة المرأة والطفل، كما ربطها بالعقل
والمروءة والتكليف.
إن الفقه حسب العروي كان يعرف
الحرية عن طريق الاتفاق مع ما يوحي به الشرع مع العقل، وبهذا فالفقه كذلك يطرحها
في إطار ديني، وبالتالي فالعروي يعتبر أن المجتمع العربي الإسلامي لم يكن يفهم من
كلمة الحرية ما يفهمه المجتمع الغربي، بحيث كان مفهوما عاديا وبديهيا داخل اللغات الأوروبية
خلال القرن التاسع عشر"كانوا كذلك لا
يتمثلون بسهولة ودقة مفهوم الحرية "[28]
لقد قاد التحليل اللغوي لكلمة
حرية المؤلف إلى استنتاج أن اللغة تعكس ثقافة
مجتمع في حقبة من حقب التاريخ، واهتدى إلى أن المفاهيم التي يلجأ إليها
الفقه وعلم الكلام داخل الثقافة الإسلامية التقليدية، والتي تقترب شيئا ما من
"مفهوم الحرية"، تدور كلها حول الفرد في علاقته مع المجتمع ومع الخالق.
وإذا كان المستشرقون قد رأوا أن مشكل الحرية
داخل مجتمع ما ينحصر في الجانب الفقهي، فإننا نجد أن "العروي" يدعو إلى
تجاوز هذه النظرة الاستشراقية الضيقة وإلي ضرورة الانتباه إلى حدود التحليل اللغوي،
لأن هذه الأخيرة تعبر عن ثقافة مجتمع في حقبة معينة.
عمل العروي على البحث في
أعماق الثقافة الإسلامية التقليدية للبحث عن رموز ومعاني أخرى تمكن من تكوين
نظرة عامة عن مفهوم الحرية، بمعنى البحث
عن أدلة تهم الحرية وإن عبرت عن ذاتها بكلمات غيرها "علينا إذن أن نبحت عن
أدلة ورموز الحرية خارج الدولة أو ضد الحكومة"[29].
وبهذا فالمجتمع العربي قد عاش الحرية كتجربة
"إن تجربة المجتمع الإسلامي في مجال حرية الفرد أوسع بكثير مما يشير إليه
نظام الدولة الإسلامية"[30] ليخلص إلى اعتبار أن تجربة الحرية عبارة عن طوبى داخل المجتمع العربي
الإسلامي لأنها توجد خارج نطاق الدولة.
أول دليل يورده على وجودها هو
"البداوة": يرمز إلى الحياة خارج القوانين الاصطناعية، بحيث أن البدوي
يعيش الحرية ولا يعي الحدود المفروضة على تصرفاته، كما أن البدو كانوا يحضون
بامتيازات خاصة من طرف السلطان أو الحاكم، فالبداوة كرمز وكفكرة مجردة في الذهن"كانت
تجسد على مدى قرون ما تطلع إليه الناس من سعة في العيش وفسحة في التصرف"[31] .
أما الدليل الثاني فهو
''العشيرة'' والتي تطلق على كل جماعة تحتضن الفرد وتحميه من تعسف السلطان وتضمن له
حقوقا ثابتة، فإذا كان قانون الدولة يحد من حرية الفرد فإن قانون العشيرة بمعارضته
لقانون الدولة يكون قد حقق للفرد ما يعينه على تحقيق الحرية والمحافظة على الحقوق
المكتسبة والامتيازات الموروثة، يقول "عبد الله العروي": "لو كان
الفرد يواجه السلطان خارج العشيرة لكان بالفعل ضعيفا مستعبدا"[32] .
أما الدليل الثالث فهو
''التقوى'' ويتمثل في ظاهرتين: الأولى في تحرر الإنسان من شهواته وغرائزه
الجسمانية استجابة لعقله، وذلك بوازع ذاتي لا رضوخا للأحكام الشرعية التي قد تبدو حادة من حريته. والثانية موضوعية وذلك
أن الشخص التقي يكسب مزيدا من الجاه والرضا داخل العشيرة التي ينتمي إليها، يقول
العروي "إن تجربة القرون الماضي تؤكد لنا أن التقوى تحرير الوجدان وتوسيع
لنطاق مبادرات الفرد. إنها كانت طريقا للشعور بالتحرر، فلا عجب إذا أصبحت رمزا
للحرية"[33].
الدليل الرابع والأخير هو ''التصوف'' يعتبر التصوف وجها لتمثل
الحرية المطلقة وذلك عندما يتعمق الإحساس بالهوة القائمة بين الحدود الاصطناعية والمادية
والرغبة في الإنسلاخ والتحرر منها فيزداد وعي المتصوف بثقل الاستبداد وبتضخم فكرة
الحرية في ذهنه يقول العروي "التجربة الصوفية هي التي تمكن الفرد من أن يتمثل
الحرية بالمعنى المجرد المطلق، وبعد هذا التمثل يستطيع أن يعي ثقل الاستبداد بل أن
يراه وأن يحكم عليه"[34].
يرى العروي أن هناك تقابلا بين التجربة الصوفية والتجربة
البدوية، فإذا كانت البداوة تعبر عن حياة خارج القوانين الاصطناعية، فإن التصوف
يرمز إلى حرية وجدانية مطلقة.
نستخلص مع العروي أن الحرية تغيب في المجتمع
الإسلامي التقليدي، وهناك في المقابل حلما تواقا إلى الحرية أو ما عبر عنه "بطوبى
الحرية" وطوبى الحرية التي يرى فيها التربة الخصبة التي منها ينشأ الإستعداد
لقبول الدعوة إلى الحرية، وبهذا يسجل العروي تعارضا بين مفهوم الدولة ومفهوم
الحرية داخل المجتمع الإسلامي التقليدي، فاتساع مفهوم الدولة يضيق من مجال الحرية.
وبالتالي فالمجتمع العربي
الإسلامي التقليدي لم يعرف "مفهوم الحرية" بالمعنى الليبرالي الغربي إلا
أنه عاش تجربة الحرية كطوبى، إذا كانت هذه هي الوضعية السابقة عن مرحلة الاستعمار،
فماذا يمكن القول عن هذه الأخيرة. هل استطاعت أن تغير العلاقة بين الحرية كواقع
والحرية كطوبى؟ وإذا كانت هذه هي أهم خصائص تجربة الحرية عند الأقدمين، فما هي
خصائصها عند المحدثين؟
2- الدعـوة إلـى الحريـة ( عهـد التنظيمـات):
لاحظنا فيما سبق أن المجتمع
العربي التقليدي، وبالرغم من الاستبداد الذي كان يمارسه عليه المجتمع السياسي إلا
أنه تمكن من ممارسة الحرية وراء مجموعة من الأشكال التي تضمن هذه الممارسة، لكن
وباتساع مجال الدولة وانتهاء عصر البداوة والعشيرة والتصوف، أصبحت الحاجة كبيرة
إلى الوعي بالحرية كفكرة مجردة. تلك المرحلة التي عرفت بالإصلاح شددت على اندماج الفرد في الدولة، ولم تعد التجارب الفردية
قادرة على حمايته نظرا للخطر الأجنبي الأوربي الذي يواجهه، فأصبحت الدولة الدرع
الواقي له.
حسب العروي أن الحاجة إلى تقوية الدولة إزاء
تحديات الدول الأوربية الاستعمارية هي التي أدت إلى ضرورة اندماج الجماعة المستقلة
وكذا الفرد الحر تحت لواء الدولة، وذلك لأن استقلال الجماعات وابتعاد الفرد عن
مجال الدولة سيؤدي إلى الزيادة من خطر المستعمر الأجنبي على الدولة.
كل ذلك أدى إلى اضمحلال
العشيرة والبداوة وفقدان التجربة الصوفية لمضمونها، فظهر نقض الحرفة وتراجع نفوذها
بعد أن كانت تحافظ على جودة الإنتاج وعلى السعر المناسب، وعلى حسن معاملة المعلم
للمتعلم، كل ذلك اضمحل بمجيء المنتوجات الصناعية الأوربية المنخفضة الأثمان، وفي
المقابل ارتفعت الضرائب المفروضة على الصناعة التقليدية وارتفعت أسعار المواد
الخام، الشيء الذي شكل ضربة قوية للحرفة لم تستطع القيام اتجاهها بأي رد فعل، بل
أصبح الفرد ينظر إليها كعائق يحول دون تقدمه، وبالتالي ضرورة التخلي عنها والتحرر
من قيودها.
كذلك الأمر بالنسبة للعائلة
التي لم تسلم هي الأخرى من التغيير الذي عرفته مختلف جوانب الحياة الاجتماعية،
فأصبح الفرد في الأسرة الحديثة يحس بقيمة ذاته كعضو فعال في العائلة، بعد أن كان
الأب هو المسئول الأول الذي يحمل على عاتقه جلب كل متطلبات أفراد الأسرة، أصبح
بمقدور الإبن أن يدخل إلى ميدان الشغل ويثبت ذاته داخل الأسرة.
"بل في كثير من الأحيان
أصبح الإبن هو صاحب المعرفة، لم يعد من المستغرب أن يفسر الإبن لأبيه الرسائل
والمناشير الرسمية أو تشتغل البنت ممرضة أو معلمة أو كاتبة فتشارك بعملها هذا في
ميزانية البيت بقسط اكبر مما يساهم به أبوها. وهكذا نشأت الشخصية، أعطى العلم
للابن شخصية وأعطى العمل للبنت شخصية"[35].
يرجع "العروي" أصل
كل هذه التطورات التي لحقت شخصية الفرد سواء في علاقته مع أسرته أو مع العشيرة إلى
سياسة الدولة الإصلاحية، وأصل هذه الأخيرة هو الخطر الأجنبي المتمثل في الضغط الأوربي على البلاد الإسلامية، فبدخول المستعمر
إلى البلاد الإسلامية كان من الضروري أن تتغير تلك النظرة إلى الدولة باعتبارها
عدوا سياسيا إلى اعتبارها الدرع الواقي الذي يحمي أفرادها من الخطر الأجنبي.
كل ذلك سيؤدي إلى تفكيك مكونات المجتمع والدخول
تحت لواء الدولة بشكل مباشر، ونظرا لهذه التطورات الاجتماعية التي عرفها المجتمع
الإسلامي في أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، أخذ "مفهوم
الحرية" مكانة في مجال الإدراك، وانتشرت كلمة "الحرية"' داخل مجالات المخاطبة
والتعبير، فمع ازدياد نفوذ الدولة ومع اتساع مجال تصرف الدولة أصبح الفرد يواجه
مجموعة من الحواجز التي تحد من حريته، لذلك فحاجاته إلى الحرية تزداد مع ازدياد
تجاربه التي تقيد حريته " وبما أن الدولة تهدف إلى أن تكون شاملة ومستبدة،
فإن معاناة الحدود المفروضة على التصرف لا تنفك تتسع وتتنوع، يجرب المرء في كل
ميدان وفي كل ظروف، وفي كل عهد من عهود حياته، الحد من التصرف، أي اللاحرية، فهو
محتاج إذن إلى مفهوم الحرية وإلى الكلمة"[36].
وإلى جانب هذا التطور
الاجتماعي يشير العروي إلى أن التطور اللغوي الخاص بكلمة حرية التي كانت لا تستعمل
في المجتمعات التقليدية إلا في مناسبات خاصة ولأهداف قليلة معينة، فأصبحت في
المجتمع الحديث لا تكاد الشفاه والأقلام تستغني عنها، ويرى بأن التطور الاجتماعي
ملازم للتطور اللغوي، فلا يمكن بأي حال فصل التطور الاجتماعي عن التطور اللغوي.
لقد ازداد توسع مجال
اللاحرية، وتنامى الإحساس بضرورتها ورفعت شعارات النداء إليها فأصبحت كلمة "حرية"
تعني تناقض الحدود و"تجربة الحرية" تعني تجربة الحد من الحرية وبالتالي فعصر
الإصلاحات لم يهتم إلا برفع الحواجز أمام الشخصية، وليس بتأصيل "مفهوم
الحرية"، " لقد وجدنا في المجتمع العربي التقليدي طوبى مجسدة في رموز
منافية للدولة إما داخلها وإما خارجها. في المجتمع العربي أيام التنظيمات نجد
الحرية كشعار يهدف فقط إلى رفع الحواجز أمام الشخصية بدون اهتمام بتأصيل وتنظير
مفهوم الحرية"[37]
3- نظريـة
الحريـة وواقـع الدولـة العربيـة الإسلاميـة
رفض عبد الله العروي كون
الليبرالية العربية قد تولدت بشكل آلي عن الليبرالية الغربية، إلا أنه لا ينفي
مسألة التأثر بالفكر الليبرالي، بحيث أنها وليدة المجتمع الذي طرأت عليه عدة تغيرات، وبالتالي فإن مضامين شعار
الحرية الليبرالية جاء مستجيبا لهذه الحاجات، ودليله على ذلك كون العرب لم ينقلوا
بأمانة الليبرالية الأوروبية المعاصرة لهم وإنما تعاموا عما كانت تحمل من وعي
بتناقضاتها وأولوا الليبرالية العصر حسب حاجاتهم ورغباتهم.
طوال القرن الثامن عشر قدر
للمفكرين العرب ومن جاء بعدهم في القرن التاسع عشر، الاتصال بالفكر الليبرالي الأوروبي
من جيل الأفغاني ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد الناصري وكذا جيل طه
حسين وغيرهم أن يعيش العالم العربي حقبة ليبرالية حقيقية، إلا أن هذا الاتصال كان
مشوشا إلى حد بعيد فتمة ليبراليات إن جاز التعبير عرفتها أوروبا في تاريخها ولم
يكن بمقدور المفكرين أو المثقفين العرب أن يكتشفوا التناقضات الجلية التي تنطوي
عليها الليبرالية، الأمر الذي حجب عنهم إمكانية نقذها أو فحص جذورها وأسسها
الفلسفية، وبالتالي بقيت شعارا يرفعه هؤلاء المفكرون.
كما أن العروي يري بأن مجموعة من المثقفين العرب
خلال القرن التاسع عشر، لم يفهموها بالمعنى الأوروبي الليبرالي بحيث نجد الناصري
يعتبرها تعني إسقاط حقوق الله والإنسانية كما أنها من وضع الزنادقة "إن مفهوم الحرية لم يستوعبه حتى المؤلفون
الأكثر التصاقا بالفكر الغربي"[38] غير أن التطور الذي حصل في
البلاد العربية منذ الخمسينات من القرن العشرين، جعل المفكرين يتعمقون في المفهوم
ويبحثون عن المفارقات المتضمنة فيه خاصة عندما تجلت الصراعات بين مكونات المجتمع وفك ذلك الإجماع الذي كان
من قبل حولها كشعار، وبالتالي تم الوعي بافتقادها إلى أصل فلسفي، فبدأت تظهر بوادر
التعامل معها كمفهوم لا كشعار، بمعنى محاولة التأصيل فلسفيا لنظرية الحرية، يعني
العروي بالنظرية "محاولة تأصيل الحرية بعد الوعي بالتناقضات الناشئة عن التطبيق "[39]
حسب العروي أن السبق في إظهار
تناقضاتها كان لأصحاب الاتجاه الديني لأنهم أقل التصاقا بالإنتاج الليبرالي والأكثر
تعرفا على التراث الإسلامي التقليدي، داخل هذا الاتجاه يميز بين جماعتين: جماعة
استغلت ظروفا سياسية كهزيمة 1967 للتحامل على الليبرالية الغربية ورفض كل تأثير
بها، بحيث اعتبرتها من أعمال الزنادقة. يترك المؤلف هذه الجماعة لأنه لم يجد في تأليفها
أية نظرية عن الحرية ليهتم بالجماعة الثانية، التي تعتمد على الإسلام لا لهدم
مفهوم الحرية، بل لتركيزه وتأصيله، فدعوا
إلى ضرورة الرجوع إلى الأصوليين من الفقهاء والمتصوفين لفهم الخطوط العريضة للدين الإسلامي
والذي لا يحمل في نظرهم أي معاداة للحريات السياسية والاجتماعية، بل أنه يتعداها إلى
حرية كونية أعمق وأشمل.
يرى العروي أن كل نقد لليبرالية يقود في كل الأحوال
إلى ضرورة وضع المطلق كأصل للحرية البشرية ،سواء تجسد ذلك المطلق في الدولة أو في
القانون الطبيعي، فكان المطلق لديهم هو الله الواحد، لأن الأمر الإلهي يعني
بالضرورة الحرية المطلقة، ولا حرية للإنسان إلا به، ويورد العروي نموذجين للمفكرين
الإسلاميين الذين اعتنقوا هذا الاتجاه هما علال الفاسي وحسن حنفي.
فعلال الفاسي كما يرى العروي،
لم ينف الحريات الليبرالية كما فعله من قبله من المحافظين بل إنه أقر "ومن
لوازم الدين حرية الفكر. فللناس جميعا الحق في أن
يفكروا إزاء كل مسألة على الطريقة التي يختارونها وبالفكر الذي يريدونه،
وليس لأحد أن يكرههم على اعتقاد مذهب فلسفي أو سياسي إذا كانوا لا يختارونه لأنفسهم وكل من فعل ذلك
فقد أخل بمعظم المقدسات"[40]. والإسلام في نظره دعوة
أخلاقية تحتم على الإنسان أن يكون إنسانا أي يكون حرا وهكذا فالحرية الكونية عند
"علال الفاسي" هي أصل وضمان الحرية التي يحققها الإنسان في التاريخ
والمجتمعات.
يصرح حسن حنفي هو الآخر أن "الله
هو الحرية... وهو كذلك لكي نكسب نحن حريتنا"[41]. الله في رأيه هو المثل
الأعلى للإنسان، وأوصافه هي الأوصاف التي يحتاجها الإنسان داخل مجتمعنا العربي.
ويبدو التأثير الصوفي واضحا على كتابات كل من "علال الفاسي" و"حسن
حنفي" وذلك أن "المتصوفين هم الذين اشتقوا كلمة حرية ليستعملوها في معنى
واسع كوني"[42].
خلاصة القول إن كلمة حرية ظلت
لمدة طويلة شعارا ليس إلا، ثم بعد تجربة طويلة عاشها المجتمع العربي تم طرق ميدان
نظرية الحرية. وأن تأثر عالمنا العربي بالثقافة الليبرالية الغربية ظل قائما لكن "
دون أن تكون أبدا الليبرالية الغربية هي وحدها والدة ومبدعة الليبرالية العربية
"[43].
لكن ما الهدف من نظرية الحرية إذا لم تثبت
واقعها ولا أن تضمن وجود الحرية في التاريخ والمجتمع و الدولة، كما أنها لا تستطيع
أن تنفي ذاتها لتأخذ الحرية شعار بديهيا كما هو الحال مع الليبرالية، "إن
نظرية الحرية لا تثبت بأي حال واقع الحرية، بل يمكن القول أنها في الحقيقة تخفي
نفي الحرية من الحياة اليومية"[44] إلا أن الأساسي في النظرية والمحاولة وتكرارها عبر
التاريخ، "إن النظرية الهيجلية الإسلامية المعاصرة، تقول أن المهم ليس نجاح
النقد، نقد الدولة ونقد الأصنام ...المهم هو المحاولة ذاتها وتكرارها عبر التاريخ
رغم الإخفاقات المتتالية، إن المحاولة دليل على منبع الحرية الكونية. إن الدولة
اللامعقولة لا تنقلب إلى دولة معقولة بسهولة "[45]
إذا كانت الحرية الليبرالية
التي يتحدث عنها الغرب هي حرية سياسية اجتماعية ينكب عليها الفكر الليبرالي، ويحصر
فيها كل تساؤلاته ومناقشاته ويوجه الخطاب للفرد الاجتماعي، أي الفرد المشارك في
هيئة إنتاجية، فماذا يمكننا القول عن واقع العلوم الاجتماعية و السياسية
باعتبارهما مؤشران على مدى تحرر الفرد العربي ؟.
4 - واقـع الحريـة الفرديـة فـي البـلاد العربيـة
يشدد
عبد الله العروي على ضرورة الاهتمام بالعلوم الاجتماعية، (الاقتصاد، السياسة
والاجتماع) لمساهمتها الفعالة في الكشف عن واقع الحرية وتقدير مدى التحرر في
البلاد العربية، بحيث أن علم السياسات هو العلم الذي يبحث في اجتماعيات الحرية،
والذي يرى فيها المجال الذي يهتم بتقويم ومقارنة المجتمعات والطبقات وكذا مقارنة
الماضي بالمستقبل، في تحليل اجتماعي وسياسي للأوضاع، وذلك باستعمال الأرقام كمعايير
ومؤشرات لتلك المقارنة، وبهذا المعنى تصبح الحرية عملية تحرير مستمرة وليس حالة
قارة يمكن ضبطها من بدايتها إلى نهايتها.
يبدأ
العروي بحثه حول "اجتماعيات الحرية" بعلم الاقتصاد لأنه يرى فيه علم وسط
بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الوجدانية، كما أنه علم يجمع في منهجه بين
التقديرات الكمية والأوصاف الكيفية، أنه لا ينكر تقدم علم الاقتصاد في البلاد
العربية بما أنه يعتبره العلم الاجتماعي الوحيد الذي تعلق به اهتمام المثقفين
العرب لأنه المجال الذي يربطهم بواقعهم المجتمعي والحضاري"فتقدم علم الاقتصاد
يدل في حد ذاته على إرادة تحرر عميقة"[46].
بحيث أن علماء الاقتصاد العرب يتطرقون
لمشكل الحرية والفردية فيبينون بالأرقام أن ذلك المستوى ضعيف بالنسبة لجمهور الناس
حتى في البلدان التي ازدادت ثروتها، وارتفعت القدرة الاستهلاكية لأفرادها، ويرجعون
هذا الضعف في مستوى الحرية الفردية، إلى علاقات الدول العربية بالدول الأجنبية،
كما يشيرون إلى سبل هي بمثابة حلول للدول، قد يؤدي إلى الرفع من الإمكانات المادية
والأدبية التي يتمتع بها الفرد العربي، وبالتالي الرفع من قدرته على التحرر.
يرى
العروي أن علم الاقتصاد بهذا المعنى لا يكفي إنارة طريق الحرية الفعلية، لأنه يعطي
فقط وسائل لتحرر في ظروف معينة ولا يضمن هذا التحرر وبالتالي لابد من مساعدة علوم
اجتماعية أخرى كعلم الاجتماع وعلم السياسة.
بخصوص علم الاجتماع فيرى العروي أن هناك نقص في البحوث والانجازات المتعلقة
باجتماعيات الأسرة والطبقة والحزب والنقابة والنادي، بالاستثناء بعض الإنجازات
الفردية "لا تملك المكتبة العربية حتى الآن بحوثا متنوعة وعميقة... إن ما أنجز
لا يزودنا بمؤشر عن مدى المؤشر المذكور ما يزال إلى حد الآن هزيلا جدا"[47].
إلا أن هذا التقليل لا يلغي حقيقة المجتمع
العربي يعبر عن ميله لنقد اجتماعي كالذي أظهره في الميدان الاقتصادي، يعتبر العروي
أن علم الاجتماع وصفي وإصلاحي في نفس الوقت، إلا أن ما يحدد طبيعته الوصفية أو الإصلاحية، هو هوية الباحث إن كان أجنبيا عن المجتمع مال إلى
الوصف ومن علاقات جامدة وخاضعة لقوانين قارة، أما إن كان من أبناء الوطن غلب عليه
الجانب الإصلاحي، فيظهر له المجتمع حيا متغيرا، وشخصية الفرد متميزة حتى من خلال
القوانين الجماعية، وهكذا يصبح وسيلة لتحرير الفرد، إلا أن العلم الذي يدرس في
المؤسسات التعليمية العربية وخاصة الرائدة، ليس علم الاجتماع النقدي، بل الوضعي
الذي أهمل شخصية الفرد وركز على الجماعات وعلى التقاليد التي تتحكم في الوجدان
كأنها قدر لا يدفع.
يرى العروي أن سبب هذه الوضعية هو خضوع
البلاد العربية للاحتلال مدة طويلة إلا أنه في نفس الوقت، يرى بأن هذا الوضع لم
يمنع من وجود بحوث وصفية قيمة إلا أن نتائجها لا يمكن أن تقبل لان المنهج المتبع
فيها موروث عن الاستطلاعات الاستعمارية التي لم تكن بريئة قط.
كما يعتبر أن معاهد الدراسات السياسية قليلة في الجماعات العربية، باستثناء
الدراسات التي أقيمت في لبنان في إطار معاهد أجنبية يبحث هذا العلم في شؤون السلطة
في أصولها ومبرراتها وتوزيعها وتوريثها، فيقدم معيار مساهمة الأفراد في تنظيم
حاضرهم وتخطيط لمستقبلهم، بمعنى أخر يقيم دور الفرد في ممارسة السلطة داخل المجتمع
الذي يعيش فيه.
وبالتالي فإن ضعف وعدم ازدهار علم
السياسة داخل الجامعات الوطنية العربية يعطينا مؤشرا ضعيفا لمشاركة الجماهير
العربية في اختيارات الدولة "يعود ازدهار أو ضمور علم السياسة في البلاد
العربية مؤشرا مهما على نضج المجتمع وبلورة شخصية الفرد، أي مستوى التحرر"[48] وبهذا يحدد العروي ست
مؤشرات : مؤشر النمو الاقتصادي ومؤشر تقدم علم الاقتصاد، تم مؤشر استيعاب العرب
لنتائج العلوم الاجتماعية الحديثة، ومؤشر انتشار نمط الفكر العلمي في المجتمع، وأخيرا
مؤشر المشاركة الفردية في الاختيارات السياسية ومؤشر توظيف علم السياسة في البلاد
العربية.
وبهذا يكون العروي قد ترك مجال العراك السياسي والنظر الفلسفي لينتقل إلى
مدار الحياة اليومية بحيث يرى أن المجتمع العربي مليء بصدى الدعوة المتجددة إلى
الحرية، إلا أن المؤشرات عليها ضعيفة بالنسبة لما حققته شعوب أخرى.
خاتمـــة
حاولنا
من خلال هذا البحث إبراز موقف أحد المفكرين المغاربة الذين ساهموا بجهدهم الفكري
في إغناء الساحة الثقافية العربية وهو عبد الله العروي، هذه الأخيرة كما هو معلوم
تعرف حالة الركود وجمود فكري ينعكس على واقعها اليومي كما ينعكس هو عليها.
يمكننا
القول أن العروي من خلال كتبه الثلاثة (الحرية، الدولة، العقل)، يرى أنه لم يتحقق
أي مستلزم من مستلزمات الحداثة في الدولة العربية الحديثة.
بحيث
أنه يخلص في كتابه "مفهوم الدولة" إلى القول بانعدام الواقعية في
التأليف العربي الإسلامي في موضوع الدولة، لان الواقعية تستلزم التفكير في الإنسان
كل إنسان من دون إضفاء صفات الكمال عليه.
لأن كل ما يوجد هو الطوباوية التي عبر عنها
الفقهاء والفلاسفة والمتصوفين بتجاهلهم الواقع لصالح الحياة الوجدانية كما عبرت
عنها الحركة الوطنية بتبنيها طوبى الفقهاء وهذا هو ما حال دون تأليف "نظرية
الدولة".
هذه
النظرية التي تثبت حسبه، أن الحرية خارج الدولة طوبي والدولة بلا حرية ضعيفة
ومتداعية، وهكذا فالعروي يرى بأن العرب لم يستطيعوا بلورة نظرية الحرية، كما أنهم لم يكونوا يستعملون
الكلمة إلا في مناسبات، وتحت تعابير مغايرة لها كما أن بعض مفكري القرن التاسع عشر
كالناصري مثلا، رفضوها بدعوى أنها تسقط حقوق الله.
ليخلص إلى القول أن الحرية في الثقافة العربية
الإسلامية، رفعت كشعار وعاشوها كطوبي ولم يستطيعوا تمثلها كمفهوم واعين
بتناقضاتها.
ليؤكد
في كتابه "مفهوم العقل" على أن هذه المفاهيم لا تطابق المجتمعات العربية
مطابقة تامة كاملة، بمعنى أننا لو انطلقنا من المجتمعات العربية وحدها من إنجازاتها
الثقافية الماضية والحاضرة لا استحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى اكتمال المفهوم،
"يستحيل أن نجد الآن عند الغزالي مفهوم الأدلوجة... ولا عند ابن عربي مفهوم
الحرية مكتملا، ولا عند الشاطبي مفهوم الدولة مكتملا، ولا عند ابن خلدون مفهوم
التاريخ مكتملا ولا عند ابن رشد مفهوم العقل مكتملا"[49] إلا أن ما يآخذ عليه خاصة
في كتابه "مفهوم الحرية" هو اقتصاره على تلك الرموزالأربعة فقط، وإقصاءه
لعلم الكلام ومفاهيمه كمفهوم الإختيار الذي يعبر عن الحرية بشكل واضح.
لقد
عمل من خلال كتابه "مفهوم العقل" تبين محدودية العقل العربي في شقيه
النظري "محمد عبده" والعملي "ابن خلدون"، ليختم سلسلة
المفاهيم بالدعوة إلى ضرورة القطيعة مع التراث، الذي يرى أن النقد لا ينفع فيه،
وكل ما ينفع هو القفز فوقه، واستيعاب في المقابل سؤال الحداثة، المتمثلة في الفكر
اللبيرالي للقرن الثامن عشر، وكذا التطور التاريخي الذي وقع في الغرب.
يرى أنه
لا يمكن تخطي عتبة التأخر وبناء النهضة المنشودة في الواقع المغربي والعربي عموما،
دون مشروع يهدف إلى التغيير الشامل، هذا المشروع يرى في الحداثة والتحديث الأفق
المساعد على انجاز ما يسمح تقليص الفوارق القائمة بيننا وبين "الأخر"
(الغرب المتحضر)، وتحصيل ما يؤهلنا لانخراط فاعل في مجتمعنا وفي زماننا، فالمنقذ
المناسب يتمثل بالأساس في انجاز ثورة ثقافية، ثورة تسمح بالقطع مع تصورات معينة
للتاريخ والثقافة لان هذا القطع بمثابة خطوة في اتجاه الحداثة.
لكن
إذا كان العروي قد دعا إلى القطيعة والحسم فيها، فإن الأستاذ محمد عابد الجابري قد
تساءل، "هل صحيح أن الفكر السلفي خطير إلى هذه الدرجة ؟ هل صحيح أنه هو وحده العائق
الوحيد أمام التقدم والتحديث؟ وهل موقف العروي من الفكر السلفي خاصة ومن التراث
عامة موقف علمي"[50]؟ ويضيف الأستاذ طه عبد
الرحمان بخصوص الموضوع "ما لكم والماضي حتى تجعلون منه الشر المستطير في كل
وقت وحين"[51].
وإذا
اعتبر العروي التراث ميتا ومميتا فإن الجابري، يرى بأنه حي وميت في الوقت نفسه.
"إن
التراث هو الكائن الحي الميت في الوقت نفسه هو ميت أي ماض بالنسبة لنا، لكنه أيضا
حي فينا شئنا ذلك أم أبينا، فهو إذن ماض تفصلنا عنه أحيانا قطائع ابستمولوجية،
وأحيانا مسافات زمنية، لكنه حي ولهذا السبب فإنه لا يمكن للعرب كأمة لها تاريخها
وتراثها أن يتحرروا من هذا التراث ويرموه في البحر هذا غير ممكن نهائيا"[52]، في حين أن الأمر الممكن
هو الانكباب على هذا التراث وغربلته بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصرية عنه
معتمدا في هذه الإمكانية على ما سماه بمبدأ "الاستقلال التاريخي"، أي
التحرر من الفكر الأوربي ومن التراث معا والتحرر من يعني امتلاكهما بعد فحص نقدي
إذن "فالاستقلال التاريخي للذات لا يتناقض مع تفتحنا على الفكر العالمي، ولا
على التراث بل يعني التعامل معهما تعاملا تقذيا. بأن تكون الذات مالكة لزمام أمرها
غير مندمجة في موضوعها بل تعمل على دمجه فيها وعلى امتلاكه بقدر حاجتها وحسب نوع
هذه الحاجة"[53].
إن
تصور العروي هذا قد لا يؤدي إلى تخطي هذه الوضعية التي يعرفها العالم العربي بل إنه
قد يولد مفارقات جديدة تبتدئ بهشاشة صورة الحداثة في الواقع والفكر العربيين.
وهنا
نستحضر مقولة الأستاذ طه عبد الرحمان "لكل أمة حداثتها المخصوصة: بمعنى
تطبيقاتها الخاصة لروح الحداثة على شرط أن تكف هذه الأمة عن الإتباع وأن تنشد
الإبداع"[54]،
بحيث يرى بأن واقع الحداثة واقع مخصوص بما هو تطبيق ممكن من بين تطبيقات الأخرى الممكنة
لروح الحداثة بأعماله في الحداثة، آليات تفكيكة وحددها في ثلاث إمكانيات
"التنسيب" و "التعدد" و "التمكين" وبهذا الخصوص
يقول "أن يكون المرء حداثيا معناه ألا يقلد الحداثي في شيء من أمره، وإلا
انقلب هو إلى مقلد ومن شأن الحداثة أنها لا تقبل التقليد فكل مبدع حداثي وكل مقلد
غير حداثي"[55]
[1] - عبد الله العروي "مفهوم العقل "المركز الثقافي
العربي بيروت – البيضاء الطبعة الثانية 1997 الصفحة 14
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق