عوامل قيام الحضارة
إن عوامل قيام حضارة ما تتشابه مع عوامل
قيام الحضارات الأخرى، أو هي نفسها تقريبا باعتبار أن هذه العوامل ثابتة، وقلَّ ما
يصيبها التغييـر، فهي سنة أو أمر الله في كوننا هذا، قال تعالى:" وَتِلْكَ
الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " [1][47]، والحضارة الإسلامية من جملة الحضارات التي تعاقبت على وجه الأرض
خضعت لنفس هذه العوامل التي سنوضحها بصورة عامة في الآتي :
1-العامل
الجيولوجي( وصف الأرض): من المعلوم أن
الكرة الأرضية مرت بعصور جيولوجية تدعى « الأزمنة الجيولوجية » أخرها
الزمن الذي نعيش فيه، ويقدر العلماء أن العصر الأخير شهد أربعة عصور جليدية بين كل
عصر وأخر نشأت حضارة، ولكن الجليد الذي كان يطمسها بركام من الثلوج والأحجار ـ
عندما كان يعاود الأرض ـ ويحصر الحياة في نطاق ضيق من سطح الأرض، كما أن الزلازل
والبراكين هي الأخرى أسهمت ومازالت تسهم
في طمس معالم الحضارة [2][48].
وعليه يمكن القول أن العوامل الجيولوجية تؤثـر
على قيام الحضارة، وتسهم في تطورها في الحالة التي تكون فيها الأرض مستقرة، والعكس
صحيح عندما تشهد تغيرا وتحركا وثورانا، حيث تصبح تهدد بالدمار والخراب بين لحظة
وأخرى، ومن هذا الجانب فالحضارة العربية الإسلامية من جملة الحضارات التي امتدت
على رقعة من الأرض مستقرة نسبيا رغم أن خط النار يخترقه من جهة، ويحيط بها من جهة
أخرى ـ أي خط الزلازل، وعموما يمكن القول أن هذا الاستقرار كان عاملا مساعدا لها.
2 - العامل
الجغرافي : ويشمل التقلبات المناخية والطقس من حرارة ، وبرودة، ورطوبة وجفاف، وأمطار،
ورياح، وإعصارات، وتصحر، ومن المعلوم أن المناطق الحارة، والاستوائية لا توفر
الظروف المناخية المناسبة لنشاط الإنسان، وبالتالي لقيام حضارة، فالحرارة في
المناطق الأستوائية، وكثرة الأمطار يساعدان على نمو الطفيليات في تلك البلاد؛
فيسودها الخمول والأمراض، وتؤدي إلى نضوج مبكر، وانحلال مبكر لاسيما لدى الإنسان
الذي لا يصرف جهوده في كماليات الحياة التي هي قوام الحضارة، ويستنفذها جميعا في
إشباع الجوع، وعملية التناسل بحيث لا تذر للإنسان شيئا من الجهد ينفقه في ميادين
الفنون، والتفكير، ومثل هؤلاء سكان المناطق القطبية ـ الإسكيموـ ، والمطر عامل أساسي للحياة
الاقتصادية والاجتماعية، ولقيام الحضارة، بل هو أهم من ضوء الشمس، ولذلك فإن
الحضارات القديمة كلها قامت في المناطق التي تهطل بها الأمطار بكميات كافية، وحول
الأنهار مثل حضارة وادي الرافدين، وحضارة مصر حول النيل، وحضارة الهند حول أنهار
السند والغانج وحضارة الصين حول الأنهار
الكبرى، وحضارة اليونان والرومان[3][49]، والحضارة العربية الإسلامية التي قامت في مناطق الأمطار
والأنهار وامتدت حتى الصحاري رغم قلة التساقط، لكن فعالياتها البشرية استطاعت
ترويض طبيعنهت والاستفادة منها..
3-العامل
الاقتصادي : أول صورة ظهرت فيها الحضارة هي الزراعة، إذ استقر الإنسان باكتشافه لها،
فبنى مسكنه، ومعبده، واستأنس الحيوانات لخدمته، مثل الكلب للحراسة، والحمار للجر
والنقل، واخترع الآلة؛ ومكنه هذا التطور من وقت فراغ استثمره في مجالات الفنون
والآداب، والاكتشاف، وازدادت قدرته على نقل التراث الإنساني لذلك ارتبطت الحضارة،
والثقافة بتطور الزراعة، واكتشاف الغذاء كان بداية لمرحلة ثانية من حياة البشر هي
الحضارة [4][50]؛ كما لعب التبادل التجاري
دورا كبيرا في نمو وتطور الحضارة، فبالإضافة إلى تصريف البضائع واستيراد
أخرى؛ فقد كانت تنتقل مع هذا التبادل الخبرات الفنية، والمكتشفات الجديدة، وأساليب
العمل، والعادات، والمعتقدات؛ فأثرى ذلك الجانب الفكري في الإنسان، وساعد على
النمو والتطور السريع، وتطورت المساكن البسيطة إلى مدن كان
يتجمع فيها ما ينتجه الريف من ثروة ونوابغ، وعملت الصناعة مثل التجارة على مضاعفة
وسائل الراحـة، والترف، والفراغ،[5][51] وقد لاحظ ابن خلدون ذلك فقال: " فالبدو أصل للمدن، والحضر،
وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري؛ ولا ينتهي إلى الكمالي، والترف إلا
إذا كان الضروري حاصلا في شوكة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن
غاية البدو"[6][52]، وفي السياق نفسه قال ديورانت :" الحضارة تبدأ في كوخ الفلاح
ولكنها لا تزدهر إلا في المدن"[7][53]
4-العامل
الديني : لابد للناس بعض الاتفاق في العقائد الرئيسية؛ وجانب من الإيمان بما هو
كائن وراء الطبيعة إذ أن ذلك يرفع
الأخلاق؛ ويدعم الإخلاص في العمل؛ فالعامل
الديني يقوي اللحمة بين أفراد الأمة، ويدفع بهم إلى العمل والاكتشاف؛ وتعدد
الديانات والمعتقدات قد يكون سببا في ضعفها، وفي تمزيق وحدة الأمة والشعب بفعل
تعصب كل طائفة إلى دينها وعقيدتها، لاسيما إذا تناقضت العقائد مثل ما هو حادث في
الهند أين يحرم الهندوس ذبح البقر؛ في حين يحلها المسلمون؟
والإسلام كعقيدة وشريعة كان العامل الرئيس في
تحقيق هذا الألتحام في المجتمع مما جعل أفراده يتنافسون في تحقيق مثله العليا وفي
مقدمته سعادة الإنسان في الدارين.
5-العامل
الأخلاقي : إن المجتمع يحتاج إلى ضوابط أخلاقية؛ بحيث إذا وقع من أحد أفراده ، أو
جماعة منه تجاوز يعاقب معنويا، ويطرد سلوكيا، وهو ماجسدته الشريعة في تنظيمها
للمجتمع الإسلامي.
5-العامل
التربوي : إن نظام التعليم هو الذي ينقل الثقافة، والمعرفة، وتراث الأجداد إلى
الأبناء والأحفاد أي من جيل إلى جيل فيحدث بذلك تراكم تراثي يؤدي إلى الإسهام في
قيام الحضارة، وقاعدة انطلاق لها، والقرآن أعطى لهذا العامل الأولوية في بناء
المجتمع والحضارة عندما كانت أول آياته هي " إقرأ " .
7-العامل
الثقافي : كاللغة الواحدة التي توفر إلى حد ما جوا سهلا يتبادل فيه الناس الأفكار
والآراء، وكذلك وجود قانون ديني يحدد الواجبات والحقوق، وينظم سلوك الناس، وكانت
اللغة العربية، والفقه الإسلامي العاملين الأساسين في توفير هذا الجو .
العامل
السياسي والنفسي : إن الاستقرار السياسي، ووجود نظام قوي يفرض القانون على
الجميع، ويضع حدا للتعدي والخوف، ويعمل على توفير الأمن والأمان بواسطة العدل،
والمساواة من شأنه أن يصرف الأفراد إلى العمل والإنتاج، والاكتشاف، وبالتالي تزداد
الوسائل والإمكانيات فتزدهر الحضارة، ودون ذلك
لايستطيع المجتمع أن يأخذ بأسباب الحضارة، وهو يعيش في حالة من القلق
والخوف[8][54].
ودولة الإسلام منذ عهد الرسول r والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ثم ما تعاقب من دول أخذت بهذين
السببين، ووفرت بذلك مجالا واسعا للعمل والاكتشاف.
هذه العوامل مجتمعة هي التي كانت
وستكون وراء ازدهار الحضارات، ولو انعدم واحد منها تقوضت أسسها، فلو حدث مثلا
استنفاد الموارد الطبيعية أو الوقود، أو تغيرت طرق التجارة أو حدث انحلال عقلي أو
أخلاقي أو تهدمت القواعد التقليدية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي، ثم العجز عن
إحلال غيرها مكانها أو انهيار قوة الأصلاب ـ أي تفكك الروابط القبلية والعائلية ـ
بسبب انهيار الحياة الجنسية أو سيادة الفلسفة التشاؤمية التي تحفز على ازدراء
الكفاح (العمل) وضعف الزعامة ـ القيادة السياسية ـ بسبب عقم يصيب الأكفاء أو القلة
في نسبة الأفراد أو الأسرات التي كان بمقدورها أن تورث الخلف تراث الجماعة الفكري
كاملا غير منقوص أو تركز الثروة تركز مفرط، ومحزن يؤدي بالناس إلى حرب الطبقات،
والثورة الهدامة لانحلت الحضارة وانكفأت[9][55]، إضافة إلى التغيرات الجيولوجية بفعل الهزات والزلازل والبراكين،
والتقلبات المناخية التي تؤدي إلى جفاف قاتل أو إلى إغراق بالمياه والثلوج ضار
بمجهودات الإنسان الحضارية.
[8][54] - أحمد محمد عبد الرازق ، الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، (
القاهرة: دار الفكر العربي، 1990 ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق