الأربعاء، 31 أكتوبر 2012


الحق العربي في الاختلاف الفلسفي عند طه عبد الرحمن

Photo : ‎الحق العربي في الاختلاف الفلسفي عند طه عبد الرحمن

هل هناك إبداع من دون اتباع؟
الثلثاء 15 شباط (فبراير) 2011
بقلم: مصطفى العارف  





هل الفلسفة، كونية أم قومية؟ أي أنها كونية تهم البشرية جمعاء، أم قومية تخص قوما بذاته من خلال إنتاجاته، هذا هو السؤال الذي يحاول طه عبد الرحمن الإجابة عنه، بل والذهاب إلى الاعتراض على دعوى "كونية الفلسفة"، ويسوق في ذلك اعتراضات من أهمها ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي والاجتماعي وبالسياق اللغوي والأدبي، فكل فلسفة هي نتيجة سياق تاريخي ونطاق اجتماعي مخصوص، ولا وجود لفلسفة بلا هذا السياق التاريخي ولا هذا النطاق الاجتماعي، زد على ذلك أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي (1)، وفي إطار اللغة ينتج الاختلاف بين الفلاسفة إلى درجة تصنيفها إلى مذاهب عند كل أمة، ويؤدي هذا إلى تصنيف الفلسفة منن خلال قوميتها، فنقول "الفلسفة الفرنسية" و"الفلسفة الألمانية" و"الفلسفة الانجليزية" هذا دون أن ينسى المؤلف إيراد اعتراضات على حدة العقل ووحدة الطبيعة الإنسانية، مؤكدا أن العقل ليس وحدة وذاتا، وإنما فعالية (2)، ومنه ينتج عنه انفكاك وحدة الفلسفة، إن كان العقل ليس موحدا كليا وبالتالي فلا جدوى من القول بكونية الفلسفة والفكر لأن هذا القول فيه طمس لخصوصية الشعوب والأقوام في إنتاجاتهم الفلسفية والفكرية.


على أن مفهوم الكونية الذي يستعمله طه عبد الرحمن هنا يلفه كثير من الغموض. فالكونية عنده كمفهوم يعني التعميم على أفراد البشر جميعا، وهو ما يحيل إليه أيضا مفهوم "العالمية" الذي يقصد به المؤلف ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة (3)، والصيغة التي يعطيها للمفهومين هي الصيغة الجغرافية أو الصيغة السياسية، وربما يذهب الأستاذ إلى إيراد صيغة الغرب مرادف لمفهوم "الكونية". فالكوني لا يحيل بالضرورة إلى ما درج على تسميته الغربي إن الكوني عصر من عصور العالم، فهو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي، إن "الكونية" لا هوية لها وربما كانت اليوم هي ما يحدد كل هوية (4) يقول هيدغر : "اليوناني والمسيحي والكوني والغربي، كل هذه العصور ندركها انطلاقا من خاصية أساسية للوجود، وهي أن الوجود لما هو حقيقة وانكشاف، فهو يخفي أكثر مما يظهر" (5).


كيف يمكن إذن قيام فلسفة عربية مستقلة عن الكونية الفلسفية، يجيب طه عبد الرحمن عن هذا السؤال بطرح خطة خِطابية لقيام فضاء فلسفي عربي، مفادها نحت مفاهيم مثل "القيام" و"القوام" و"القومة" وهي مصطلحات تستمد قيمتها من مفهوم "القومية" وتتأسس على العمل المتواصل والمستقل والإنتاج الفعال والدينامي، فما يميز القومية ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدث في القوم، بقدر ما هي جملة القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع وتوجهها (6) ولا يجب تبني مفهوم معين منقول من الفضاء الفلسفي العالمي، حتى تثبت بالدليل صحته وفائدته في مجال تداول المشتغل في الميدان، ويشدد طه عبد الرحمن على النقد في جلب القوة وان الاعتقاد في الفلسفة يجلب الضعف، فالنقد ليس رفضا مسبقا، ولا ردا متعسفا وإنما هو عرض للمفاهيم المنقولة على الأدلة المنطقية، وحتى وإن ثبتت صحة هذه المفاهيم، فذلك لا يلزم ثبوت فائدتها (7).


إننا أمام رفض مطلق لكل ما هو براني، فحال الأمم، والحالة هذه، هو الانفتاح على الشعوب الأخرى وإن كانت على غير ملتنا كما قال الكندي، فالنظر فيما تقدم من الأمم السالفة أو المعاصرة مما أنتجوه وأثبتوه في كتبهم، إنما هو أمر واجب اتباعه، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم(8). إذ أننا نؤكد على نقد وفحص المفاهيم المنقولة من الفضاء الفلسفي العالمي، ونحرص على عدم تداولها بيننا قبل أن نرى هل تتوافق مع خصوصيتنا الثقافية والدينية، فإننا مطالبون نحن أيضا بنقد لكل الأشكال القديمة والجديدة لتراثنا ونخلصه من صيغته الفقهية، فنكون بذلك أمام نقد مزدوج une double critique وفكر مغاير pensée-autre لا يحن للعودة إلى الأسس ولا إلى التغني بأمجاد الماضي (9).


هذا الماضي الذي يحاول بعض الباحثين المعاصرين في الفكر الفلسفي أن يجعلوا منه عصرا ذهبيا سيطرت فيه روح العقلانية والعقل والخطاب البرهاني، على أن محاولة أبي الوليد بن رشد في تحويل الفلسفة إلى خطاب برهاني واتباعه لطريق الاستنتاج المنطقي، تعد الأشهر والأبرز من بين محاولات الفلاسفة المسلمين السابقين عليه، لكن هذا القول –في أن الفلسفة خطاب برهاني- إنما هو قول يقضي بشكل كلي على خصوصية الفكر الفلسفي من حيث هو كرّ وفرّ وقدرته على التراجع والانتقاد وعلى إنتاج الأسئلة وتوليد الفراغات، فالقول بأن العقل –أو اللوغوس- الذي يميز الممارسة الفلسفية يصفو ويتمحض فيها بالكلية، بمعنى أن القول الفلسفي قول عقلي، هو ادّعاء أسطوري كما يصفه عبد الرحمن، ويحاول المؤلف إيجاد مجموعة من المبادئ المنهجية التي تساعد في دفع القول بأسطورة اللوغوس العقلي للفلسفة، وهي على ثلاثة وجوه، مبدأ المعرفة الموضوعية، حيث أن الفلسفة وحدها من دون شعب المعرفة الإنسانية لم تكن في تاريخ ممارستها كله محل معرفة موضوعية (10)، أما المبدأ الثاني فيتلخص في التقسيم التركيبي الكلامي، حيث يجعل المؤلف للفلسفة أقسام ثلاثة للكلام هي : "المفهوم" و"التعريف" و"الدليل"، ومتى استطاعت هذه التقسيمات تجاوز الفلسفة الخالصة كان الحظ أوفر لقيام فلسفة عربية حية (11)، والمبدأ الثالث يتعلق بالتقسيم البياني للكلام، وينقسم بدوره إلى قسمين هما : العبارة والإشارة، واللغة الفلسفية تتميز بمظاهر العبارة العقلية وأيضا بالإشارة الخيالية، وقد اعتقد متفلسفة العرب أن الفلسفة الغربية المنقولة إليهم إنما هي ذات طبيعة عبارية عقلية محضة مثلها مثل العلم الرياضي، لأن حقائقها لا تحكمها إلا قوة العقل وحدها، وهذا من بين الأسباب التي دفعت الغزالي إلى محاولة هدم مذاهب الفلاسفة، معترضا عليهم سلوكم طريق البرهان، ومتهما إياهم اعتماد التخييل والأوهام، يقول أبو حامد "(…) ليعلم أنه لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم وأنهم يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية، بظهور العلوم الحسابية والمنطقية. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية"(12).


فلا قدرة للمتفلسف على الإبداع إن هو لم يزاوج بين العمومية العقلية والخصوصية الإشارية، فالإبداع الفلسفي لا يمكنه أن يكون عقلا محضا وخطابا برهانيا خالصا، لأن ذلك يؤدي به إلى الجمود والثبات، وهذه ليست من خصائص الفكر الفلسفي. الفلسفة الحية حسب طه عبد الرحمان تجعل من تأثيل المفهوم شيئا لا يستغنى عنه، ويقصد المؤلف بالتأثيل، عدم الاكتفاء بالجانب الاصطلاحي للمفهوم، بل يجب ربط معنى المفهوم بمعناه اللغوي ومحاولة معرفة جميع المعاني المتعلقة بالمفهوم المراد تأثيله، وهذا العمل يؤدي إلى فتح آفاق في التفلسف يقع لها تجديد الطاقة الدلالية للمفاهيم العربية (13). 

  
انطلاقا من هذه المعطيات يمكن إنتاج فلسفة حية تستند بالأساس على الجانب التخييلي، فالتخيل أمر لا مفر منه لقيام فلسفة حية، فإنتاجية الأدلة في الفلسفة الحية إنما يأتي من كون جانبها الاستنتاجي يستند بالضرورة إلى الجانب التخييلي (14)، فالفلسفات غير العربية لا تأتي بالدليل تلو الدليل لإثبات دعاويها، وإنما تلجأ إلى الممارسة الأدبية والشعرية للتعبير عن أقاويلها وهذا شأن أفلاطون وابن طفيل ومعاصرون كهيدغر ودولوز وغيرهم كثيرا. أما المتفلسفة العرب فهم على عكس ذلك يرون في الأمثال والرموز خيالات، وهي خلاف الحقائق المطلوبة ولا ينبغي الاعتماد عليها، فهي لا تليق إلا بذوي الأبصار المحجوبة أو الأوهام المحدودة كجمهور العوام (15)، لكن رائعة ابن طفيل "حي بن يقظان" نهجت نهجا مخالفا لذلك، إذ جاءت هذه القصة في بديع التخييل الذي كاد أن يغني عن التدليل لكن سرعان ما طمر هذا الأسلوب التخييلي في التفلسف تلميذه ابن رشد الذي استهواه طريق الاستنتاج المنطقي، مع أنه يقم بشرائطه في أكثر ما كتب، ولو أن ابن رشد سد الطريق الذي فتحه أستاذه لكان للفلسفة العربية اليوم شأن آخر (16).


ويخلص طه عبد الرحمن إلى ما توصل إليه من نتائج، فهو يعتقد بأنه لا فلسفة عربية ما لم تقع فيها وصل العبارة بالإشارة، وما لم نزاوج بين الخصوصية الإشارية والعمومية العبارية، بل يجب وصل هذه الفلسفة بالأدب العربي في مجموع قديمه وحديثه، فكل فلسفة أرادت الحياة وجب عليها الاستعانة بأجمل وأجل أساليب الأدب العربي في الإشارة، وأخيرا لا حياة للفلسفة العربية ما لم تتغلغل في التداول اليومي، لأن ذلك هو الشاهد على انخراطها في حياة الناس والجالب لثقتهم بمنفعتها والضامن لتجددها واستمرارها (17).


فالفيلسوف العربي المعاصر يمكن أن يكون مبدعا في الفلسفة إن هو جعل منطلقاته هي المشكلات لا الفلسفات فالفيلسوف يكون مبدعا إن لم يسارع إلى الانتماء إلى تيار من التيارات الكبرى السائدة في تاريخ الفلسفة، وإن جعل مجهوده منصبا بصيغة أساسية على الانتماء لمشاكل عصره ومشاكل الوضع التاريخي الخاص له. فالمسارعة إلى الانتماء لتيار بعينه أو مذهب بعينه يحول دون الإبداع الفلسفي الحي، ويحول صاحبه إلى إنتاج أفكار جاهزة، فالأساسي عند المنتمي إلى تيار معين هو تأكيد انتمائه إلى مجموعة من الأفكار والأطروحات الجاهزة، فالتيارات تسعى إلى الضم والتوحيد أكثر منه إلى الاختلاف والفرقة، إنها تذهب إلى ملئ الفراغات والقضاء على الفوارق وخلق التطابق، وهي بذلك تجرف من تريد أن تفكر بهم لا أن تترك لهم مجال التفكير.
كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟ هذا هو السؤال الذي طرحه المؤلف للخوض في موانع إبداع فلسفي عربي حقيقي، ناهجا للجواب عن هذا السؤال الإحاطة بالمفهوم المركزي في الإشكال ألا وهو "الإبداع" الذي يتفرع إلى ثلاث مفاهيم وهي : "الابتكار" و"الاختراع" و"الإنشاء" على أن طرح طه عبد الرحمن للإشكال ينم عن نية كان قد عبر عنها مستشرقون ومفكرون معاصرون أبرزهم علي سامي النشار، الذي صفى دفعة واحدة التفكير الإسلامي المتأثر بفلسفة الإغريق على حد تعبير محمد أركون "أما العقلانية التي لدى فلاسفة الإسلام فقد كانت عقلانية مشبعة مازلت أقول إن الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد مقلدة اليونان، إن ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية إنما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين". فسامي النشار يصرح بانتمائه إلى الأشعرية ومعاداته التفكير الفلسفي الذي ينعته بتقليد فلاسفة اليونان وهذا ما فتح عدة جبهات على فكر سامي النشار لانتقاده والدفاع عن مكتسبات الفكر الفلسفي الإسلامي، لكن طابع هذه النقاشات هو طابع جداليPolémique وإيديولوجي واضح، مما يؤدي إلى ضياع الوعي الإسلامي المعاصر وانزلاقه في خصومات وصراعات عتيقة وبالية، في الوقت الذي تتراكم فيه أمام هذا الوعي ساحة هائلة من اللامفكر فيه l'impensé (18).


فطه عبد الرحمن ينهج نهج ارنست رينان وسامي النشار ودي بور وآخرين في أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا فلسفة يونانية بلغة عربية، والحال أن هذا الحكم المطلق يحتاج إلى مراجعة رزينة، لأنه لا توجد فلسفة أنتجت من عدم، لأن الفلاسفة لم يفتأوا ومنذ بداية التفلسف يستحضرون فلاسفة سابقين ويستلهمون من فلسفاتهم، فهل نقول على جيل دولوز، والحالة هذه، أنه سوى شارح لنيتشه، وأن كوجيف مقلد لهيغل وميرلو بونتي وسارتر تابعين لفينومينولوجيا هوسرل (19). فإذا اعتبر التفكير من داخل تاريخ الفلسفة اتباعا، فإنه لن يكون هناك سوى الاتباع والتقليد، فالقول بالجدة المطلقة في تاريخ الفلسفة، إنما هو قول ينطوي على يوطوبيا تحاول تأسيس شيء من لا شيء، وتدشين البداية من دون أن تبدأ، مفهوم الإبداع والاتباع ينبغي أن يخضعا لجنب من النسبية، أي أن يبتعدا عن المطلق والنهائي، فلا وجود لإبداع حقيقي داخل تاريخ الفلسفة وليس هناك في المقابل سوى الاتباع المطلق! بل هناك اتباع وإبداع، بل تجد من المفكرين من يبدعون انطلاقا من اتباعهم. كما أن مفهوم الاتباع يحيل إلى مفهوم آخر هو التأثر، فلا يمكننا أن ننكر صفة الإبداع على مفكر أو فلسفة عندما تثبت تأثره بسابقيه، كما يمكننا أن نضفي صفة الإبداع على فكر قطع كل أوصال القرابة مع الفكر السابق عليه، فما يميز الفكر الفلسفي ليس هو تأثره أو عدم تأثره بالفكر السابق عليه، الأمر لا يتعلق بمشكل الاتباع والتأثر، إن ما يميز هذا الفكر هو قدرته على التحرر مما هو جاهز، أن يتحرر من الأفكار كسلطة، قدرته على القطيعة والانفصال(20)، هذا ما تبينه الابستيمولوجيا المعاصرة، ففلسفة كفلسفة النفي la philosophie du nom عند باشلار، لا تعمد إلى إرادة لنفي وإقبار السابق عليها، وإنما تحاول إيجاد الجديد انطلاقا من القديم، وإعادة تشكيل القديم وفقا لمبادئ الجديد (21).


إنه لا إبداع فلسفي حسب طه عبد الرحمن إلا إذا بنينا على حقائق ثلاث إحداها أن القول الفلسفي خطاب، وكل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي، والثانية أنه بيان، وكل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي، والثالثة أنه كتابة، وكل كتابة تضع في الاعتبار بلاغة هذا اللسان، وبذلك نستطيع فتح باب الإبداع الفلسفي متى تيقنا بأن القول الفلسفي ليس مقدسا في نصه، فنتصرف فيه بحسب المتلقي منا، ولا معجزا في نشأته، فنقتدر على وضع مثله بحسب لغتنا، ولا مستقلا في مضمونه، فتعاطي لكتابته بحسب بلاغتنا (22).


يرى طه عبد الرحمن أن تقليد المنقول الفلسفي سمة غالبة على الإنتاج العربي، ويعطي نموذج الإنتاج الفلسفي المغربي، فإن سلمنا بهذه المسلمة وصلنا إلى أن اليقظة التي تعرفها الفلسفة المغربية اليوم سوف تؤول إلى ما آلت إليه اليقظة الفلسفية الإسلامية في طورها الأول، فكما أن فلاسفة الإسلام قديما وقعوا في تقليد المنقول الفلسفي اليوناني، فنسب عملهم إلى التكرار والاجترار، فكذلك الأمر بالنسبة لمتفلسفة المغرب حديثا وهو واقعون في تقليد المنقول الفرنسي. قد يأتي فيه زمان يصفهم فيه النقاد بتعاطي النسخ والوقوع في العقم، فحينئذ تصير اليقظة الفلسفية المغربية الحالية عبارة عن "يقظة معوجة" (23). وإذا ظهر أن اليقظة الفلسفية المغربية دخلت عليها آفة التقليد، فنحن مطالبون أكثر ممن تقدمونا بالاشتغال بدرء هذه الآفة، حتى نحفظ هذه اليقظة من الانقلاب إلى موت ثاني يصيب فكر الأمة العربية في المغرب كما أصابها الموت الأول في الأندلس، حيث أن الفلسفة في الأندلس انتهت بوفاة ابن رشد فيلسوف قرطبة، فهذا الأخير حسب طه عبد الرحمن أخطأ كليا في منطلقاته الفلسفية، فضل الطريق إلى إنشاء فلسفة عربية وأعاد الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحيا من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي، فكان بحق فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لا فيلسوفا عربيا بعقل عربي، فيكون بذلك قد أحيا الفلسفة بالنسبة لغيرنا، وأماتها بالنسبة لنا (24).


إن وجهة النظر هذه إنما هي صائبة في جانب، وقابلة للنقاش في جوانب عدة، فإذا كانت فلسفة ابن رشد عرفت ترحابا كبيرا داخل الغرب المسيحي لدرجة ظهور تيار رشدي أطلق على نفسه اسم Averroïsme، وبالرغم من انكباب الشراح الغربيين على شرح مؤلفات ابن رشد والتي تدور في مجملها حول علاقة الدين بالحكمة – الفلسفة – فإن هذا الأمر لا يعني بالبتة أن ابن رشد فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لقد كان أبو الوليد بحق، فيلسوفا لا عربيا ولا إسلاميا فقط، بل كان فيلسوفا كونيا، وما هذا القول إلا وله ما يثبته، فقد عرف على فيلسوف قرطبة تسامحه وتساهله بشأن باقي الأديان "إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة(…)"(25) وهذا منا يفسر تبني مجموعة من الشراح فلسفته من بعده وكان أغلبهم على غير ملة الإسلام، ومنهم فيلسوف اليهود "موسى الثاني" أي ابن ميمون، الذي ذكر بعض المؤرخين أنه كان تلميذه وأقام عنده ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها. لقد كانت للفيلسوف الجليل سمعتان داخل أوربا، الأولى سمعة الفضل والنزاهة، وكانت عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرمون إلى كسر النير القديم، والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وكانت عند العامة الجمهور (26). ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سمعة ابن رشد فوق كل سمعة، حتى أن لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، لما أراد إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس، تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها، لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح ومفيد.

لكن التعصب لمذهب بعينه يؤدي إلى موت وذوبان فكر هذا المذهب قبل زوال فكر المتأثر بهذا المذهب، فمفهوما التعصب والتأثر لا يجتمعان كون كل واحد منهما يحيل إلى معنى يخالف الآخر تماما، كما سبق ذكر ذلك. وتاريخ الفكر يعلمنا هذا الدرس، فأين هي اليوم "الأرسطية" والديكارتية" و"الرشدية اللاتينية" و"الماركسية" … إن ما كان مخاضا وصراعا فكريا بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين أصبح من بعدهم أطروحات جاهزة وأفكار مقولبة، ما كان سؤالا واستمرارا في السؤال قد تحول إلى أجوبة ميتة. إن جل المذاهب لسوف تعرف زوالا كاملا إن هي لم تجعل من أفكارها سلاحا للتجديد من الداخل، هذا حال الفكر العربي انقسامه إلى مذاهب تمت إلى التراث العربي الإسلامي وهذا ليس عيبا، بل إنما العيب هو تجميد أطروحات هذا المذهب إلى قوالب لا تلبث أن تفكر وتتزعزع حتى تلقى حتفها، فالأفكار عندما تتحول إلى تيار تفقد غناها كأفكار.

إن التراث العربي الإسلامي سواء منه الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي أو الأدبي … ليس كنزا ينبغي المحافظة عليه والتعصب له والإحاطة به وتقديسه، وإنما هو مجموعة من الاجتهادات الفكرية التي حاولت إيجاد صيغة معينة للفكر والمعرفة في المجتمع الإسلامي، وبما أن الأمر كذلك فإن هذا التراث سيكون قابلا للتأويل وإن لم يكن للهدم إن اقتضى الأمر ذلك. فقول ابن رشد مثلا – ما دمنا بصدد ابن رشد – إن أرسطو هو الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، إنما هو قول وجب التخلص منه لإعطاء حركية جديدة للفكر الرشدي في زماننا هذا كون الظروف التي عاشها سواء أرسطو وابن رشد ليست هي ظروف عيشنا اليوم.


ونفس الأمر بالنسبة لنماذج أخرى منها أبو حامد الغزالي الذي صرح في آخر أيامه أنه لم يكن يطلب العلم من أجل العلم والمعرفة، بل كان من أجل الجاه والسمعة والشهرة وتنفيذا لأمر مستظهري نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهري.


هل لنا أن نتساءل في الختام عن عوائق قيام فلسفة عربية مستقلة؟ أم أن السؤال لن يغير شيئا؟ هل الأمر كله متوقف على مدى اتباعنا ونقلنا للموروث الغربي وتأثرنا بهذا المذهب أو ذاك؟ أم أن الأمر يتعلق بأزمة ثقافة وفكر يعرفها العالم العربي الإسلامي؟ وهل فعلا يعرف الفكر العربي المعاصر أزمة الفكر يلخصها العروي في أزمة الإيديولوجيا الإسلامية التقليدية والليبرالية العربية ثم الاشتراكية العربية وأخيرا ما سمي في بداية الثمانينات بالعروبة(27) أم أن المشكل اكبر وأعمق من صراع وأزمة مذاهب يعرفها الفكر العربي المعاصر؟

 

إن أية فلسفة اليوم هي مجبرة بشكل أو بآخر للمشاركة في الفكر الكوني، وحينئذ لن يعود هناك مجال لافتراض مفهوم مطلق للخصوصية والهوية والأصالة، بل إن كل حديث عن الأصالة، هو بشكل أو بآخر يزج بنفسه في المعاصرة، إنه يشارك بكيفية أصيلة في العالمية وفي الفكر الكوني. وإن نحن أردنا اليوم للفلسفة العربية أن تقوم ينبغي أن لا ننتظر منها أن تكون عربية "خالصة"، كما ينبغي أن ننفصل عن مختلف الدعوات التي تنادي بعدم جدوى الحوار مع الفكر المعاصر، هذا الفكر الذي وجب التذكير أنه يتكلم عدة لغات، ويعكس هموما متباينة ويعبر عن هويات متغايرة (28)، فما بالك نحن الذين نتكلم لغة واحدة ونعبر عن هوية واحدة !

الهوامش :
1- طه الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2002 ص 53.
2- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 55.
3- طه عبد الرحمن، نفسه ص 52.
4- عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا دار توبقال المغرب الطبعة الثانية 2000 ص 9.
5- أورده بنعبد العالي في المرجع السابق.
Hiedegger, chemin qui ne mènent nulle part, Gallimard p 274.
6- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 68.
7- طه عبد الرحمن، نفسه ص 72.
8- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف القاهرة الطبعة الثالثة ص 26.
9- Abdelkebir Khatibi, Maghreb pluriel édition denoël paris 1983 p12 -
10- طه عبد الرحمن، نفس المرجع السابق ص 86.
11- طه عبد الرحمن، نفسه ص 88.
12- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ص 43. معلوم أن أبا حامد يعتبر من أهم الشخصيات التي قامت بتبيئة المنطق داخل الثقافة العربية الإسلامية، فنقده للفلسفة وللفلاسفة، كان نقدا يخص جانبا بعينه هو الإلهيات، أما المنطقيات فلا يتعلق فيها بالدين من شيء نفيا وإثباتا.
13- طه عبد الرحمن، نفسه ص 96 وللتوسع أكثر في دلالة هذا المفهوم "التأثيل" يستحسن الرجوع إلى كتاب للمؤلف بعنوان القول الفلسفي : كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي 1999.
14- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 102.
15- ربما يقصد المؤلف هنا ابن رشد الذي فرق بين معرفة العوالم ومعرفة العلماء أو الخاصة، حيث أن معرفة الجمهور تقتصر على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس ولذلك يخاطبهم الشرع، بضرب المثل وتصوير صفات الألوهية والقضايا الأخروية تصويرا حسيا مستمدا مما هو مشاهد عندهم. أما الخاصة فتزيد معرفتهم على معرفة العوام باكتسابهم للبرهان، أي ما يتوصل إليه بالاستدلال لاستخراج المجهول من المعلوم وبالتالي فمعارف الخاصة أوسع من معارف الجمهور. وقد كان أبو حامد هو أيضا قد قسم تلقي المعرفة والخاصة وهي النقطة التي يوافق فيها فيلسوف قرطبة حجة الإسلام.
16- طه عبد الرحمن، نفسه ص 103.
17- طه عبد الرحمن، نفسه ص 108. ربما نحتاج لتحقيق هذا الأمر لفيلسوف مثل ميشيل فوكو، الذي صرح عقب صدور كتابه الكلمات والأشياء 1966، أن الفلسفة بمعناها القديم قد انتهت. وميزة فوكو أنه أنقد الخطاب الفلسفي من عموميته وتجريده " و أنزله إلى الأرض".
18- محمد اركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي ترجمة هاشم صالح المركز الثقافي العربي ومركز الإنماء القومي الطبعة الثانية 1966 ص 131.
19- لا نحتاج إلى التذكير أن الكسندر كوجيف كان شارحا لهيغل وكتب كتالبا "مدخل لقرارءة هيغل" وكتب دولولز كتاب "نيشة والفلسفة" وقبله كان سارتر يحاول إعادة إنتاج وتبيئة الفينومينولوجيا داخل التربة الثقافية الفرنسية إلى جانب ميولوبي نتي. فهل نقول إن الفلسفة الفرنسية المعاصرة في إحدى جوانبها هي مجرد فلسفة تابعة للفلسفة الألمانية هذا دون أن ننسى تأثر جون بوفري بهيد قرو فوكو بينشته وهيبوليت بهيغل …
20- عبد السلام بعبد العالي، نحن والتيارات الفلسفية مجلة الوحدة العربية السنة الخامسة العدد 60 شتنبر 1989 ص 35.
Gaston Bachelard, la philosophie du non, cérés, éditions Tunisie 1993 p 124 -21
22- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ص 116.
23- طه عبد الرحمن، نفسه ص 134.
24- طه عبد الرحمن، نفسه ص 140
25- طه عبد الرحمن، نفسه ص 141.
26- فرح أنطوان، ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطوان، تقديم أدونيس العكرة دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1981 ص 84.
Abdallah Laroui, Islam et modernité, centre culturel arabe, 2ème édition 2001 p 82-83. -27
28- عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 1994 ص 45.‎

هل الفلسفة، كونية أم قومية؟ أي أنها كونية تهم البشرية جمعاء، أم قومية تخص قوما بذاته من خلال إنتاجاته، هذا هو السؤال الذي يحاول طه عبد الرحمن الإجابة عنه، بل والذهاب إلى الاعتراض على دعوى "كونية الفلسفة"، ويسوق في ذلك اعتراضات من أهمها ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي والاجتماعي وبالسياق اللغوي والأدبي، فكل فلسفة هي نتيجة سياق تاريخي ونطاق اجتماعي مخصوص، ولا وجود لفلسفة بلا هذا السياق التاريخي ولا هذا النطاق الاجتماعي، زد على ذلك أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي (1)، وفي إطار اللغة ينتج الاختلاف بين الفلاسفة إلى درجة تصنيفها إلى مذاهب عند كل أمة، ويؤدي هذا إلى تصنيف الفلسفة منن خلال قوميتها، فنقول "الفلسفة الفرنسية" و"الفلسفة الألمانية" و"الفلسفة الانجليزية" هذا دون أن ينسى المؤلف إيراد اعتراضات على حدة العقل ووحدة الطبيعة الإنسانية، مؤكدا أن العقل ليس وحدة وذاتا، وإنما فعالية (2)، ومنه ينتج عنه انفكاك وحدة الفلسفة، إن كان العقل ليس موحدا كليا وبالتالي فلا جدوى من القول بكونية الفلسفة والفكر لأن هذا القول فيه طمس لخصوصية الشعوب والأقوام في إنتاجاتهم الفلسفية والفكرية.


على أن مفهوم الكونية الذي يستعمله طه عبد الرحمن هنا يلفه كثير من الغموض. فالكونية عنده كمفهوم يعني التعميم على أفراد البشر جميعا، وهو ما يحيل إليه أيضا مفهوم "العالمية" الذي يقصد به المؤلف ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة (3)، والصيغة التي يعطيها للمفهومين هي الصيغة الجغرافية أو الصيغة السياسية، وربما يذهب الأستاذ إلى إيراد صيغة الغرب مرادف لمفهوم "الكونية". فالكوني لا يحيل بالضرورة إلى ما درج على تسميته الغربي إن الكوني عصر من عصور العالم، فهو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي، إن "الكونية" لا هوية لها وربما كانت اليوم هي ما يحدد كل هوية (4) يقول هيدغر : "اليوناني والمسيحي والكوني والغربي، كل هذه العصور ندركها انطلاقا من خاصية أساسية للوجود، وهي أن الوجود لما هو حقيقة وانكشاف، فهو يخفي أكثر مما يظهر" (5).


كيف يمكن إذن قيام فلسفة عربية مستقلة عن الكونية الفلسفية، يجيب طه عبد الرحمن عن هذا السؤال بطرح خطة خِطابية لقيام فضاء فلسفي عربي، مفادها نحت مفاهيم مثل "القيام" و"القوام" و"القومة" وهي مصطلحات تستمد قيمتها من مفهوم "القومية" وتتأسس على العمل المتواصل والمستقل والإنتاج الفعال والدينامي، فما يميز القومية ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدث في القوم، بقدر ما هي جملة القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع وتوجهها (6) ولا يجب تبني مفهوم معين منقول من الفضاء الفلسفي العالمي، حتى تثبت بالدليل صحته وفائدته في مجال تداول المشتغل في الميدان، ويشدد طه عبد الرحمن على النقد في جلب القوة وان الاعتقاد في الفلسفة يجلب الضعف، فالنقد ليس رفضا مسبقا، ولا ردا متعسفا وإنما هو عرض للمفاهيم المنقولة على الأدلة المنطقية، وحتى وإن ثبتت صحة هذه المفاهيم، فذلك لا يلزم ثبوت فائدتها (7).


إننا أمام رفض مطلق لكل ما هو براني، فحال الأمم، والحالة هذه، هو الانفتاح على الشعوب الأخرى وإن كانت على غير ملتنا كما قال الكندي، فالنظر فيما تقدم من الأمم السالفة أو المعاصرة مما أنتجوه وأثبتوه في كتبهم، إنما هو أمر واجب اتباعه، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم(8). إذ أننا نؤكد على نقد وفحص المفاهيم المنقولة من الفضاء الفلسفي العالمي، ونحرص على عدم تداولها بيننا قبل أن نرى هل تتوافق مع خصوصيتنا الثقافية والدينية، فإننا مطالبون نحن أيضا بنقد لكل الأشكال القديمة والجديدة لتراثنا ونخلصه من صيغته الفقهية، فنكون بذلك أمام نقد مزدوج une double critique وفكر مغاير pensée-autre لا يحن للعودة إلى الأسس ولا إلى التغني بأمجاد الماضي (9).


هذا الماضي الذي يحاول بعض الباحثين المعاصرين في الفكر الفلسفي أن يجعلوا منه عصرا ذهبيا سيطرت فيه روح العقلانية والعقل والخطاب البرهاني، على أن محاولة أبي الوليد بن رشد في تحويل الفلسفة إلى خطاب برهاني واتباعه لطريق الاستنتاج المنطقي، تعد الأشهر والأبرز من بين محاولات الفلاسفة المسلمين السابقين عليه، لكن هذا القول –في أن الفلسفة خطاب برهاني- إنما هو قول يقضي بشكل كلي على خصوصية الفكر الفلسفي من حيث هو كرّ وفرّ وقدرته على التراجع والانتقاد وعلى إنتاج الأسئلة وتوليد الفراغات، فالقول بأن العقل –أو اللوغوس- الذي يميز الممارسة الفلسفية يصفو ويتمحض فيها بالكلية، بمعنى أن القول الفلسفي قول عقلي، هو ادّعاء أسطوري كما يصفه عبد الرحمن، ويحاول المؤلف إيجاد مجموعة من المبادئ المنهجية التي تساعد في دفع القول بأسطورة اللوغوس العقلي للفلسفة، وهي على ثلاثة وجوه، مبدأ المعرفة الموضوعية، حيث أن الفلسفة وحدها من دون شعب المعرفة الإنسانية لم تكن في تاريخ ممارستها كله محل معرفة موضوعية (10)، أما المبدأ الثاني فيتلخص في التقسيم التركيبي الكلامي، حيث يجعل المؤلف للفلسفة أقسام ثلاثة للكلام هي : "المفهوم" و"التعريف" و"الدليل"، ومتى استطاعت هذه التقسيمات تجاوز الفلسفة الخالصة كان الحظ أوفر لقيام فلسفة عربية حية (11)، والمبدأ الثالث يتعلق بالتقسيم البياني للكلام، وينقسم بدوره إلى قسمين هما : العبارة والإشارة، واللغة الفلسفية تتميز بمظاهر العبارة العقلية وأيضا بالإشارة الخيالية، وقد اعتقد متفلسفة العرب أن الفلسفة الغربية المنقولة إليهم إنما هي ذات طبيعة عبارية عقلية محضة مثلها مثل العلم الرياضي، لأن حقائقها لا تحكمها إلا قوة العقل وحدها، وهذا من بين الأسباب التي دفعت الغزالي إلى محاولة هدم مذاهب الفلاسفة، معترضا عليهم سلوكم طريق البرهان، ومتهما إياهم اعتماد التخييل والأوهام، يقول أبو حامد "(…) ليعلم أنه لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم وأنهم يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية، بظهور العلوم الحسابية والمنطقية. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية"(12).


فلا قدرة للمتفلسف على الإبداع إن هو لم يزاوج بين العمومية العقلية والخصوصية الإشارية، فالإبداع الفلسفي لا يمكنه أن يكون عقلا محضا وخطابا برهانيا خالصا، لأن ذلك يؤدي به إلى الجمود والثبات، وهذه ليست من خصائص الفكر الفلسفي. الفلسفة الحية حسب طه عبد الرحمان تجعل من تأثيل المفهوم شيئا لا يستغنى عنه، ويقصد المؤلف بالتأثيل، عدم الاكتفاء بالجانب الاصطلاحي للمفهوم، بل يجب ربط معنى المفهوم بمعناه اللغوي ومحاولة معرفة جميع المعاني المتعلقة بالمفهوم المراد تأثيله، وهذا العمل يؤدي إلى فتح آفاق في التفلسف يقع لها تجديد الطاقة الدلالية للمفاهيم العربية (13).


انطلاقا من هذه المعطيات يمكن إنتاج فلسفة حية تستند بالأساس على الجانب التخييلي، فالتخيل أمر لا مفر منه لقيام فلسفة حية، فإنتاجية الأدلة في الفلسفة الحية إنما يأتي من كون جانبها الاستنتاجي يستند بالضرورة إلى الجانب التخييلي (14)، فالفلسفات غير العربية لا تأتي بالدليل تلو الدليل لإثبات دعاويها، وإنما تلجأ إلى الممارسة الأدبية والشعرية للتعبير عن أقاويلها وهذا شأن أفلاطون وابن طفيل ومعاصرون كهيدغر ودولوز وغيرهم كثيرا. أما المتفلسفة العرب فهم على عكس ذلك يرون في الأمثال والرموز خيالات، وهي خلاف الحقائق المطلوبة ولا ينبغي الاعتماد عليها، فهي لا تليق إلا بذوي الأبصار المحجوبة أو الأوهام المحدودة كجمهور العوام (15)، لكن رائعة ابن طفيل "حي بن يقظان" نهجت نهجا مخالفا لذلك، إذ جاءت هذه القصة في بديع التخييل الذي كاد أن يغني عن التدليل لكن سرعان ما طمر هذا الأسلوب التخييلي في التفلسف تلميذه ابن رشد الذي استهواه طريق الاستنتاج المنطقي، مع أنه يقم بشرائطه في أكثر ما كتب، ولو أن ابن رشد سد الطريق الذي فتحه أستاذه لكان للفلسفة العربية اليوم شأن آخر (16).


ويخلص طه عبد الرحمن إلى ما توصل إليه من نتائج، فهو يعتقد بأنه لا فلسفة عربية ما لم تقع فيها وصل العبارة بالإشارة، وما لم نزاوج بين الخصوصية الإشارية والعمومية العبارية، بل يجب وصل هذه الفلسفة بالأدب العربي في مجموع قديمه وحديثه، فكل فلسفة أرادت الحياة وجب عليها الاستعانة بأجمل وأجل أساليب الأدب العربي في الإشارة، وأخيرا لا حياة للفلسفة العربية ما لم تتغلغل في التداول اليومي، لأن ذلك هو الشاهد على انخراطها في حياة الناس والجالب لثقتهم بمنفعتها والضامن لتجددها واستمرارها (17).


فالفيلسوف العربي المعاصر يمكن أن يكون مبدعا في الفلسفة إن هو جعل منطلقاته هي المشكلات لا الفلسفات فالفيلسوف يكون مبدعا إن لم يسارع إلى الانتماء إلى تيار من التيارات الكبرى السائدة في تاريخ الفلسفة، وإن جعل مجهوده منصبا بصيغة أساسية على الانتماء لمشاكل عصره ومشاكل الوضع التاريخي الخاص له. فالمسارعة إلى الانتماء لتيار بعينه أو مذهب بعينه يحول دون الإبداع الفلسفي الحي، ويحول صاحبه إلى إنتاج أفكار جاهزة، فالأساسي عند المنتمي إلى تيار معين هو تأكيد انتمائه إلى مجموعة من الأفكار والأطروحات الجاهزة، فالتيارات تسعى إلى الضم والتوحيد أكثر منه إلى الاختلاف والفرقة، إنها تذهب إلى ملئ الفراغات والقضاء على الفوارق وخلق التطابق، وهي بذلك تجرف من تريد أن تفكر بهم لا أن تترك لهم مجال التفكير.
كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟ هذا هو السؤال الذي طرحه المؤلف للخوض في موانع إبداع فلسفي عربي حقيقي، ناهجا للجواب عن هذا السؤال الإحاطة بالمفهوم المركزي في الإشكال ألا وهو "الإبداع" الذي يتفرع إلى ثلاث مفاهيم وهي : "الابتكار" و"الاختراع" و"الإنشاء" على أن طرح طه عبد الرحمن للإشكال ينم عن نية كان قد عبر عنها مستشرقون ومفكرون معاصرون أبرزهم علي سامي النشار، الذي صفى دفعة واحدة التفكير الإسلامي المتأثر بفلسفة الإغريق على حد تعبير محمد أركون "أما العقلانية التي لدى فلاسفة الإسلام فقد كانت عقلانية مشبعة مازلت أقول إن الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد مقلدة اليونان، إن ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية إنما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين". فسامي النشار يصرح بانتمائه إلى الأشعرية ومعاداته التفكير الفلسفي الذي ينعته بتقليد فلاسفة اليونان وهذا ما فتح عدة جبهات على فكر سامي النشار لانتقاده والدفاع عن مكتسبات الفكر الفلسفي الإسلامي، لكن طابع هذه النقاشات هو طابع جداليPolémique وإيديولوجي واضح، مما يؤدي إلى ضياع الوعي الإسلامي المعاصر وانزلاقه في خصومات وصراعات عتيقة وبالية، في الوقت الذي تتراكم فيه أمام هذا الوعي ساحة هائلة من اللامفكر فيه l'impensé (18).


فطه عبد الرحمن ينهج نهج ارنست رينان وسامي النشار ودي بور وآخرين في أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا فلسفة يونانية بلغة عربية، والحال أن هذا الحكم المطلق يحتاج إلى مراجعة رزينة، لأنه لا توجد فلسفة أنتجت من عدم، لأن الفلاسفة لم يفتأوا ومنذ بداية التفلسف يستحضرون فلاسفة سابقين ويستلهمون من فلسفاتهم، فهل نقول على جيل دولوز، والحالة هذه، أنه سوى شارح لنيتشه، وأن كوجيف مقلد لهيغل وميرلو بونتي وسارتر تابعين لفينومينولوجيا هوسرل (19). فإذا اعتبر التفكير من داخل تاريخ الفلسفة اتباعا، فإنه لن يكون هناك سوى الاتباع والتقليد، فالقول بالجدة المطلقة في تاريخ الفلسفة، إنما هو قول ينطوي على يوطوبيا تحاول تأسيس شيء من لا شيء، وتدشين البداية من دون أن تبدأ، مفهوم الإبداع والاتباع ينبغي أن يخضعا لجنب من النسبية، أي أن يبتعدا عن المطلق والنهائي، فلا وجود لإبداع حقيقي داخل تاريخ الفلسفة وليس هناك في المقابل سوى الاتباع المطلق! بل هناك اتباع وإبداع، بل تجد من المفكرين من يبدعون انطلاقا من اتباعهم. كما أن مفهوم الاتباع يحيل إلى مفهوم آخر هو التأثر، فلا يمكننا أن ننكر صفة الإبداع على مفكر أو فلسفة عندما تثبت تأثره بسابقيه، كما يمكننا أن نضفي صفة الإبداع على فكر قطع كل أوصال القرابة مع الفكر السابق عليه، فما يميز الفكر الفلسفي ليس هو تأثره أو عدم تأثره بالفكر السابق عليه، الأمر لا يتعلق بمشكل الاتباع والتأثر، إن ما يميز هذا الفكر هو قدرته على التحرر مما هو جاهز، أن يتحرر من الأفكار كسلطة، قدرته على القطيعة والانفصال(20)، هذا ما تبينه الابستيمولوجيا المعاصرة، ففلسفة كفلسفة النفي la philosophie du nom عند باشلار، لا تعمد إلى إرادة لنفي وإقبار السابق عليها، وإنما تحاول إيجاد الجديد انطلاقا من القديم، وإعادة تشكيل القديم وفقا لمبادئ الجديد (21).


إنه لا إبداع فلسفي حسب طه عبد الرحمن إلا إذا بنينا على حقائق ثلاث إحداها أن القول الفلسفي خطاب، وكل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي، والثانية أنه بيان، وكل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي، والثالثة أنه كتابة، وكل كتابة تضع في الاعتبار بلاغة هذا اللسان، وبذلك نستطيع فتح باب الإبداع الفلسفي متى تيقنا بأن القول الفلسفي ليس مقدسا في نصه، فنتصرف فيه بحسب المتلقي منا، ولا معجزا في نشأته، فنقتدر على وضع مثله بحسب لغتنا، ولا مستقلا في مضمونه، فتعاطي لكتابته بحسب بلاغتنا (22).


يرى طه عبد الرحمن أن تقليد المنقول الفلسفي سمة غالبة على الإنتاج العربي، ويعطي نموذج الإنتاج الفلسفي المغربي، فإن سلمنا بهذه المسلمة وصلنا إلى أن اليقظة التي تعرفها الفلسفة المغربية اليوم سوف تؤول إلى ما آلت إليه اليقظة الفلسفية الإسلامية في طورها الأول، فكما أن فلاسفة الإسلام قديما وقعوا في تقليد المنقول الفلسفي اليوناني، فنسب عملهم إلى التكرار والاجترار، فكذلك الأمر بالنسبة لمتفلسفة المغرب حديثا وهو واقعون في تقليد المنقول الفرنسي. قد يأتي فيه زمان يصفهم فيه النقاد بتعاطي النسخ والوقوع في العقم، فحينئذ تصير اليقظة الفلسفية المغربية الحالية عبارة عن "يقظة معوجة" (23). وإذا ظهر أن اليقظة الفلسفية المغربية دخلت عليها آفة التقليد، فنحن مطالبون أكثر ممن تقدمونا بالاشتغال بدرء هذه الآفة، حتى نحفظ هذه اليقظة من الانقلاب إلى موت ثاني يصيب فكر الأمة العربية في المغرب كما أصابها الموت الأول في الأندلس، حيث أن الفلسفة في الأندلس انتهت بوفاة ابن رشد فيلسوف قرطبة، فهذا الأخير حسب طه عبد الرحمن أخطأ كليا في منطلقاته الفلسفية، فضل الطريق إلى إنشاء فلسفة عربية وأعاد الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحيا من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي، فكان بحق فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لا فيلسوفا عربيا بعقل عربي، فيكون بذلك قد أحيا الفلسفة بالنسبة لغيرنا، وأماتها بالنسبة لنا (24).


إن وجهة النظر هذه إنما هي صائبة في جانب، وقابلة للنقاش في جوانب عدة، فإذا كانت فلسفة ابن رشد عرفت ترحابا كبيرا داخل الغرب المسيحي لدرجة ظهور تيار رشدي أطلق على نفسه اسم Averroïsme، وبالرغم من انكباب الشراح الغربيين على شرح مؤلفات ابن رشد والتي تدور في مجملها حول علاقة الدين بالحكمة – الفلسفة – فإن هذا الأمر لا يعني بالبتة أن ابن رشد فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لقد كان أبو الوليد بحق، فيلسوفا لا عربيا ولا إسلاميا فقط، بل كان فيلسوفا كونيا، وما هذا القول إلا وله ما يثبته، فقد عرف على فيلسوف قرطبة تسامحه وتساهله بشأن باقي الأديان "إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة(…)"(25) وهذا منا يفسر تبني مجموعة من الشراح فلسفته من بعده وكان أغلبهم على غير ملة الإسلام، ومنهم فيلسوف اليهود "موسى الثاني" أي ابن ميمون، الذي ذكر بعض المؤرخين أنه كان تلميذه وأقام عنده ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها. لقد كانت للفيلسوف الجليل سمعتان داخل أوربا، الأولى سمعة الفضل والنزاهة، وكانت عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرمون إلى كسر النير القديم، والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وكانت عند العامة الجمهور (26). ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سمعة ابن رشد فوق كل سمعة، حتى أن لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، لما أراد إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس، تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها، لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح ومفيد.

لكن التعصب لمذهب بعينه يؤدي إلى موت وذوبان فكر هذا المذهب قبل زوال فكر المتأثر بهذا المذهب، فمفهوما التعصب والتأثر لا يجتمعان كون كل واحد منهما يحيل إلى معنى يخالف الآخر تماما، كما سبق ذكر ذلك. وتاريخ الفكر يعلمنا هذا الدرس، فأين هي اليوم "الأرسطية" والديكارتية" و"الرشدية اللاتينية" و"الماركسية" … إن ما كان مخاضا وصراعا فكريا بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين أصبح من بعدهم أطروحات جاهزة وأفكار مقولبة، ما كان سؤالا واستمرارا في السؤال قد تحول إلى أجوبة ميتة. إن جل المذاهب لسوف تعرف زوالا كاملا إن هي لم تجعل من أفكارها سلاحا للتجديد من الداخل، هذا حال الفكر العربي انقسامه إلى مذاهب تمت إلى التراث العربي الإسلامي وهذا ليس عيبا، بل إنما العيب هو تجميد أطروحات هذا المذهب إلى قوالب لا تلبث أن تفكر وتتزعزع حتى تلقى حتفها، فالأفكار عندما تتحول إلى تيار تفقد غناها كأفكار.

إن التراث العربي الإسلامي سواء منه الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي أو الأدبي … ليس كنزا ينبغي المحافظة عليه والتعصب له والإحاطة به وتقديسه، وإنما هو مجموعة من الاجتهادات الفكرية التي حاولت إيجاد صيغة معينة للفكر والمعرفة في المجتمع الإسلامي، وبما أن الأمر كذلك فإن هذا التراث سيكون قابلا للتأويل وإن لم يكن للهدم إن اقتضى الأمر ذلك. فقول ابن رشد مثلا – ما دمنا بصدد ابن رشد – إن أرسطو هو الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، إنما هو قول وجب التخلص منه لإعطاء حركية جديدة للفكر الرشدي في زماننا هذا كون الظروف التي عاشها سواء أرسطو وابن رشد ليست هي ظروف عيشنا اليوم.


ونفس الأمر بالنسبة لنماذج أخرى منها أبو حامد الغزالي الذي صرح في آخر أيامه أنه لم يكن يطلب العلم من أجل العلم والمعرفة، بل كان من أجل الجاه والسمعة والشهرة وتنفيذا لأمر مستظهري نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهري.


هل لنا أن نتساءل في الختام عن عوائق قيام فلسفة عربية مستقلة؟ أم أن السؤال لن يغير شيئا؟ هل الأمر كله متوقف على مدى اتباعنا ونقلنا للموروث الغربي وتأثرنا بهذا المذهب أو ذاك؟ أم أن الأمر يتعلق بأزمة ثقافة وفكر يعرفها العالم العربي الإسلامي؟ وهل فعلا يعرف الفكر العربي المعاصر أزمة الفكر يلخصها العروي في أزمة الإيديولوجيا الإسلامية التقليدية والليبرالية العربية ثم الاشتراكية العربية وأخيرا ما سمي في بداية الثمانينات بالعروبة(27) أم أن المشكل اكبر وأعمق من صراع وأزمة مذاهب يعرفها الفكر العربي المعاصر؟



إن أية فلسفة اليوم هي مجبرة بشكل أو بآخر للمشاركة في الفكر الكوني، وحينئذ لن يعود هناك مجال لافتراض مفهوم مطلق للخصوصية والهوية والأصالة، بل إن كل حديث عن الأصالة، هو بشكل أو بآخر يزج بنفسه في المعاصرة، إنه يشارك بكيفية أصيلة في العالمية وفي الفكر الكوني. وإن نحن أردنا اليوم للفلسفة العربية أن تقوم ينبغي أن لا ننتظر منها أن تكون عربية "خالصة"، كما ينبغي أن ننفصل عن مختلف الدعوات التي تنادي بعدم جدوى الحوار مع الفكر المعاصر، هذا الفكر الذي وجب التذكير أنه يتكلم عدة لغات، ويعكس هموما متباينة ويعبر عن هويات متغايرة (28)، فما بالك نحن الذين نتكلم لغة واحدة ونعبر عن هوية واحدة !

الهوامش :
1- طه الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2002 ص 53.
2- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 55.
3- طه عبد الرحمن، نفسه ص 52.
4- عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا دار توبقال المغرب الطبعة الثانية 2000 ص 9.
5- أورده بنعبد العالي في المرجع السابق.
Hiedegger, chemin qui ne mènent nulle part, Gallimard p 274.
6- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 68.
7- طه عبد الرحمن، نفسه ص 72.
8- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف القاهرة الطبعة الثالثة ص 26.
9- Abdelkebir Khatibi, Maghreb pluriel édition denoël paris 1983 p12 -
10- طه عبد الرحمن، نفس المرجع السابق ص 86.
11- طه عبد الرحمن، نفسه ص 88.
12- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ص 43. معلوم أن أبا حامد يعتبر من أهم الشخصيات التي قامت بتبيئة المنطق داخل الثقافة العربية الإسلامية، فنقده للفلسفة وللفلاسفة، كان نقدا يخص جانبا بعينه هو الإلهيات، أما المنطقيات فلا يتعلق فيها بالدين من شيء نفيا وإثباتا.
13- طه عبد الرحمن، نفسه ص 96 وللتوسع أكثر في دلالة هذا المفهوم "التأثيل" يستحسن الرجوع إلى كتاب للمؤلف بعنوان القول الفلسفي : كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي 1999.
14- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 102.
15- ربما يقصد المؤلف هنا ابن رشد الذي فرق بين معرفة العوالم ومعرفة العلماء أو الخاصة، حيث أن معرفة الجمهور تقتصر على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس ولذلك يخاطبهم الشرع، بضرب المثل وتصوير صفات الألوهية والقضايا الأخروية تصويرا حسيا مستمدا مما هو مشاهد عندهم. أما الخاصة فتزيد معرفتهم على معرفة العوام باكتسابهم للبرهان، أي ما يتوصل إليه بالاستدلال لاستخراج المجهول من المعلوم وبالتالي فمعارف الخاصة أوسع من معارف الجمهور. وقد كان أبو حامد هو أيضا قد قسم تلقي المعرفة والخاصة وهي النقطة التي يوافق فيها فيلسوف قرطبة حجة الإسلام.
16- طه عبد الرحمن، نفسه ص 103.
17- طه عبد الرحمن، نفسه ص 108. ربما نحتاج لتحقيق هذا الأمر لفيلسوف مثل ميشيل فوكو، الذي صرح عقب صدور كتابه الكلمات والأشياء 1966، أن الفلسفة بمعناها القديم قد انتهت. وميزة فوكو أنه أنقد الخطاب الفلسفي من عموميته وتجريده " و أنزله إلى الأرض".
18- محمد اركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي ترجمة هاشم صالح المركز الثقافي العربي ومركز الإنماء القومي الطبعة الثانية 1966 ص 131.
19- لا نحتاج إلى التذكير أن الكسندر كوجيف كان شارحا لهيغل وكتب كتالبا "مدخل لقرارءة هيغل" وكتب دولولز كتاب "نيشة والفلسفة" وقبله كان سارتر يحاول إعادة إنتاج وتبيئة الفينومينولوجيا داخل التربة الثقافية الفرنسية إلى جانب ميولوبي نتي. فهل نقول إن الفلسفة الفرنسية المعاصرة في إحدى جوانبها هي مجرد فلسفة تابعة للفلسفة الألمانية هذا دون أن ننسى تأثر جون بوفري بهيد قرو فوكو بينشته وهيبوليت بهيغل …
20- عبد السلام بعبد العالي، نحن والتيارات الفلسفية مجلة الوحدة العربية السنة الخامسة العدد 60 شتنبر 1989 ص 35.
Gaston Bachelard, la philosophie du non, cérés, éditions Tunisie 1993 p 124 -21
22- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ص 116.
23- طه عبد الرحمن، نفسه ص 134.
24- طه عبد الرحمن، نفسه ص 140
25- طه عبد الرحمن، نفسه ص 141.
26- فرح أنطوان، ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطوان، تقديم أدونيس العكرة دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1981 ص 84.
Abdallah Laroui, Islam et modernité, centre culturel arabe, 2ème édition 2001 p 82-83. -27
28- عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 1994 ص 45.‬



الكتاب يقع ضمن سلسلة ” الإسلام واحدًا ومتعددًا”  ، لـ محمّد بوهلال ، رابطة العقلانيين العرب ، عن دار الطليعة ببيروت .
يقع الكتاب في 248 صفحة من القطع المتوسط ، لونه أخضر قبيح ، يشبه لون طاولة المدرسة !
جاء الكتاب في 7 فصول :
- في حدّ علم الكلام ومنزلته التاريخية .
- الكلام السّياسيّ .
- المنعرج المعتزلي .
-الكلام العلمي .
- المتكلم . ( أمتع فصل تقريبًا ، هو ولاحقه) .
-الفرقة .
- حول وحدة علم الكلام .
فهرس المصادر والمراجع متعة وبوابة عظيمة جميلة .

القراءة لأوّله فقط :
الكتاب لا يرمي – كما جاء في مقدمته – إلى ” التأريخ العام لعلم الكلام ، ولا الدراسة المجهريّة لمقالاته واتجاهاته وأطواره وقضاياه ، … إنما نروم الوقوف عن كثب على الإشكاليات التي يطرحها علم الكلام من حيث هو حقل دراسي وعلم من العلوم الإسلامية القديمة وضرب من النشاط الفكري الإنساني وتعبير مخصوص عن الدين ، كان في تواشج مع حقول معرفيّة أخرى وتفاعل مع سلطات وأنشطة اجتماعية وسياسيّة وظروف تاريخية خاصّة عرفها المجتمع الإسلامي القديم ، والدور الذي نهض فيه إضافة إلى ثقافة العصر “

الفصل الأول جاء بعنوان ” في حدّ علم الكلام ومنزلته التاريخية” ، تحدّث فيه الكاتب عن تعريف علم الكلام ، والذي ” حدّه عضد الدين الإيجي ( المتكلم الأشعري) بكونه علمًا يقتدر معه على إثبات العقائد الدّينية بإيراد حجج ودفع الشبهة ” .

( إلى حدٍّ ما يشبه كثيرًا تعريف العدليّة الذي يقول أن علم الكلام موضوعه إثبات العقيدة بالبراهين والأدلة المنطقية ، وسمّي علم الكلام لأنه في أوائل القرن الثاني برز المتكلمون في الإسلام ، وهم من يثبتون وجود الصانع واجب الوجود من خلال الأدلة العقلية والمنطقية إضافة إلى الشرعية. )
- العدليّة هم المعتزلة والشيعة الإمامية ، سمّوا بذلك كونهم يجعلون العدل الإلهي أصلاً من أصول الدين .

” تعريف الإيجي غير مذهبيّ إذ يتسع للمعتزلي والأشعري والشيعي وغيرهم ، وهذا يعني إقرارًا بأن المتكلم المخالف يبقى متكلمًا وبأن كلامه يظلّ جزءًا من علم الكلام وإن كان خاطئًا” .

جاء عبد الرحمن بن خلدون في نفس الحقبة تقريبًا و ” حدد الكلام بكونه علمًا يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة ” .

” يُكرس تعريف ابن خلدون واقع المعرفة في عصره : الانغلاق ضمن مذهب واحد واستبعاد التعدد والاقتصار من المعرفة على ما يؤكد الاعتقاد ويكرسه ” !

لا يزال تعريف ابن خلدون – أو منهجه في التعريف – ساريًا يا بني قومي حتى الآن ، طريقة التدريس لمناهج الدين والتاريخ تجهر بذلك !

بعد هذا تحدّث عن أبعاد المحنة ( محنة خلق القرآن ) ، إذ أثرت المحنة على علم الكلام فأقصت المتكلّمة عن الحكام واستأثرت بجلّ الاهتمام ، ورغم هذا فلم تنهه إطلاقًا ، فـ ” النسق المعتزلي لم ينضج ولم يكتمل إلا مع الجبّائيّان ، أي بعد المحنة بحوالي قرن ، وبعد المحنة أيضًا أنتج علم الكلام مدارس شيعيّة وسنّيّة هيمن بعضها على الفكر الكلامي مدة قرون ” .

وما كان للمحنة أن تحدث التأثير الكارثي المزعوم على علم الكلام فحسب، وتقصيه بمفردها، بسبب لا مركزيّة الدولة – إذ ضعفت الدولة العباسية وتفككت بعد الرشيد- ، وبسبب اعتماد الفقه والحديث على بعضيهما ، واعتماد الناس عليهما في الحياة اليومية ، وانتشار الرسائل الكلامية المختصرة الوجيزة التي تكتب فيها العقائد للعامة .

بعد هذا تحدث الكاتب عن أطوار علم الكلام ، وهو هنا يصوغ نظرة جديدة للكلام، إذ كل من قرأت لهم كانوا يرون بداية الكلام في نهاية الأول على أقصى التقادير ، بينما هو يرى الكلام بدأ – سياسيًا – مع موت عثمان بن عفّان ، إذ تشكلت الرؤى منذ ذلك الوقت تقريبًا .

بعد طور البدايات يأتينا الطور العلمي  “الذي امتد من القرن الثاني وحتى منتصف القرن الخامس ” ، وبعد القرن الخامس اختلط الكلام بالفلسفة ، وامتدّ هذا حتى عصر ابن خلدون .
انتقل الكلام بعد ذلك إلى طور الشروح والمختصرات ، ثم طور “الكلام الجديد ” الذي انقسم إلى إثبات للقديم ودفاع عنه ، ودعوة لتجاوزه والبدأ بموضعة الوعي الديني في سياق فلسفي وروحي حديث .



في الفصل الثاني تحدّث عن الكلام السياسي ، ” ذهب أحمد محمود صبحي إلى أن القرآن منهجيًا منطلقًا لنشأة علم الكلام ” ، وإن كان لي أن أدافع عن رأيه ، فأنا أثبته بأمر واحد فقط هو أبسط وأوضح تجليات ذلك ، وهو إثبات الله عزّ وجل وجوده بالعقل المجرّد فقط ، وبالعقل المجرّد فقط صدّق محمّدًا من لم يتفكّر ليرى الإله في كل ما حوله .

يعني الكاتب” بالكلام السياسيّ الشعارات والمقالات والأفكار والنصوص التي أنتجتها الجماعات السياسيّة التي بدأت تتشكّل في خضم الفتنة الكبرى ( إبان مقتل عثمان ) ، واستمرّ وجودها فترة من الزمن ثم اندثرت أو تطورت إلى أحزاب سياسيّة وفرق كلامية أكثر نضجًا ” .

لعلّ أكثر ما شدّني هو كون الإباضيّة خوارج ، لا شيعة !
دأبت على اعتبارهم شيعة بإيعاز من معلومات مغلوطة أخذتها من ماما !

الأمر الذي شدّني أيضًا هو اعتباره أن الشيعة الإمامية والزيدية معتدلون ، رغم ” طنطنة” العالم كله بغلو الأول على الأقل، و ” مفهوما الغلو والاعتدال يثيران غير قليل من الإشكال والاعتراضات ” فعلاً ! استند في هذا حسب ظنّي إلى أنّهم لا يؤلهون عليًّا ع بل يرون إمامته فقط ، فوقفوا في هذا وسطًا بين من ألهه وبين من أنكر إمامته .

انتقل بعد هذا للحديث عن المقالات السياسيّة ، ذهب إلى أن المواقف السياسية والاجتماعية للمتكلمة تحددت في ضوء أمور هي :

  1. فهمهم العام للدين .
  2. انتماءاتهم القبليّة والسياسيّة .
  3. مصالحهم الظرفية .

  4. وترتب على هذا مواقفهم العملية التي تراوحت بين :
  5. تبرير موقف السلطة .
  6. إنكار شرعيتها مما يستلزم الخروج عليها بالسيف .
  7. الاكتفاء بنقدها وتوجيه النصائح إليها .

  8. لا أظن أحدًا يخالفني في كون الجميع ” متكلمين ” في هذا الجانب !


    بعد هذا بدأ بذكر أحزاب سياسيّة ثلاثة ، أولها كان الخوارج الذي بني مذهبهم على ” إنكار التحكيم ثم إدانة الظلم السياسيّ عامّة والأموي خاصة ، الموقف السياسيّ هو أس الدين لدى الخوارج ، لا العكس !
    حيثما كان الخوارج التزموا الصّدق وأظهروا جرأة تثير الإعجاب في ذكر عيوب خصومهم وأخطائهم وإن كانوا أمراءً أو ملوكًا ، فانجذب كثير من الناس إليهم وأحبوهم .
    من أبرز خصالهم السياسية التي لا نجدها لدى أي حزب آخر هي أن الإمام عندهم لا يتمتع بأي قداسة أو حصانة ، فكان يخلع بسهولة ويبطش به إذا أخطأ ولم يتب !
    تتلخّص مبادئهم الأساسيّة في أربع مبادئ سياسيّة -أو دينيّة لكنّها موظفة سياسيّا- هي :

  9. التقيّد التام بتعاليم القرآن وبسيرة النبي وخليفتيه أبي بكر وعمر والخوارج الأول، وهو معنى الشريعة عندهم .
  10. إكفار عثمان وعلي ( هنا تتجلّى لي سذاجة اعتقادي بان الإباضيّة شيعة! ) وأصحاب الجمل والراضين بالتحكيم ومرتكبي الكبائر .
  11. الإقرار بوجوب الخروج على الإمام الجائر مع الاختلاف في أن ذلك يكون في كل حال أو في حال القوّة فحسب .
  12. مراعاة واجبات الناس وحقوقهم بنفس القدر ومعاملتهم بالعدل والتسوية بينهم من  دون اعتبار أصولهم العرقية والاجتماعية والجنسية . ”

  13. الثاني كان المرجئة ، والذين صنفوا تحت المواقف السياسيّة لأن غرض وجودهم كان سياسيًا ، “فعدوا جميع المسلمين مؤمنين وإن ارتكبوا الكبائر” وذلك للحفاظ على نظرتهم الإيجابية لجميع الصحابة وعدم تكفير أحد منهم .
    ” مالوا إلى اتخاذ موقف مسالم من الدولة أيًا كانت سياستها ، وإلى التعامل بتسامح مع المخالفين أيًا كانت مقالاتهم . ولم يميّزوا في الحكم بين السلوك الواضح والسلوك الملتبس إذا لم يعاينوه بأنفسهم فأرجأوا الكل إلى الله، لأن الحكم على مصير العباد من اختصاص الله وحده .
    رفض الخوارج الإرجاء بهذا المعنى لأنه يسوّي بين القاتل والمقتول ن الصحابة، ورأوا فيه إبطالاً صريحًا للوعيد الوارد في القرآن ، ورفضه المعتزلة ، ولم تكن مقالة واصل بن عطاء في المنزلة بين المنزلتين إلا هروبًا منه ومن المقالة الخارجية المكفّرة للصحابة . وقد رفضه الشيعة لأنه لا ينتقد الخلفاء الذين سبقوا عليًّا ع واغتصبوا الخلافة منه ، ورأوا في القائلين به أعوانًا للحكام الظلمة ” ، ما كان بوسع المرجئة اعتماد مذهبهم إلا بصوغ مفهوم جديد للإيمان يستبعد العمل من دائرته ويحصره في القلب .


    الثالث كان القدرية ، و ” قد يبدو من الوهلة الأولى أن القدرية الأوائل مثلوا جماعة بالمعنى الديني لا السياسيّ لأن مقالتهم المركزيّة تتعلق بإشكال ديني عقائديّ انبثق من التعارض الظاهر بين الآيات القرآنية الدالة على معنى حريّة الإنسان والآيات الدالة على معنى خضوعه للجبر الإلهي ، كانت هذه المقالة شائعة في البصرة ودمشق والمدينة .
    إن القدر والجبر موقفان دينيّان لهما انعكاس سياسيّ مباشر  يمكن أن يأخذ شكل ثورة إذا اقترنا بقيم تدفع إلى الثورة كقيمتي العدل والمساواة ، كما يمكن أن يأخذ شكل عمل سلمي يرمي إلى إصلاح المجتمع بإصلاح النفس وتغيير السلوك الشخصي “.

    بعد هذا تطرق إلى استخدام القوة والعنف ، ولعلّ أكبر خطأ ارتكبه هو قرن الحسين بن علي بالخوارج الذين ثاروا على أبيه !
    كان الخوارج في البداية ثائرين محاربين ،بعد ذلك قعدوا ( في الأغلب ) ، لكن استفزاز السلطات الأموية لهم ومساءلتهم عن مواقفهم واعتقاداتهم ثم قتلهم بناء على ذلك كان من أهم العوامل التي دفعتهم إلى نبذ القعود والخروج مجددًا ، ” ينطبق هذا بصفة خاصة على زعمائهم الأكثر تشددًا مثل أبي بلال مرداس بن حدير ونافع بن الأزرق ” خرج مرداس مع 40 رجلاً وقال :”والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم ، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرّد سيفًا ولا نقاتل إلا من قاتلنا ” ، لكنّ الأمويين لحقوهم وتعقبوهم وفرضوا عليهم الحرب فرضًا ، فخاضوها وهزموا الأمويين رغم تفوقهم العددي الهائل .
    يمكن تفسير انتصارات الخوارج المفاجئة بأمرين أولهما رغبتهم بالموت والتعرض للتنكيل والأذى ، والثاني طريقتهم الخاصة في القتال المتمثلة في المباغتة بمجموعات صغيرة جدًا ، والثبات في المعركة حتى الموت .

    طرق التعامل مع السلطات والمكافحة للبقاء عمومًا بغير الحروب  كانت ثلاثًا ، أولها ترويع الأعداء وقتلهم غيلة، وهي طريقة غلاة الشيعة والباطنية ، والثاني هو الانفصال عن المجتمع وبناء مجتمعات منغلقة في الجبال والأماكن البعيدة عن مراكز الخلافة ، وهو ما اختاره الإباضيّة ، والأخير هو الالتجاء إلى التقيّة ، وهو خيار الشيعة الاثنا عشرية .

    انتقل الكاتب بعد هذا إلى ” ترويج الأفكار الميثولوجية المغالية ” ، ويقصد بالغلو هنا ظاهرتين هما تبنّي مقالات متطرفة مثل تكفير مرتكبي الكبائر وإباحة قتل المخالف ، والثانية في تأويل آي القرآن باطنيًا وإدخال معتقدات ذات طابع أسطوري لا سند لها من العقل أو التجربة .

    ” كان التشيّع في حياة علي بن أبي طالب تشيّعًا سياسيًّا وعاطفيًا ، أخذ شكل ولاء غير مشروط لسياسته ، وتعلق حميمي بشخصه ، وتريد بعض الأخبار أن تؤكد أن الغلو نشأ في حياته على يد شخصيّة غامضة تدعى عبد الله بن سبأ، وليس من الهين التسليم بهذا ” .

    كان مظهر غلو الشيعة يتمثل في اعتقادهم ن عليًا لم يمت وأنه سيعود ” حتى يسوق الأرض بعصاه ويملك الأرض” ، بعد ذلك شاع الغلو بفضل الحركة القائلة بإمامة محمد بن الحنفيّة وهي الكيسانية ، ثم المغيرية وهي التي أشاعها المغيرة بن سعيد العجلي .

    ” كان هناك مبررات تسمح بنشأة الغلو وانتشاره ، من أهمها احتكار الأمويين للسلطة ومقابلتهم تسامح خصومهم بالعنف والاضطهاد ، ويندرج في هذا السياق أمر الوالي الأموي زياد بن أبيه بإذن من معاوية بلعن عليّ على منبر الكوفة ” .
    مثل النهج الذي اختطه كلّ من علي بن الحسين زين العابدين ومحمّد بن عليّ الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق ع أقدم وأنجح محاولة تاريخية جدّية لتخليص التشيع من مظاهر الغلو فيه ، ومن أبرز مظاهر الغلو هي الارتفاع بعليّ وذريّته إلى مرتبة الألوهية ، وتكفير من يعتقد الغلاة أنهم لا يؤمنون بذلك ، وإباحة دمائهم ، وإباحة المحرمات الدينية وحطّ التكاليف الشرعية عمن يعلن الطاعة للإمام وموالاته .


    النتائج التي ترتبت على هيمنة الكلام السياسيّ على الساحة الفكرية هي :
  14. تحويل الشأن السياسي إلى فضاء يغري الجميع بالخوض فيه .
  15. المزج التام بين الشأن الديني والسياسي .
  16. بسبب الخلط بين الدين والسياسة أصبح الحق السياسي حقًا دينيًا إلهيًا فلم يعد من الممكن في نطاق المذهب الواحد إعادة النظر في المنطلقات والمبادئ .
  17. الانجرار إلى التناحر والحروب الأهليّة بسبب تضارب المصالح .


  18. الفصل الثالث جاء بعنوان ” المنعرج المعتزلي” وتحدّث فيه عن زمن التحوّل الذي قاده المعتزلة لعلم الكلام ، وروّاد هذا الزمن ، وعدّ الكاتب نقطة التحول في الجيل الثالث أو الرابع ويمثله أبو الهذيل العلاف وابن أخته إبراهيم النظام .
    ووضح المعتزلة نقطة مهمة هنا هي أن الاعتزال لا يعني الحياد السلبي بقدر ما يعني عدم الانخراط في الثورة بالسيف رغم عدم الرضا السياسي .

    ثم يأتي على أسباب التحوّل التي يلخصها في التحالف بين المفكرين والدولة بداية القرن الثالث ،نتيجة الاستقرار السياسي في الحواضر الكبرى وعناية الدولة بشؤون المعرفة تبعًا لذلك .
    وظهور الحاجة إلى الاختصاص في مختلف المجالات ومن بينها مجال العقائد وأصول الدين .
    وتضاعف الحاجة إلى الرد على النزعات الدينية والفكرية الإسلامية المغالية واللاعقلانية ،وعلى غير الإسلامية المعترضة أو المنافسة .

    ويسترسل في الحديث عن كل سبب بعد ذلك .

    ثم يأتي على خصائص الكلام العلمي ، أولاً أولويّة المعرفة ، و” لم يؤد توجّه المتكلمين صوب المعرفة إلى إهمال القضايا السياسية القديمة ، بل احتفظوا بها ولكنهم أجروا عليها تعديلين مهمين يتمثل الأول في تحويلها إلى موضوع نظري للمعرفة بعد ان كانت مادة للممارسة ،ويتمثل الثاني في وضعها في إطار فكري جديد تغلب عليه المسائل المتافيزيقية ، وقد أدّى ذلك بصورة تلقائيّة إلى تراجع مكانتها ” عدا الشيعة الذي لم تؤثر عليهم كثيرًا لاحتفاظ الكلام لديهم بمكانته .
    غلبت التصانيف والإملاءات ، وكانوا يفرقون بين ما يوجّه إلى المتضلع في العلم ، وما يوجه إلى المبتدئ والعوام .

    ثانيًا الانفتاح على الآخر ، وتجلّى هذا كما أرى في الاعتراف بوجود الآخر ومكانته وإن اعتقد بطلان ما هو عليه ( كما ظهر جليًا في تعريف الإيجي لعلم الكلام ) ، ويتجلّى أيضًا خلال إحصاء الأطراف التي جادلها المتكلمون وردّوا عليها .

    ثالثًا الطابع الحجاجي ، ويعني به الكاتب “قيام الكلام العلمي على المناظرة والجدل واستحضار الآخر المخالف وإقامة الحجة عليه ” ، ” فليس الكلام مجرّد خطاب مرسل ، لذلك لا تندرج فيه العقائد والمقالات إلا إذا كانت مدعومة بالحجج المثبتة المقرونة بالردود على الآراء المناقضة ” .
    يتجلّى الطابع الحجاجي في بنيته الداخلية من حيث عرض الرأي والاستدلال عليه واستعراض آراء الخصوم والرد عليها وافتراض ما يمكن أن يردوا به والرد على ردودهم المفترضة ، ويتجلّى أيضًا في جنس الكتب المصنّفة حيث يميل المتكلمة إلى الردّ على الخصوم ونقض مذاهبهم .

    المعتزلة مالوا إلى الرد علي المعتزلة الآخرين في المقام الأول ، مما يكشف عن تنوع الرؤى داخل المعتقد الواحد ، وتستهدف الرد على مفكرين منشقين في المقام الثاني ، والمخالفين المسلمين في المقام الثالث، والمخالفين من غير المسلمين أخيرًا .

    الشيعة غلب على مصنفاتهم إثبات الإمامة ومذهب خصومهم تجاهها ، ثم الرد على غلاة الشيعة ومن سموا بأهل الحشو ،وبداية من القرن الخامس أصبح الخصم هو أهل السنة، خصوصًا الأشاعرة والحنابلة منهم .

    الأشاعرة استهدفوا بالدرجة الأولى الخصوم من داخل الملة باعتبارهم مبتدعة ضلالاً ، وأبرزهم المعتزلة والمشبّهة ، وتستهدف بالدرجة الثانية أرباب الديانات الأخرى والفلاسفة .

    الفصل الرابع أتى عن ” الكلام العلمي ” وتحته وضع ( من يشمّ رائحة أحد سئم الكتابة ؟ :-# ) المنظومة الأصولية ، وعرفت الأصول بأنها الأمور الاعتقاديّة التي ليس وراءها عمل، وفي تعريف أخر :” الأصول هي كل ما هو معقول يتوصّل إليه بالنظر والاستنتاج ”
ناجية الوريمي بو عجيلة , الاسلام الخارجي , دار الطليعة , 2006




عنوان الكتاب:
الإسلام الخارجي
المؤلف:
ناجية الوريمي بوعجيلة
الموضوع:
دين إسلامي
الناشر:
بيروت - دار الطليعة
عام النشر : 2006 الطبعة: 1
القياس:
19x13 سم
عدد الصفحات: 263
السلسلة: الإسلام واحداً ومتعدداً


تعريف الناشر:

إن البحث في ركام النصوص المتوافرة والحفر في طبقات الخطاب، أي خطاب، وتفكيك آليات تشكله، من شأنه أن يحيد المنطلقات الماقبلية التي قد تواصل بصورة مقصودة أو غير مقصودة حجب الحقائق الإبستمولوجية والانتروبولوجية التي أسست لظاهرة التعدد الثقافي في الإسلام.
ومن هنا لا يهدف هذا البحث إضافة دراسة "وصفية" أخرى إلى مجموع الدراسات التي اعتنت بالتعريف بالخوارج، في الفكر والتاريخ الإسلامي، لأن ما سجل منها في هذا الصدد متعدد ويكمل بعضه بعضاً، على تغيره وتناقضه أحياناً.

إن ما نرومه في هذا البحث هو تغيير زاوية النظر إلى التجربة الخارجية باعتبارها وجهاً من أوجه التعدد الثقافي والانتروبولوجي للإسلام. فنسعى من خلال تحليل الخطاب الخارجي وتفكيكه والكشف عن مرجعيته التاريخية، إلى تفسير عوامل انتشار هذه التجربة في الواقع لفترات طويلة نسبياً، وفهم عوامل "قوة الانتماء" التي تنتظم المجموعة الممارسة لها، ولا سيما اعتقادها بأنها تفهم الإسلام أصح فهم وتمارسه أصوب ممارسة، شأنها شأن أي مجموعة أخرى داخل الدائرة الثقافية المشتركة من حيث عجزها جميعاً عن الفكاك من هيمنة صيغ التفضيل على خطاباتها، ومن سيطرة هاجس التفرد على وعيها بذاتها.

إصدارات الرابطة


1. فلينزع الحجاب، تأليف شاهدورت جاﭭﺎن، ترجمة فاطمة بلحسن. دار بترا، دمشق 2005.
2. المرض بالغرب: التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي، تأليف جورج طرابيشي. دار بترا، دمشق 2005.
3. ازدواجية العقل: دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي، تأليف جورج طرابيشي. دار بترا، دمشق 2005.
4. فلسفة الأنوار، تأليف ج. فولغين، ترجمة هنرييت عبودي. دار الطليعة، بيروت 2005.
5. حرية الاعتقاد الديني، إعداد وتصنيف محمد كامل الخطيب. دار بترا، دمشق 2005.
6. نقد الثوابت: آراء في العنف والتمييز والمصادرة، تأليف رجاء بن سلامة. دار الطليعة، بيروت 2005.
7. مواقف من أجل التنوير، تأليف محمد الحداد. دار الطليعة، بيروت 2005.
8. يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب، تأليف عبد الرزاق عيد. دار الطليعة، بيروت 2005.
9. 23 عاما: دراسة في الممارسة النبوية المحمدية، تأليف علي الدشتي، ترجمة ثائر ديب. الطبعة الثانية، دار بترا، دمشق 2006.
10. علم نفس الجماهير: تأليف سيغموند فرويد، ترجمة وتعليق جورج طرابيشي. دار الطليعة، بيروت 2006.
11. الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح، تأليف محمد الحداد، دار الطليعة، بيروت 2006.
12. هرطقات1: عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، تأليف جورج طرابيشي. دار الساقي،الطبعة الثانية ، بيروت 2008.
13. هرطقات2: العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية، تأليف جورج طرابيشي. دار الساقي، بيروت 2008 .

14. العلمانية على محك الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية، تأليف كارولين فوريست وفياميتا فينر، ترجمة غازي أبو عقل. دار بترا، دمشق 2006.
15. عمانويل كانط: الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص، تأليف محمد المزوغي. دار الساقي، بيروت 2007.
16. الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟ تأليف هاشم صالح. دار الساقي، بيروت، 2007.
17. الحجاب، تأليف جمال البنا. دار بترا، دمشق 2007.
18. أسرار التوراة، تأليف روجيه الصبّاح، ترجمة صالح بشير. دار بترا، دمشق 2007.
19. مدخل إلى التنوير الأوروبي، تأليف هاشم صالح. الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت 2007.
20. هدم الهدم، إدارة الظهر للأب السياسي والثقافي والتراثي، تأليف عبد الرزاق عيد. دار الطليعة، بيروت 2007.
21. معضلة الأصولية الإسلامية، تأليف هاشم صالح. دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية 2008.
22. .
23. في نقد إنسان الجموع، تأليف رجاء بن سلامة. دار الطليعة، بيروت 2008.
24. إمامة المرأة، تأليف جمال البنا. دار بترا، دمشق 2008.
25. الإسلام والحرية، تأليف محمد الشرفي. دار بترا، دمشق 2008.
26. حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية، تأليف ناجية الوريمّي بوعجيلة. دار بترا، دمشق 2008.
27. الإسلام معطَّلاً: العالم الإسلامي ومعضلة الفوات التاريخي، تأليف فريدون هويدا، ترجمة حسين قبيسي. دار بترا، دمشق 2008.
28. امرأتنا في الشريعة والمجتمع، تأليف الطاهر الحداد. دار بترا، دمشق 2008.
29. موجز فكر التنوير، تأليف د. عثمان أشقرا. دار بترا، دمشق 2008.
30. الحداثة وتحرير الإنسان، مجموعة باحثين. دار بترا، دمشق 2008.
31. 1789: ثورات الحرية والمساواة، تأليف روبرت بالمر، ترجمة هنرييت عبودي ، دار الطليعة، بيروت 2008.
32. تأسيس الإسلام: بين الكتابة والتاريخ، تأليف ألفريد لويس دي بريمار، ترجمة هاشم صالح ، دار الساقي، بيروت 2008.
33. المفكرون الأحرار في الإسلام، تأليف دومينيك أورفوا، ترجمة جمال شحيد ، دار الساقي، بيروت 2008.
34. الإسلام والتحليل النفسي، تأليف فتحي بن سلامة، دار الساقي، بيروت 2008.
35. المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب، تأليف عبد الصمد الديالمي دار الساقي، بيروت 2008.
36. المعجزة: أو سبات العقل في الإسلام، تأليف جورج طرابيشي دار الساقي، بيروت 2008.
«الإسلام واحداً ومتعدداً»
سلسلة دراسات يشرف عليها د. عبد المجيد الشرفي
صدر منها إلى الآن عن دار الطليعة ببيروت:
37. الإسلام الخارجي، تأليف ناجية الوريمّي بوعجيلة.
38. إسلام المتكلمين، تأليف محمد بوهلال.
39. الإسلام السني، تأليف بسام الجمل.
40. الإسلام الشعبي، تأليف زهية جويرو.
41. الإسلام الحركي، بحث في أدبيات الأحزاب والحركات الإسلامية، تأليف عبد الرحيم بوهاها.
42. إسلام الفلاسفة، تأليف منجي لسود.
43. الإسلام في المدينة، تأليف بلقيس الرزيقي.
44. الإسلام «الأسود» جنوب الصّحراء الكبرى، تأليف محمد شقرون.
45. الإسلام الآسيوي، تأليف آمال قرامي.
46. إسلام الفقهاء، تأليف نادر الحمامي.
47. إسلام المتصوفة، تأليف محمد بن الطيب.
48. إسلام المجددين، تأليف محمد حمزة.
49. الإسلام العربي، تأليف عبد الله خلايفي.
50. إسلام عصور الانحطاط، تأليف هالة الورتاني وعبد الباسط قمودي.
51. إسلام الأكراد، تأليف تهامي العبدولي.
52. إسلام الساسة،تأليف سهام الدبابي الميساوي.
53. إسلام عصور الانحطاط، تأليف الورتاني/القمودي.

إصدارات الرابطة تحت اسم المؤسسة العربية للتحديث الفكري
54. أعلام النبوة: الرد على الملحد أبي بكر الرازي، تأليف أبو حاتم الرازي. دار الساقي، بيروت 2003.
55. في الائتلاف والاختلاف - ثنائية السائد والمهمش في الفكر الإسلامي القديم، تأليف ناجية الوريمي بوعجيلة. دار المدى، دمشق 2004.
56. ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، تأليف داريوش شايغان، ترجمة محمد الرحموني. دار الساقي، بيروت 2004.
57. الحداثة والحداثة العربية. دار بترا، دمشق 2004.
58. النهضة وصراع البقاء، تأليف إبراهيم بدران. المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
59. الحرب المقدسة: الجهاد، الحرب الصليبية – العنف والدين في المسيحية والإسلام، تأليف جان فلوري، ترجمة غسان مايو. دار المدى، بيروت 2005.
60. أسباب النزول، تأليف بسام الجمل. المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
61. الإنسان نشوؤه وارتقاؤه، تأليف جان شالين، ترجمة الصادق قسومة. دار بترا، دمشق 2005.
62. الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، تأليف محمد حمزة. المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
63. السنة: أصلاً من أصول الفقه، تأليف حمادي ذويب. المركز الثقافي العربي، بيروت 2005.
64. العلمانية، تأليف غي هارشير، ترجمة رشا الصباغ. دار المدى، دمشق 2005.
65. الكنيسة والعلم: تاريخ الصراع بين العقل الديني والعقل العلمي، الجزء1، تأليف جورج مينوا، ترجمة موريس جلال. دار الأهالي، دمشق 2005.
66. محاكم التفتيش، تأليف غي وجون تستاس، ترجمة ميساء السيوفي. دار الأهالي، دمشق 2005.
67. ما هي العلمانية؟، تأليف هنري بينا-رويث، ترجمة ريم منصور الأطرش. دار الأهالي، دمشق 2005.
68. الفكر الحر، تأليف أندريه ناتاف، ترجمة رندة بعث. دار المدى، دمشق 2005.

Augustus the First Emperor




أوغسطس Augustus : هو مؤسس نظام الحكم الامبراطوري الروماني واول امبراطور روماني ومن أعظم ساسة روما وقادتها على مر العصور.
أسماؤه ونشأته:
-عرف بأسماء عديدة حملها في مراحل مختلفة من حياته: كان اسمه عند الولادة غايوس أوكتافيوسLatin : Caius Octavius Thurinus ، ثم أصبح بعد التبني غايوس يوليوس قيصر أوكتافيانوس Octavianus، ومنذ عام 27ق.م حتى وفاته طغى لقبه الرسمي أغسطس: Imperator Caesar Divi Filius Augustus على أسمائه الأخرى.
ولد في روما (23 أيلول سبتمبر -63 ق م ) على هضبة البالاتين Mons Palatinum احدى تلال روما السبع في أثناء قنصلية شيشرون ، من أسرة موسرة تنتمي إلى طبقة الفرسان l'ordre équestre . كان والده غايوس أوكتافيوس الذي حمل نفس اسمه رجلاً عصامياً وصل إلى منصب والي مقدونية عام 60ـ59ق.م وحال موته المبكر دون تقلده أرفع المناصب وهو القنصلية.
وكانت أمه آتيا Atia ابنة شقيقة الزعيم المشهور يوليوس قيصر، الذي تعهده برعايته بعد موت والده وهيأ له تربية عالية خليقة بأبناء النبلاء فدرس الخطابة والأدب والحقوق وتدرب على الحياة العسكرية مثل سائر الرومان. كان يتابع دراسته في مدينة أبولونية الإغريقية على ساحل الأدرياتي ويستعد للمشاركة في الحملة المقررة على المملكة البارثية الفارسية، عندما وصله نبأ اغتيال يوليوس قيصر في 15 آذار مارس عام 44ق.م على يد فئة من المتآمرين بزعامة بروتوس وكاسيوس، الذين أرادوا إنقاذ النظام الجمهوري المتداعي من الحكم الفردي ، قرر العودة الى روما وهو الحدث الذي غير مسيرة حياته.
الصراع من أجل السلطة
قرر أوكتافيوس ـ على حداثة سنه 19 سنة على الرغم من تحذيرات أمه وأقاربه التوجه إلى رومة للمطالبة بميراث خاله الأكبر الذي تبناه في وصيته اوعطاه ثروته ونفوذه بالاضافة الى اعطائه tria nomina اي اسمه الثلاثي : Caius Iulius Caesar Octavianus وفقا لتقاليد التبني في روما . وكان ذلك يعني تحديا مباشرا للقنصل ماركوس أنطونيوس صديق قيصر الوفي والرجل الطامح في ميراث قيصر؛ الذي تزعم أنصار قيصر وأمسك بزمام الأمور في روما على امل الحلول محل قيصر ولكن أوكتافيوس استطاع بما أوتي من مهارة وقوة شخصية أن يكسب الأنصار ويثبت أقدامه على الساحة السياسية. وذالك من خلال اول عمل سياسي قام به وهو تنظيمه العاب مصارعة تخلد انتصارات خاله يوليوس قيصر Ludi Victoriae Caesaris وليؤكد لشعب روما ومجلس الشيوخ انه ابن قيصر بتبني وانه يسعى للابقاء على ميراث قيصر، ولكنه كان يدرك أنه لابد له من قوة عسكرية تدعم مطالبه وسند سياسي يوازن به قوة خصمه. فقام أولاً وبدعم من صديق عمره أغريبا بتشكيل جيش موال له من جنود قيصر القدامى. ثم تحالف مع مجلس الشيوخ بزعامة شيشرون وانطلق مع قنصلي عام 43ق.م لنجدة ديكيموس بروتوس، أحد قتلة قيصر، الذي كان أنطونيوس يحاصره في شمال إيطالية. وتمكن مع حلفائه في حرب موتينة Mutina من فك الحصار وإجبار أنطونيوس على الانسحاب إلى بلاد الغال. ولما كان القنصلان قد قتلا في المعركة، فقد طالب أوكتافيوس لنفسه بمنصب القنصلية ولم يتردد حيال رفض مجلس الشيوخ في الزحف بجيشه على رومة وإرغام المجالس الشعبية على انتخابه قنصلاً (آب 43ق.م) وكان لايزال في العشرين من عمره لم يشغل اي منصب سياسي او اداري في الدولة وهي سابقة لا مثيل لها في التاريخ الروماني. ثم توصل إلى الاعتراف بشرعية بنوّته لقيصر وبحقه في الثأر من قتلة أبيه (بالتبني)، الذين أهدرت دماؤهم. ونظراً لتنامي خطر هؤلاء وازدياد قوتهم بعد أن بسطوا سيطرتهم على الشرق الروماني فقد اضطر أوكتافيان إلى التقرب من منافسه اللدود أنطونيوس وحليفه لبيدوس Lepidus والتحالف معهما بهدف توحيد قوى أنصار قيصر والاستعداد لمواجهة قتلته من أنصار النظام الجمهوري.


واستصدر الزعماء الثلاثة عام 42 ق.م قانوناً يمنحهم سلطات مطلقة لمدة خمس سنوات من أجل إصلاح أوضاع الدولة. وهو ما عرف باسم الحكم الثلاثي الثاني Triumviratus. ثم بدؤوا حملة دموية لملاحقة خصومهم ذهب ضحيتها عدد كبير من الشيوخ والفرسان، وعلى رأسهم شيشرون، والذين صودرت أموالهم وممتلكاتهم لتمويل الحرب المقبلة. وبعد أن أكمل الحكام الثلاثة استعداداتهم أبحرت قواتهم إلى بلاد اليونان بقيادة أنطونيوس وأوكتافيان وهناك جرت معركة معركة فيليبي Philippi الحاسمة (تشرين أول 42ق.م) التي انتهت بهزيمة الجمهوريين والقضاء على زعمائهم. بقي أنطونيوس في الشرق لتنظيم أموره، وعاد أوكتافيان إلى روما ليواجه مسألة توطين الجنود المسرحين في إيطالية التي حاولت زوجة أنطونيوس وشقيقه لوكيوس استغلالها لإضعاف مركزه وأدت إلى حرب بيروسية (41ق.م) ولكنه خرج منها منتصراً. ثم نجح في استرضاء أنطونيوس وعقد معه اتفاق برودنديزيوم في إيطالية (40ق.م)، الذي تكلل بزواج أنطونيوس من شقيقته أوكتافيا. وبعد تجديد الحكم الثلاثي لخمس سنوات أخرى في عام 37ق.م تمكن قائده أغريبا من الانتصار على سكستوس بومبيوس S.Pompeius، آخر زعماء الجمهوريين في اسبانيا، الذي كان يهدد طرق تموين إيطالية البحرية انطلاقاً من جزيرة صقلية. وأعقب ذلك تجريد الحليف الثالث لبيدوس من ولايته وسلطاته ولكنه أبقى له منصب الكاهن الأعظم حتى موته عام 12ق.م. وهكذا غدا أوكتافيان سيد الغرب الروماني بلا منازع وغدا الحكم الثلاثي ثنائياً وبات الصراع مع أنطونيوس أمراً لا مفر منه، والذي كان بدوره قد وطد مركزه في الشرق بتحالفه سياسياَ مع الملكة كليوباترة وزواجه منها وانتصاره على الفرثيين الفرس. وسبق النزاع المسلح حرب دعائية بين الطرفين لجأ فيها أوكتافيان إلى تهديد أنصار أنطونيوس ثم الاستيلاء على وصيته (المزعومة!) ونشرها ليصوره بمظهر المفرط بمصالح روما والمستسلم لأهواء كليوباترة وقد جاء في تلك الوصية المزعومة انا انطونيوس قرر ان يهب جميع ولايات روما الشرقية لحبيبته الملكة المصرية . وهكذا استطاع أوكتافيان بدهائه وحنكته السياسية أن يكسب عواطف الرومان القومية ويوحدهم حول زعامته في النصف الغربي من الامبراطورية. ثم جرت معركة أكتيوم Actium البحرية الشهيرة (أيلول 31ق.م)، التي تمكن فيها أوكتافيان وقائده أغريبا من إلحاق الهزيمة بأسطول أنطونيوس، الذي ترك ميدان القتال وتوجه مع كليوباترة إلى الاسكندرية لمواصلة الصراع. ونجح بعد ذلك في كسب جيش خصمه وضمه إلى قواته ثم تابع زحفه المظفر عبر اليونان وآسيا الصغرى وسورية ليتوج انتصاراته بدخول الإسكندرية (آب 30ق.م) وانتحار أنطونيوس وكليوباترة وسقوط مصر في يده واستيلائه على كنوزها وثرواتها. وعاد أوكتافيان في صيف عام 29ق.م إلى رومة، التي استقبلته استقبال الأبطال ليحتفل بانتصاراته التي جعلت منه سيد الامبراطورية الرومانية الأوحد الذي يمتلك من القوة والسلطة والنفوذ والثروة ما لم يملكه قائد روماني من قبل وأصبح بإمكانه تنظيم الدولة الرومانية وفق أسس جديدة.
نظام الحكم الجديد
مهد أوكتافيان لإقامة نظامه الجديد بتسريح قسم كبير من الجيش وإعلان العفو عن خصومه السابقين واستمالة الجماهير الرومانية بالهبات والأموال التي جلبها من الشرق قبل البدء بإصلاح النظام الجمهوري المتداعي، الذي فقد معظم زعمائه وأنصاره في الحروب الأهلية، وتحويله تدريجياً إلى نظام حكم رئاسي ـ إمبراطوري مع الحفاظ على المظاهر والتقاليد الجمهورية.
وجاءت الخطوة الأولى عندما أعلن في مطلع عام 27ق.م، أمام مجلس الشيوخ، أن عصر الحروب الأهلية قد ولى إلى غير رجعة وأنه يتخلى عن كل سلطاته الاستثنائية ويعيد الجمهورية إلى سابق عهدها ويضع مقدراتها بين يدي مجلس الشيوخ والشعب الروماني. فما كان من المجلس إلا أن منحه تقديراً لهذا الإعلان امتيازات عديدة وعلى رأسها لقب «أغسطس» الذي يعني <اب الوطن> والذي يرفعه فوق مستوى البشر. كما منحه السلطة القنصلية <الامبيريوم>IMPERIVME (سلطة قيادة الجيوش وحكم الولايات) على أهم الولايات الرومانية وهي إسبانية وغالية وسورية، إضافة إلى مصر، لمدة عشر سنوات.
وقد احتفظ أوكتافيان بالقنصلية التي شكلت الدعامة الدستورية لحكمه بلا انقطاع حتى عام 23ق.م عندما تخلى عن هذا المنصب ولكنه حصل بالمقابل على معظم صلاحيات القناصل وامتيازاتهم. كما تسلم أيضاً السلطة التريبونية Tribvnicia Potestas كاملة فأعطته الحق في دعوة المجالس الشعبية للانعقاد وتقديم مشاريع القوانين لها كما أعطته حق النقض Veto وجعلت من شخصه مقدساً لا تخرق له حرمة. كذلك تسلم السلطة البروقنصلية العليا imperiam proconsvlare maivs لمدة عشر سنوات فمنحه ذلك الإشراف على جميع الولايات السناتورية والامبراطورية وجعل منه القائد الأعلى للجيوش الرومانية. وبذلك حصل على أهم ثلاث سلطات في الدولة الرومانية وهي: القنصلية والتريبونية والبروقنصلية، أي السلطات المدنية والشعبية القضائية والعسكرية. وهكذا احتفل عام 17ق.م بانتهاء الإصلاحات وولادة عصر جديد هو عصر السلام الأغسطي Pax Augusta.او PAX ROMANA
سياساته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية
اهتم أغسطس بالعادات والتقاليد الرومانية المتوارثة فرعاها وبعث الحياة فيها من جديد. وعندما تولى منصب الكاهن الأعظم في عام 12ق.م سعى إلى إحياء الديانة الرومانية فملأ المناصب الكهنوتية الشاغرة واهتم ببناء المعابد وترميمها. وتقديراً لهذه الأعمال الجليلة كرّمه الرومان بتقديس شخصه وألّهه الشرق الهلنستي إذ ارتبطت عبادته بعبادة الآلهة رومة.
لم يفكر أغسطس بتغيير الأوضاع الاجتماعية وإنما سعى لتوطيد الأحوال الناجمة عن الحروب الأهلية وصياغة الأطر القانونية اللازمة لاستقرار الطبقات الاجتماعية وتخصيص دور لكل منها في النظام الجديد. كان يرى في الطبقات الأرستقراطية الركيزة الأساسية للدولة لذلك كان يختار من طبقة الشيوخ كبار الحكام والقادة، بينما خص طبقة الفرسان بكثير من الوظائف والمهام الإدارية والمالية. ونظراً لتفشي مظاهر الانحلال الأخلاقي والعزوف عن الزواج والإنجاب بين أفراد هذه الطبقات العليا فقد أصدر مجموعة من القوانين (اليولية) بهدف الحد من انقراضها وبعث الحياة فيها من جديد.
كان أغسطس مقتصداً جداً في منح حقوق المواطنة الرومانية على عكس سياسة أسلافه بومبيوس وقيصر وأنطونيوس المتسامحة بهذا الخصوص. ولم يتدخل في الحياة الاقتصادية التي انتعشت بعد عودة السلم والاستقرار وإنما تركها وشأنها يتحكم فيها قانون العرض والطلب. اهتم فقط بتنظيم الأمور المالية وفق أسس جديدة فأوجد خزينة امبراطورية Fiscus تعمل تحت إشرافه إلى جانب خزينة الدولة السابقة aerarium التي بقيت بإشراف مجلس الشيوخ ولكنها فقدت مكانتها السابقة وغدت مع الأيام تابعة للخزينة الجديدة.
كما أجرى إصلاحات إدارية كثيرة في رومة وإيطالية والولايات التي أصبح معظمها وأهمها تحت سلطته المباشرة، ولكن بقي بعضها خاضعاً لمجلس الشيوخ. لقد زار كثيراً من الولايات ونظم أمورها وحد من تسلط متعهدي الضرائب الذين كانوا يبتزونها ويستنزفون مواردها وخيراتها.
كان أغسطس يدرك أهمية وجود نخبة فكرية حوله تدعم سياساته وتمجد أعماله وإنجازاته لذلك رعى هو وأصدقاؤه وفي مقدمتهم مايكيناس Maecenas الأدباء والشعراء وشجعهم على الإبداع والأعمال الفكرية الخالدة. وهكذا ازدهر الأدب اللاتيني في عهده ووصل إلى عصره الذهبي إذ نبغ أعظم الشعراء والكتاب من أمثال فرجيل وهوراس وأوفيد والمؤرخ تيتوس ليفيوس[ر].
لم يكن أغسطس ذواقة للأدب فحسب وإنما كان له فيه بعض المحاولات والمؤلفات ولكنها فقدت جميعاً ولم يصلنا سوى سجل أعماله المجيد Res Gestae Divi Augusti على آبدة أنقرة باللغتين اللاتينية والإغريقية.
شيد الكثير من الأبنية العامة والمعابد والجسور والمسارح والأسواق داخل رومة وخارجها وهكذا كان جديراًَ أن يفخر في سجل أعماله بأنه تسلم روما وهي من الطوب وتركها مدينة من الرخام.
سياسته العسكرية والخارجية
كما أولى الجيش الروماني عناية فائقة حيث حل جيوش الحرب الاهلية وسن قوانين تنظم الجيش وحياة الجنود وعملهم واعاد بناء الفيالق الرومانية حيث بلغ عدد الفيالق الرومانية في عهده 28 فيلق و التي اصبحت تطيع الامبراطور فقط باعتباره القائد الاعلى للقوات المسلحة وهو معنى كلمة امبراطور بالاتينية IMPERATOR ، كما أصبح الجيش يرابط بصورة أساسية في الولايات الحدودية والتخوم المهددة على نهر الدانوب والفرات وارمينيا وجرمانيا خصوصا بعد هزيمة فاروس في جرمانيا وتوقف عن ضمها مؤقتا.و كانت الفيالق النظامية legiones تقتصر على المواطنين الرومان وتقوم على مبدأ التطوع والاحتراف والخدمة لمدة عشرين سنة على الأقل. وقد أنشئت خزينة عسكرية خاصة تتولى الإنفاق على الجنود.
أما الوحدات العسكرية المساعدة auxiliae فكانت تتألف من سكان الولايات الذين يخدمون تحت إمرة ضباط رومان لمدة 25 سنة وبعد انتهاء الخدمة تمنح لهم المواطنة الرومانية و يصبحون مواطنين رومان. وقد بقيت القيادات العسكرية حكراً على طبقتي الشيوخ والفرسان. كذلك أوجد أغسطس بحرية دائمة ترابط أساطيلها في مرافئ استراتيجية مختارة. وأنشأ الحرس الإمبراطوري (البريتوري- PREATORIAN GARDIUVS ) الذي كان يعسكر في روما وضواحيها لحماية الإمبراطور وأصبح أكاديمية عسكرية لتخريج كبار الضباط والقادة فيما بعد.
أما عن سياسته الخارجية فقد مد تخوم الإمبراطورية في الغرب وخاض قواده حروباً ضارية مع القبائل الجرمانية والسويبية والمركومانية وسواها تمخضت عن الوصول إلى نهر الدانوب وإنشاء عدة ولايات رومانية <هيلفاستيا-جرمانيا العليا-جرمانيا السفلى -رياتيا> في أواسط أوربة. ولكنه توقف عن مواصلة ضم جرمانية إلى الإمبراطورية بعد خسارة فاروس Varus عام 9م في معركة تويتبورج مع الجرمان حيث ابيدت 3 فيالق LEGION رومانية بأكملها على يد القبائل الجرمانية تارك مهمة ضم جرمانيا الى ربييبه وخليفته تيبريوس. أما أعظم إنجازاته في الشرق فكان بلا شك القضاء على المملكة البطلموسية والسيطرة على مصر التي غدت ولاية ممتازة تابعة للإمبراطور شخصياً بسبب أهميتها العظيمة. وقد قام واليه عليها بحملة ناجحة وصلت إلى أعالي النوبة وحدود الحبشة. بيد أن الإخفاق كان مصير الحملة المشهورة التي قادها إليوس غالوس Aelius Gallus عام 24ق.م بهدف السيطرة على اليمن وثرواتها وتجارتها، وكانت أول وآخر محاولة رومانية للسيطرة على الجزيرة العربية. وعلى العكس من ذلك فقد اتبع أغسطس سياسة التعايش السلمي والدبلوماسية مع المملكة البارثية الفارسية التي كانت أكبر قوة منافسة للرومان في الشرق، ونجح في عقد اتفاق معها (19ق.م) في أثناء زيارته للشرق توصل بموجبه إلى إعادة الأسرى والرايات التي فقدها الرومان في كارثة حران (54ق.م) وتثبيت حدود الفرات بين الدولتين كما اتفق الطرفان على بقاء ارمينيا مستقلة تحت الحماية و الوصاية الرومانية على ان تتعهد روما بعدم ضمها الى الولايات الامبراطورية وان تكون منطقة <ارتوباتن> اذربيجان الحالية التي كانت مثنازاع عليها بين الدولتين الحد الفاصل بين روما وفارس في القوقاز.


خلافته ومكانته

كان أغسطس حريصاً على اختيار خلف له من أسرته وأقربائه. ولكنه لم يرزق سوى بابنة وحيدة من زوجته الثانية سكريبونيا تدعى يوليا Julia، أما زوجته الثالثة ليفيا Livia، التي كان لها ولدان من زوجها الأول، فلم تنجب له أولاداً. وهكذا وقع اختياره أولاً على ابن أخته مركلوس Marcellus فزوجه من ابنته يوليا على أمل أن يخلفه ولكنه مات بعد وقت قصير (23ق.م)، فاختار صديقه الحميم أغريبا وزوّجه من ابنته المترملة وأشركه في سلطاته ولكنه مات بدوره في عام 12ق.م مخلفاً حفيدين لأغسطس هما غايوس ولوكيوس، والذي بدأ يعدهما لخلافته ولكنهما توفيا قبله الواحد تلو الآخر. واضطر أخيراً لتبني ابن زوجته تيبريوس[ر] Tiberius فزوجه يوليا وهيأه لخلافته وقد أصبح الإمبراطور اللاحق.
وفي عام 13م أحس أغسطس بقرب دنو أجله فأودع وصيته في معبد النار المقدسة وأمر بتدوين سجل أعماله الخالدة. وفارق الحياة في شهر آب عام 14م في نولا (منطقة كمبانية). وكان قد هيأ ضريحه الإمبراطوري الفخم الذي ضم رماد جثمانه بعد حرقه في احتفال مهيب. وفي 17 أيلول أعلن مجلس الشيوخ أنه أصبح بين آلهة الدولة الرومانية. وكان اسمه قد أطلق على الشهر الروماني الثامن والذي أصبح يدعى شهر أغسطس.
حكم أغسطس روما ما يزيد على نصف قرن وترك بصماته العميقة على مختلف أوجه الحياة فيها حتى غدا اسمه علماً على عصر بأكمله Augustan Age تميز بإنجازات وإبداعات خلاقة أصبحت كلاسيكية في تاريخ الحضارة الرومانية. لقد نجح في تخليص الرومان من ويلات الحروب الأهلية وأسس نظامه الامبراطوري على أنقاض النظام الجمهوري الذي كتب له البقاء والاستمرار نحو اربعة قرون.
كانت مكانة الامبراطور تعتمد على سلسلة من الحقوق والسلطات المدنية والعسكرية الممنوحة له والتي لم يكن أي منها يتعارض مع التقاليد الجمهورية ولكنها بمجموعها وتركيزها في يد الإمبراطور جعلت منه حاكم الإمبراطورية المطلق.
لقد أقام أغسطس نظاماً يوازن بين التقاليد المتوارثة ومتطلبات حكم إمبراطورية عالمية أخفق دستور دولة المدينة الجمهوري في حكمها. وكان حريصاً أن يحافظ على مظهر أنه لم يكون سوى أحد حكام روما المنتخبين وأنه لم يفق أقرانه إلا بالجاه والنفوذ.
لقد رفض الألقاب المستهجنة في التاريخ الروماني من قبيل ملك أو دكتاتور وكان يفضل لقب رئيس Princeps وهو لقب روماني قديم يؤكد على أولويته بين أسياد أكفاء Primus inter pares ولذلك دعي نظامه بالحكم الرئاسي Principatus ولكن لقب امبراطور Imperator اتخذه بديلاً لاسمه الشخصي «غايوس» يؤكد الطابع العسكري لحكمه. وهكذا عاش «أبو الوطن» في ذاكرة الأجيال اللاحقة باسم الامبراطور قيصر أغسطس.



Augusts Caesar هو أول من انشأ النظام الإمبراطوري في روما، وكان أول إمبراطور للدولة الرومانية، وقد اشتهر بعد ذلك باسم اغسطس، ثم اصبح اسمه أغسطس قيصر. وكان أغسطس في الثامنة عشرة من عمره حين ورث سلطان قيصر، وكان نحيف الجسم، سقيم البنية، غير منسق التقاطيع، يشكو من أمراض عديدة، ويتعثر في مشيته بسبب داء في ساقيه. ومع ذلك كان يطلق العنان لشهواته، غائصًا في التهتك والمجون، ويرتكب أبشع الأعمال وأفظع الجرائم في فظاظة بشعة وغلظة لا رحمة فيها ولا وخز ضمير، فكان مثالًا صادقًا وصارخًا للحاكم الروماني، وقد اتصف بكل ما اشتهر به الطغاة الجبابرة في كل عصور التاريخ، فأمكنه بذلك أن يقبض على زمام إمبراطوريته المترامية الأطراف بيد من حديد، وظل زهاء نصف قرن من الزمان هو الحاكم بأمره في العالم كله وقد عاد أغسطس إلى روما عقب انتصاره على انطونيوس في معركة أكتيوم عام 31 قبل الميلاد، واستيلائه على مصر، فاستقبله الرومان استقبالا منقطع النظر، وقد بهرهم بانتصاريه العظيمة وغنائمه الضخمة التي جاء بها من مصر، وأغدقها على العامة والجنود فلم يسع مجلس الشيوخ إلا الرضوخ له والتخلى عن كل سلطاته إليه، فأصبحت في يديه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية مجتمعة. وفي عام 27ق. م. أسبغ عليه مجلس الشيوخ لقبا كان قاصرا من قبل على الآلهة، وهو لقب " أغسطس " وإذ كان اسم قيصر قد أصبح لقبا للأباطرة، أضيف إلى لقبه الأول فأصبح يسمي (أغسطس قيصر). وبالرغم من أنه كان يسمي نفسه (زعيمًا) فحسب، فقد أصبح ملكًا بالفعل وإن لم يسبغ على نفسه هذه الصفة، بل أصبح ملك الملوك، بوصفه إمبراطور الدولة الرومانية. ثم لم يلبث مجلس الشيوخ أن أعتبره إلهًا وأضاف اسمه إلى أسماء الآلهة الرسميين لروما، وأصبح يوم ميلاده يومًا مقدسًا تقام فيه الطقوس لعبادته والتوجه إليه بالصلوات والترانيم. وقد بلغ من إيمان بعض الرومان به أنهم وهبوا حياتهم له فقطعوا على أنفسهم عهدًا بأن يقتلوا أنفسهم حين يموت. ويقول سونونوس "إن الناس جميعًا على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم كانوا يقدمون له الهدايا والقرابين في عيد رأس السنة". ثم سرعان ما امتدت عبادة أغسطس من روما إلى غيرها من الولايات الرومانية وقد اتخذت بعض ولايات آسيا عبادته ديانة رسمية لها وعينت لخدمة مذبحة طائفة جديدة من الكهنة اسمهم الأغسطيون. بل لقد زعم البعض أنه هو المسيح ابن الله المُنتظر. وهكذا أصبح ذلك الفاسق الزاني، والآثم الظالم، عند الرومان وأتباع الرومان، إلهًا ابن إله، وأصبح في زعمهم هو الذي ينتظره العالم كي يخلص البشر. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وقد ظلت الدولة الرومانية في عهد أغسطس دولة رأسمالية يسيطر عليها كبار الأغنياء من أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان وكان الإمبراطور هو الرأسمالي الأول في الدولة فكان أغنى أغنيائها وقد أعتبر أموال الدولة كلها أمواله، فاختلطت خزانة الدولة بخزانته الخاصة، واصبح يتصرف في موارد الدولة بنفس الطريقة التي يتصرف بها في موارده الشخصية، وقد ترك هذه وتلك في أيدي عبيده الخصوصيين بغير حسيب ورقيب، ومن ثم سيطر عبيده على كل شئون الدولة، وأصبح بأيديهم الأمر والنهي في طول البلاد وعرضها. وكان أغنى الناس في روما بعد الإمبراطور هم أقاربه، وأصدقائه الذين تربطه بهم أوثق الصلات، إذ كان الإمبراطور هو الوسيلة السحرية إلى الثروة التي لا حدود لها. أما سخطه فكان وسيلة الخراب والهلاك.
St-Takla.org Image: Emperor Augustus Caesar
صورة في موقع الأنبا تكلا: الإمبراطور أغسطس قيصر
وقد تزايد الأثرياء في روما في عهد اغسطس فتزايد الفساد وأشتد انحطاط أخلاق الرجال وانحلال النساء، واضمحلال الروابط بين الزوج وزوجته والوالد وولده، فأنطلق كل منهم في سبيل، واطلق كل منهم العنان لشهواته لا يردعه رادع ولا يدفعه دافع من عقل ومن ضمير. وقد زهد أغلب الرجال والنساء على السواء في رباط الزوجية فأصبحت العلاقات غير الشرعية هي السائدة، واصبح الزنا هو القاعدة، كما زهد الجميع في إنجاب الأبناء، فأصبحوا يمنعون الحمل ويجهضون الحوامل ويقتلون الأطفال بعد ولادتهم. وقد تفاقم هذا كله حتى أصبح يهدد الرومان بالاندثار وأصبح يهدد الدولة الرومانية بالانهيار، ومن ثم سارع أغسطس قيصر إلى إصدار سلسة من التشريعات محاولًا أن يوقف هذا الطوفان قبل فوات الأوان، فمنع الزنى بقانون، وأعطى الحق للأب في أن يقتل أبنته الزانية مع شريكها، كما اعطي الحق للزوج في أن يقتل زوجته الزانية مع شريكها كذلك، وأوجب على زوج الزانية أن يبلغ عنها وإلا تعرض للعقاب. أما زوجة الزاني فلا يحق لها أن تبلغ عنه لأن القانون يبيح له الاتصال بالعاهرات. وقد أصبح الزواج مفروضًا بحكم القانون على كل الصالحين له من الرجال والنساء، وإلا تعرضوا لعقوبات صارمة، منها الحرمان من الميراث، والحرمان من مشاهدة الحفلات والأعياد العامة، بيد أن هذه القوانين قد أغضبت الرومان جميعًا بغير استثناء، ولا سيما أنهم كانوا يعلمون أن الذي أقترحها هو (مانساس) الذي كان مضرب الأمثال في الفجور والفحشاء، وكانت زوجته عشيقة أغسطس نفسه من أكثر الرومان عهرًا وعارًا، وكانت الفضائح التي تحدث في بيته تزكم أنوف القريبين والبعيدين في كل أنحاء الإمبراطورية، وكانت له أبنه وحيده تدعى جوليا ملأت روما بأخبار زناها وخيانتها لأزواجها المتعاقبين وانتقالها من عشيق لعشيق وعربدتها التى كانت تملأ السوق العامة صخبًا وضجيجًا طول الليل. ولذلك سخر الرومان من أغسطس قائلين: كيف يريد بقوانينه أن يصلح أخلاق الدولة كلها، بينما هو عاجز عن إصلاح الأخلاق في بيته. ومن ثم أضطر أغسطس أن يبعد أبنته جوليا عن روما. ولكن جوليا كان لها ابنه لم تلبث أن بدأت تسلك مسلك أمها وتثير الفضائح كذلك فأضطر كذلك أغسطس أن يبعدها عن روما هي الأخرى. وهكذا فشلت قوانين أغسطس وقد فشل في إصلاح أخلاق بيته وأخلاق دولته، لأنه هو نفسه – ككل الرومان – كان فاسد الأخلاق، وكانت الفضيلة والرذيلة عنده سواء. مصدر المقال موقع الأنبا تكلاهيمانوت.
وحين انتصر اغسطس على انطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم عام 31 قبل الميلاد ، أصبح الطريق مفتوحًا أمامه للاستيلاء على مصر والقضاء على البطالمة، الذين كان قد زعزع كيانهم وضعضع قوتهم تطاحنهم فيما بينهم وثورة الشعب المصري عليهم، فضلًا عن انحرافهم وانصرافهم إلى حياة التهتك والخلاعة والمجون، ولا سيما كيلوباترا التي جعلت عرشها عش غرام لها، وجعلت من انوثتها وسيلة لتحقيق مطامعها، فسقطت في هوة عارها، وسقطت مصر معها بين براثن الرومان، فأستولي أغسطس عليها دون مقاومة في أول أغسطس عام 30 قبل الميلاد، وأصبحت ولاية رومانية منذ ذلك التاريخ، ولكنها ولاية ذات مركز خاص نظرًا لأهميتها التاريخية والسياسية والاقتصادية، وموقعها الممتاز وصلابة اهلها الذين لم يستسلموا أبدأ للغاصبين ويستكينوا للغزاة وأنما كانوا على الدوام – رغم وداعتهم – حربًا على الغاصبين وكانت بلادهم مقبرة للغزاة. ولذلك جعلها أغسطس تحت إشرافه المباشر، بل أعتبرها ملكًا خاصًا له، فأبعد عنها كل نفوذ مجلس الشيوخ، بل لقد منع أعضاء ذلك المجلس من زيارتها إلا بعد استئذانه. وقد ظل المبدأ مراعيًا حتى بعد موت أغسطس، فقد حدث أن أرسل الإمبراطور طيباريوس ولي عهده جرمانيكوس إلى الشرق لتنظيم بعض ولاياته فلما سمع أنه أنتهز الفرصة وزار مصر عنفه تعنيفًا شديدًا لأنه فعل ذلك دون استئذانه. وبذلك ضمن الإمبراطور سيطرته الكاملة على مصر، وحال دون تطلع أي حاكم روماني إلى الاستقلال بحكمها كما سبق أن أستقل بطليموس بحكمها عن عرش مقدونيا. وقد عين أغسطس نائبًا عنه في مصر من مصر ووارث عرش الفراعنة. وقد امر برسم صورته على الآثار مقرونة بالألقاب الإلهية التي كانت مألوفة في الولايات الرومانية كلها، وعقد لواء قيادتها لحاكم مصر الذي كان مسئولًا أمامه عن كل الشئون العسكرية والإدارية والمالية والقضائية في البلاد، وكان أول حاكم عينه أغسطس لمصر هو كورنيليوس جاللوس.
ولم يكتف أغسطس بالقوة وحدها للسيطرة على سكان مصر، وإنما لجأ كذلك إلى السياسة والدهاء، فطبق المبدأ الخبيث الذي طالما طبقة الغزاة والمستعمرون في كل العصور، وهو مبدأ (فرق تسد) وإذ كان سكان مصر يتألفون من المصريين ومن عدد كبير من اليونان واليهود. ولما كان أغسطس قد أصبح معدودًا ضمن الآلهة في روما وأصبح يتعين على الرومان وسكان الولايات عبادته مع آلهتهم فقد أقام تماثيله في مصر ليعبدها المصريون. وهكذا ظل أولئك البائسون عبيدًا لكل حاكم يحكمهم وعابدين لكل زاعم أنه إله. وفي عهد أغسطس ولد يسوع المسيح في بيت لحم، وهي إحدى مدن اليهودية بفلسطين، وإذ كانت أمه مريم العذراء من مدينة الناصرة إحدى مدن الجليل، وقد ذهبت مع خطيبها يوسف للاكتتاب فجاءها المخاض وولدت أبنها هناك. وقد جاء في الكتاب المقدس أنه (في تلك الأيام صدر امر أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة. وهذا الاكتتاب الأول جري إذ كان كيرينيوس والي سورية، فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد في مدينته، فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعي بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت أبنها البكر) " لوقا 2: 1 – 7 ". وحين علم هيرودس ملك اليهودية بميلاد يسوع من بعض المجوس الذين قالوا له إن هذا الطفل سيكون ملكًا لليهود، تملكه الذعر، وأمر بقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من سنتين فما دون عسى أن يقتل يسوع من بينهم. وحينئذ أخذ يوسف الطفل وأمه وهرب إلي مصر عن طريق صحراء سيناء.

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

         مصطفى نشاط 

تقديم

توصل الضمير العالمي إلى الإعلان عن حقوق الإنسان سنة 1948، بعد مجموعة من المحطات في سبيل إقرار هذا الحق أو ذاك، وصونا لكرامة الإنسان التي تعد من مطالبه الطبيعية. وإذا كانت مسألة حقوق الإنسان قد انتهت إلى"المأسسة" مع ذلك الإعلان، فإن الأصوات الصادحة، والتحركات المنادية بالحفاظ على حقوق الإنسان، لم تنقطع عبر حقب التاريخ. وقد يكون الحق في الحرية من أهم المطالب الطبيعية التي طفت على تاريخ حقوق الإنسان، بما أن كرامته تتأسس في جوهرها على الحرية التي تتوافق وقانون الطبيعة ونواميسها.
ومن هذا المنظور، فقد شكل السجن –خاصة بسبب الاختلاف السياسي- أحد مظاهر مصادرة حرية الإنسان، فالسجن يظل هو السجن، حتى لو كانت قضبانه من فضة، لأنه سالب لقيمة الحرية، ذلك المشترك الذي يجتمع الناس عليه، وتنزع إليه فطرتهم.وإن الدراسة التي نقدمها عن تاريخ السجن والسجناء بالمغرب الوسيط محاولة لرصد الخلفية التاريخية للسجن في المغرب الوسيط باعتباره فضاء مصادرا للحرية، شأنه في ذلك شأن السجن في أي منطقة من المعمور، وفي أية فترة من فترات التاريخ.
وتستمد دراسة السجن والسجناء في مغرب العصر الوسيط أهميتها من ارتباطها الوثيق بالغلبة، ومن كون الغلبة قائمة وقتئذ على العصبية بالمفهوم الخلدوني، والتي كانت مرتبطة بمزاج الحاكم، في غياب أي مؤسسات قانونية تنظم العلاقات بين الحاكم والمحكومين. ولاغرو أن الغلبة بما تقتضيه من امتلاك لوسائل الإخضاع والاستتباع، فضلا عن الدعوة الدينية والتحكم في طرق التجارة بعيدة المدى، كانت الضامن الأساسي لاستمرار الحكم بالمغرب الوسيط. وإن مما له دلالته أن الاسطغرافية المغربية الوسيطية، وخاصة منها كتب التاريخ العام، تطنب في الحديث عن مختلف أشكال العنف، حتى ليبدو أن الإشادة باستعمالها جزء من تمجيد الحكم وانتصاره في دحر خصومه. ويعتبرالسجن أحد وسائل العنف المتداولة بكثرة من لدن العصبيات المتعاقبة على تاريخ المغرب الوسيط في تقليم أظافر من لم يكن منسجما مع توجهاتها. وإذا تحول السجن إلى فضاء مصادر للحرية وتعد على الحياة، بما ينجر عنه من ألم وعناء وخدوش نفسية، فإنه يبقى أكبر شاهد على حضور العنف. ومهما اختلفت فترات ممارسة العنف وأماكنه، فإنه يظل منبوذا لعدم توافقه مع إنسانية الإنسان، وإن حاولت بعض الأدبيات والتأويلات تسويغه وشرعنته.
تسعى هذه الدراسة إلى استقراء فضاء السجن في تاريخ المغرب الوسيط من خلال توطينها بمجموعة من الأسئلة، من قبيل: ما هي الجنح ذات الطابع العام التي كانت ترمي بأصحابها في أتون السجن؟ وما هي أصناف السجناء؟ وهل غلب السجن السياسي على وظيفة السجن؟ وهل ثمة تجليات لأدب السجن بالمغرب الوسيط؟ وما هي مصائر السجناء........ ؟ هذه الأسئلة وغيرها، تم التعامل معها بالتوسل بمنهج تاريخي يقوم على التوثيق، وعلى جمع شتات الإشارات التاريخية المتناثرة بالمظان عن هذا الموضوع.
ولا يمكن إلا أن ننوه بالتفاتة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإدراجه هذه الدراسة ضمن منشوراته، وانفتاحه على الوسط الأكاديمي. كما نثمن مد الجسور بين مؤسسة تعنى بحماية حقوق الإنسان والنهوض بها، ومؤسسة منشغلة بالأسئلة والهموم العلمية، توخيا للمساهمة في تقدم وطننا ورقيه. والله ولي التوفيق.
 
 
للتحميل الكتاب