الاثنين، 13 أغسطس 2012

 كتاب ميغل مرتين :الاستعمار الاسباني في المغرب - (1860-1956)


ميغل مرتين
تقديم الترجمة العربية
يغطي هذا الكتاب حاجة فكرية وتاريخية للكشف عن مختلف مظاهر ووقائع الاحتلال الاستعماري للوطن العربي، خاصة منه ذلك الذي اتخذ شكلا استيطانيا إلحاقيا للمناطق المحتلة بالمركز الاستعماري.
والكتاب هذا –الذي نقدمه للقارئ- يُعتبر أحد أهم المصادر التاريخية التي حللت آليات أشكال السيطرة الاسبانية على منطقة شمال المغرب، ورسمت بدقة ونزاهة مختلف مظاهر المقاومة الشعبية المغربية التي تصدت للتدخل الاستعماري الاسباني. وتحظى الثورة الريفية، بزعامة البطل الوطني محمد بن عبد الكريم الخطابي، باهتمام خاص من طرف الكاتب، اعتبارا لدورها الطلائعي في مقاومة الاستعمار خلال العشرينات، ونظرا للانعكاسات التي كانت لها على مجرى الصراعات الاجتماعية والسياسية في اسبانيا.
كما يستمد كتاب لوبيس أڭودين (LOPEZ AGUDIN) (1) أهميته أيضا من كونه يؤرخ لمرحلة حاسمة من التاريخ الحديث للمغرب، مرحلة غزو واحتلال الاستعمار الاسباني لشمال البلاد وجنوبها... وبذلك يسدّ ثغرة هامة لأن مناطق الحماية الاسبانية لم تحظ بعد، من حيث دراستها التاريخية، بالاهتمام الضروري، إن لم نقل انها مازالت «مهملة» بالمقارنة مع ما حظيت به منطقة الحماية الفرنسية من دراسات وتحاليل تاريخية.
وبعيدا عن الايدولوجيا الاستعمارية، بمختلف تلاوينها، ومن منطلق تقدّمي معادٍ للاستعمار، يُحلل الكاتب العلاقات المغربية الاسبانية على امتداد مرحلة غير قصيرة. وبالرغم من انتمائه للحزب الشيوعي الاسباني، ينتقد الكاتب وبشكل لاذع، (2) مواقف وممارسات اليسار الاسباني عموما والحزب الشيوعي بشكل خاص، إزاء «المسألة المغربية».
ويحاول الكاتب، من زاوية غير تبريرية، تفسير أسباب انغماس اليسار الاسباني، بعد عقد العشرينات، في سياسة استعمارية وشوفينية لا تختلف في الكثير من جوانبها عن السياسة الامبريالية للبرجوازية الاسبانية. وفي نفس الوقت الذي يُحلل فيه الكاتب بعض الخصائص المميزة للامبريالية الاسبانية «القزمة»، يُحاول ربط ممارسات اليسار –خصوصا في مرحلة «الجبهة الشعبية»- بالأوضاع السياسية وتفسيرها على ضوء تلك الأوضاع، وبارتباط مع السياسة الامبريالية الدول العظمى.
بيد أن ما يزيد من أهمية الكتاب –فضلا عن مادته التاريخية الثرية- هو ظرفية النضال اليومي لسكان سبتة ومليلية المغاربة. ذلك النضال الذي أعاد طرح موضوع احتلال اسبانيا لجزء من المناطق الوطنية بوصفه موضوعا راهنا، وهو الذي حدا بنا إلى نشر هذا الكتاب الذي سبق أن ترجمناه قبل هذا التاريخ بتسع سنوات.
ففي خمسة فصول: التقسيم، الاحتلال، التهدئة I والتهدئة II والجلاء بالإضافة إلى تقديم وخاتمة، يطرح الكاتب مجموعة من القضايا الهامة، سيما في مجال طبيعة السياسة الاستعمارية في المغرب، لتبيان الآليات التي وظّفتها الامبريالية الاسبانية للسيطرة على المجتمع المغربي.
وبالرغم من بعض الأخطاء التي يتضمنها الكتاب، وهي أخطاء عملنا على تصحيحها، اعتبرنا من المفيد وضع هذه الترجمة بين يدي القارئ العربي مُساهمة في التعريف ببعض جوانب تاريخ بلادنا التي ما زالت، ولأسباب سياسية واضحة، في طي الكتمان. فعسَاه أن يكون مساهمة في تقديم مادة تاريخية عن الاحتلال الاسباني لمناطقنا، وعساه –بما قدم من معلومات عن كفاح الجماهير المغربية ضد الاستعمار- أن يكون إنصافا لأجداد يستمر أحفادهم في مقاومة الاحتلال وسياسة الأسبنة والإلحاق ومصادرة الشخصية الوطنية.
ولقد عمدنا إلى حذف خاتمة الكتاب نظرا لكونها أصبحت متجاوزة تاريخيا، فبالإضافة إلى أنها تُشكل نشازا بالنسبة إلى مجموع المؤلَّف كذّب التطور التاريخي الفعلي لمنطقة المغرب العربي حل التكهنات السياسية للكاتب.
مقدمة
لم يجد الاستعمار الاسباني مؤرخه بعد، والمدهش هو أن الأبحاث التاريخية تركت جانبا الممارسات الاستعمارية وركزت على الآثار التي خلفتها أحداث المستعمرات -1898 في كوبا و1921 في المغرب- في شبه الجزيرة... ففي أقصى الأحوال تُخصص فقرة أو فصل للإشارة، بشكل عابر لمميزات الامبريالية الاسبانية. والاستثناءات النادرة، التي تثبت قاعدة الصمت، لا تتعدى ملحوظات سريعة حول المشكل الكوبي. ولعل الارتجاج الذي أحدثه فقدان كوبا في أوساط المثقفين يُفسر هذا الاهتمام الضئيل. وبالرغم من أن دوره كان أكثر حسما من البلد الأنتيلي (نسبة إلى جزر الأنتيل les Antilles (المترجم)) في التاريخ الحديث لبلادنا، فلا زال المغرب، مع ذلك، في قعر دور الأرشيف.
ليس ثمة دراسة واحدة تتطرق للاستعمار الاسباني في منطقة شمال المغرب. فمن منظور استعماري توجد مواد مطبوعة تفتقر إلى كل دقة، وتنحصر في التغني بـ«المآثر الاستعمارية» وسرد المعارك بشكل يصبح معه أي شبه مع الواقع، من قبيل الصدفة المحض. أما داخل المعسكر الماركسي، فلا يوجد ولو منشور أو مقالة حتى من النوع الرديء. وذلك ما يفسر جزئيا كبح ولُبس اليسار إزاء المسألة الاستعمارية، لأن «ما العمل؟» ظل بدون أساس ولا جواب ما دامت المسألة الاستعمارية غير مُستوعَبة نظريا.
إن الصفحات التالية لا تطمح لأن تكون سوى مسودة، تلخيص وتفكير مقتضب في إشكالية الاستعمار الاسباني في المغرب. ففي خمسة أجزاء: التقسيم، الاحتلال، التهدئة (I وII) ثم الجلاء، نحاول وصف الآلية السياسية والعسكرية التي أبقت بواسطتها اسبانيا على الشعب المغربي تحت نير الاضطهاد الاستعماري.
ويمكن تلخيص المسألة على الشكل التالي: وجدت اسبانيا نفسها في مواجهة مجتمع منظم، له حضارته الخاصة ويمتاز –رغم تخلف مستوى تطوره- بحبه للحرية وتعلقه بالأرض وانسجامه وحسه الوطني، وهي خصال ظلت راسخة على امتداد حرب الاحتلال. وهذا المجتمع الذي تعرضت أطره ونخبته القيمة للتصفية لتستبدل بإقطاعات سلطوية مرتزقة، والذي كان، فضلا عن ذلك، عرضة للتخريب الشامل والتفقير، وعانى منذ الثلاثينات، من محاولات التفتيب، هذا المجتمع قد نجح في استرجاع استقلاله، في خضم موجة تصفية الاستعمار التي أثارتها نتائج الحرب العالمية الثانية.
وبارتباط مع هذا، يتعلق الأمر ببيان كيف أن الطبقة العاملة الاسبانية التي كانت تعارض الاستعمار بحزم حينما كان آلاف الاسبانيين يسقطون في الريف، لم تعرف كيف تقدر ذلك الحليف القوي الذي كانت تمثله الحركة الوطنية المغربية حق قدره. فعبر هذه الأخيرة كان نضال الطبقة العاملة الاسبانية يرتبط بحركة تحرير الشعوب العربية قاطبة، والشعوب المستعمرة الأخرى. إن سوء الفهم والمواقف الخاطئة التي كانت منتشرة في صفوف الطبقات الكادحة والأحزاب التي تمثلها، بفعل تأثير الايدولوجيا الاستعمارية، أدى إلى عدم إدراك ضرورة وضع حد للمغامرة الاستعمارية، ليس بدافع الواجب الأخلاقي –الأممية البروليتارية- إزاء الشعوب المضطهدة من طرف الدولة الاسبانية، وإنما فوق ذلك، وبالخصوص، لأنه السبيل الوحيد الملائم للمصالح الوطنية الاسبانية ولمصلحة التطور الديمقراطي. ذلك أن الاستعمار ساهم بقسط وافر في توليد القوى الفاشية المعادية للديمقراطية. وبعد سنة من اندلاع حربنا الأهلية، كان السكان الموجودون تحت نظام فرانكو FRANCO أكثر عددا من السكان التابعين لحكومة مدريد مع تساوي عدد الجيوش تقريبا. وكما يعرف ذلك كل احترابي مقهى، فان من يوجد سكان معادون له خلف جيشه لا يمكنه الإبقاء على جيشه في ميدان القتال إلا إذا توفر على جيش آخر، لا يقل عددا عن الأول، يقوم بحراسة المواصلات ويحول دون قيام أعمال التخريب ويقاوم حرب العصابات. ومن الواضح إذن، أنه لم تكن هناك أية حركة جماهيرية فعلية في مؤخرة جيش فرانكو. والحالة الأكثر دلالة في هذا الصدد هي المغرب: لماذا لم يقع أي تمرد في المغرب؟ إن الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أنه لم يبذل أدنى مجهود لتحقيقه، لأن ذلك كان يعني تحويل الحرب ثوريا.
إن اقتناع المغاربة كان يقتضي إعلان استقلال المغرب. لكن، وقعت التضحية بأحسن فرصة إستراتيجية في الحرب لفائدة مصالح الدول العظمى وبدافع الأمل الوهمي في إرضاء الامبريالية الانجلو-فرنسية. رُب معترض، يعتقد أنه من سوء الذوق إثارة هذا الجانب من تاريخ البروليتاريا الاسبانية، على أساس الظن أن هناك حقائق يجب أن تبقى، أبدا، في طي الكتمان. لكن، أليس كارل ماركس هو القائل إن الحياء شعور ثوري؟ على كل حال، ليس في الأحكام فظاظة بالنسبة لأحد. والرجال بنجاحاتهم وأخطائهم ماضون، والوقائع باقية، ومنها تغذي الشعوب تجربتها وتَرشُد لمواجهة وحل مشاكلها بصعوبات أقل.
لربما كان من الضروري إضافة بعض الإحصائيات حول ما يسميه المستعمرون «العمل التمديني الاسباني في المغرب»، غير أن ذلك مستحيل لانعدام هذه الإحصائيات. وهي منعدمة لأن اسبانيا لم تفعل شيئا. ففي سنة 1956، عندما طُرد الاستعمار الاسباني، كانت نسبة الأميين أعلى، منها في سنة 1912 حيث فاقت 95% من السكان المسلمين. ولم تتجاوز آخر ميزانية للتعليم سنة 1955 إحدى وعشرين ألفا ومائة وثمان عشرة بسيطة. وكان عدد الدارسين في صف الباكالوريا يبلغ 21 فقط من المغاربة، أبناء الأسياد الإقطاعيين الذين كانوا يتعاملون مع مضطهدي شعبهم. ويكفي القول إنه بعد قرابة نصف قرن من الحماية، لم يكن هناك أكثر من 28 طبيبا مغربيا في المنطقتين وكان بالإمكان عَدُّ المستشفيات في المنطقة الاسبانية على أصابع اليد الواحدة. وكانت تصدر 11 جريدة ثلاث منها في اقل من 10000 نسخة والعشر الباقية لا تبلغ الألف نسخة. وتَجَسد المجهود الأكبر في إقامة 38 ميدانا رياضيا و29 قاعة للعرض السينمائي و60 كنيسة كاثوليكية وأربعين معبدا يهوديا. وحصيلة مجمل هذه الوضعية الاستعمارية، هي وجود 16869 مغربيا، أعمار 4000 منهم دون 18 سنة. من مجموع 17500 سجين يقضون عقوبات في السجون الاسبانية. وأزيد من 5000 عامل عربي كانوا ضحية قرابة 7000 حادثة من حوادث الشغل اليومية. الأمر الذي جعل المنظرين الاستعماريين يطرحون موضوعات عنصرية حول النزعة الإجرامية والعجز الفطري للسكان المحليين.
وكان من المناسب أيضا، القيام بتحليل [الحركة] الوطنية المغربية يتطرق لمختلف مراحل تطورها: انتفاضات فلاحية، تحريض وسط جماهير البرجوازية الصغيرة في المدن التقليدية العتيقة، وانخراط الطبقة العاملة في النضال، كل هذا تمخض عن استقلال صوري محض ذي مضمون إقطاعي. وذلك لأن المراحل الأخيرة من التحرير تم الوصول إليها بتعاون مع المستعمرين أكثر مما كانت نتيجة الانتصار عليهم. غير أن ذلك [التحليل] يتطلب عملا جديدا مخصصا للتعمق في تناقضات حركة التحرير الوطني المغربية، والمسألة معقدّة بما فيه الكفاية وتكتسي أهمية كبرى بحيث لا يمكن تقديمها في بضعة سطور. من هنا يأتي تفضيلنا في كل لحظة تقديم بعض السمات العامة التي تؤطر النشاط الاستعماري، بدلا من تحليل إشكالية الأحزاب الوطنية.
وليس من قبيل الكلام الزائد، التنبيه إلى أن المحاولة محشوة بالشكوك، وان كثيرا من وجهات النظر قابلة للنقاش بما فيه الكفاية. بعض الصفحات فيها مجازفة، بينما أخرى مفرطة في الوجل: لا يمكن إعادة ملء فراغ تاريخي بين عشية وضحاها، وإن الظرف الحالي الذي تجتازه الحركة العمالية والثورية يتطلب باستعجال تسليط الأضواء على النقط المجهولة مثل الموضوع الذي نحن بصدده، وكذا على المظاهر المعروفة من التاريخ الحديث للبروليتاريا الاسبانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق